فرض الله الزكاة في جميع الأموال على اختلافها وتنوعها، فعندنا زكاة الثروة الحيوانية ( الغنم والماعز والبقر والجواميس والإبل) وعندنا زكاة الثروة الزراعية ( ما تخرجه الأرض من ثمار وزروع وفواكه) وعندنا زكاة المنتجات الحيوانية ( العسل واللبن) وعندنا زكاة الثروة المعدنية ( الركاز والبترول…) وعندنا زكاة الثروة البحرية ( الأسماك بأنواعها وما يخرج من البحار من لؤلؤ وعنبر)، وعندنا زكاة الثروة النقدية والذهب والفضة، وعندنا زكاة التجارة (المنتجات الصناعية التي يتوسط التجار في بيعها بين الصانع والمستهلك).
الحكمة في إخراج الزكاة من جنس الوعاء الزكوي
ويذكر الفقهاء هنا أن الزكاة تخرج من جنس المال المزكَّى في جميع أنواع هذه الأموال السابقة إلا في زكاة التجارة، فالمطلوب من التاجر أن يُخرج الزكاة نقدا، ومثلها: زكاة الحلي.
فكان من جوانب الحكمة التي تكشفت في ذلك أن يحصل الفقير على أنواع هذه الأموال المتعددة ، فالفلاح وأصحاب المزارع والبساتين يخرجون من جنس ما يزرعون، فيحصل الفقير على ما يحتاج إليه من الطعام، مثل الأرز والقمح والذرة والخضروات والفواكه.
وصاحب الماشية بأنواعها يخرج منها فيحصل الفقير على اللحم الذي يصيبه الغني نفسه، وصاحب النقد السائل، ومثله التاجر يخرج نقدًا، فيحصل الفقير على النقد فيشتري به ما لم توفره له أنواع الزكاة الأخرى من الثياب والدواء ونحو ذلك، والمقصود أن أصل مبدأ توزيع الزكاة على الأموال كاف في تحصيل أنواع الأموال التي يحتاج إليها الفقير.
تقييم الزكاة بالنقود
لكن بعض الجمعيات الخيرية، والأفراد الذين يقومون بالعمل الخيري، كثيرا ما يسألون عن تحويل النقود التي يجمعونها من الأغنياء إلى سلع وبضائع وملابس، متعللين بأن ذلك أنفع للفقير.
وتقوم بعض الجمعيات الخيرية بتقديم الزكاة للفقراء على هيئة شنط تجمع بعض المواد الغذائية التي يحتاجها الفقير بخاصة في رمضان، مثل الزيت والسكر والأرز والسمن .
فإذا سألنا هذه الجمعيات : لماذا لا تعطون النقود للفقراء في أيديهم يشترون ما يحتاجون إليه، بدلًا من أن تنوبوا عنهم في تحديد احتياجاتهم؟ أجابوا : أن هذا أنفع للفقير!
فإذا دارت الأيام دورتها، واقترب شهر رمضان من الرحيل، وجاء موعد زكاة الفطر، استاءت هذه الجمعيات ذاتها من قبول صدقات الفطر من الطعام، وقالت : النقود أنفع للفقير!
الافتئات على الفقير
لكن أين قرار الفقير ؟ وأين حريته في الاختيار والتحديد؟ لماذا ننوب عنه نحن في تحديد احتياجاته؟ هل فقد الفقير حقه في الاختيار بسبب فقره ومسكنته؟ لماذا هذا التعسف في توزيع المال من قبل الوسطاء؟ لماذا هذا الافتيات على حق الفقير في الاختيار!
وأنا هنا لا أتحدث عن الحكم الفقهي في إخراج القيمة؛ فالفقهاء مختلفون في مدى جواز إخراج القيمة، ولعل أعدل هذه الأقوال وأرجحها هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن ذلك مرهون بمصلحة الفقير نفسه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
الأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة، ممنوع منه، ولهذا قدر النبي -ﷺ- الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقًا، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه، وأما إخراج القيمة للحاجة أو للمصلحة، أو العدل، فلا بأس به: مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عُشر الدراهم يجزئه، ولا يُكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك.
ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يُكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة.
ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع، فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أنها أنفع للفقراء، كما نُقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: “ائتوني بخميس أو لبيس، أيسر عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار”، وهذا قد قيل: إنه قاله في الزكاة، وقيل في الجزية” [1]
كما أننا هنا لا نتهم الجمعيات الخيرية ووسطاء الخير في نياتهم، فقط نحب أن ننبههم إلى أن الفقير ليس شخصًا محجورًا على فكره وحريته واختياره، ويمكننا أن نرسم هنا بعض الملامح العامة التي تفرق بين الإنابة المقبولة والإنابة المرفوضة:
– إذا كان الذي يقوم بإعداد شنظة رمضان هو التاجر المزكي نفسه، كأصحاب المحلات الكبرى، فلا بأس بذلك، بشرط أن لا يختار أردأ الأطعمة أو الملابس التي عنده، أو أقلها رواجًا، وأقربها للكساد، فيكون انتفع من الزكاة لنفسه على حساب مصلحة الفقير، قال تعالى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].
كما يشترط أن يقوِّم الطعام بسعر الجملة حتى لا يربح من الزكاة كذلك، ولا بد من توافر الشرط العام، وهو أن يكون الفقير أحوج إلى الطعام منه إلى النقد.
مصلحة الفقير
-إذا كان الذي يقوم بإعداد الشنطة العاملون على الزكاة من الجمعيات الخيرية، ورجال البر والخير، فالأصل أنهم يوزعون على الفقراء ما يجمعون دون أن يستبدلوه بغيره ، فإذا جمعوا نقدًا وزعوه نقدًا ، وإذا جمعوا طعاما وزعوه طعاما، ولا بأس باستبدال ما يجمعون- كأن يشتروا بالنقد محتويات شنطة رمضان، أو ملابس دراسية- بشرط أن يكون الفقير أحوج إليها.
ويتصور ذلك مثلا بأنهم قد يكونون أقدر على الشراء بثمن الجملة دون الفقير، أو ينوون بذلك راحة الفقير من الدوران على أصحاب المحال لشراء الأطعمة والملابس، أو كانوا يعرفون عن شخص معين أنه ربما أهلك المال في غير مصلحة أهله، كشرب الدخان ونحوه من أنواع الإسراف ، فيعمدون إلى تقديم سلع غذائيه وملابس لأسرته حماية لهم من قرصنته، فهذه كلها مسوغات شرعية مقبولة- إن شاء الله- في تبديل الشنط بالنقود- أي يشترون بالنقود محتويات هذه الشنط-.
توزيع النقود هو الأصل
على أن يبقى هذا الاستبدال هو الفرع لا الأصل، والاستثناء لا القاعدة، لأننا لا نحب للعامل على الزكاة ولا للغني أن يحجر على شخصية الفقير فيأخذ له قراره بأن يطعمه أرزا أو مكرونة أو زيتا ، فالفقير أولى بحاجته، وأدرى بأولوياتها، وربما استطاع توفير الطعام أو صبر على فقده، لكنه لا يصبر على فقد أجرة البيت ، أو ثمن الدواء، أو دفع فاتورة الماء أو الكهرباء أو غير ذلك، والزكاة مال الفقير ، ولسنا أوصياء عليه فليصنع بها ما يشاء متى كان حلالا، ولم يقل أحد من علمائنا ولن يقول يوما : إن الفقر والمسكنة من أسباب الحجر على الناس.
[1] – مجموع الفتاوى (25/ 83)