من الظواهر العلمية التي أساء بعض الناس فهمها، ظاهرة التراجعات الفقهية، أو تعديل المفتي فتواه، وتغييره إياها.
وهي ظاهرة قديمة تعود إلى العصر النبوي، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة قال: قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم . فلما أدبر ناداه فقال: نعم إلا الدين؛ كذلك قال جبريل . رواه مسلم.
فقد أفتى النبي ﷺ الرجلَ أوَّلا أن الشهادة في سبيل الله تكفر جميع الخطايا، ثم نزل جبريل وصحح للنبي ﷺ أنها تكفر كل شيء إلا الدَّين، فنادى النبي ﷺ الرجل، فعدّل فتواه.
واستمر ذلك في عهد الصحابة، من ذلك ما جاء عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في امرأة توفيت، وتركت زوجها، وأمها، وإخوتها لأبيها، وأمها، وإخوتها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال عمر: “تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم”[رواه البيهقي في “السنن الكبرى” (10/ 120) بإسناد صحيح].
فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني.
أصحاب المذاهب الأربعة يتراجعون
عن عبد الرحمن بن وهب، قال: سمعت عمي، يقول: سمعت مالكا يسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: يا أبا عبد الله، سمعتك تفتي في مسألة تخليل أصابع الرجلين، زعمت أن ليس ذلك على الناس، وعندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ فقلت: ثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي، قال: ” رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه “. فقال: إن هذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته يسأل بعد ذلك، فأمر بتخليل الأصابع. [البيهقي في السنن حديث رقم: 361.].
– الإمام أبو حنيفة وأصحابه
تراجع الإمام أبو حنيفة عن أكثر من مسألة، حتى وُضعت أطروحات علمية في بعض ما تراجع عنه. ولما التقى أبو يوسف الإمام مالكا في المدينة، سأله عن سبب خلافه لأبي حنيفة في قدر الصاع والمُدِّ، فأمر مالك أهل المدينة بإحضار صيعانهم ، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم ، فقال مالك لأبي يوسف : أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون ، قال مالك : فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا بأرطالكـم يا أهل العراق ، فقال أبو يوسف : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كـما رجعت .
والإمام الشافعي في هذا لا يحتاج إلى ذكر مثال له، فنظرة عابرة إلى كتب الشافعية تجد فيها كثيرا من المسائل التي يقولون فيها : قوله في القديم كذا، وقوله في الجديد كذا.
– الإمام أحمد
جاء في المغني أن علي بن سعيد الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل عن صلاة التسابيح؟ فقال: ما يصح فيها عندي شيء. فقلت: عبد الله بن عمرو؟ قال: كل يرويه عن عمرو بن مالك – يعني فيه مقال -.
فقلت: قد رواه المستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء. قال: من حدثك؟ قلت: مسلم – يعني ابن ابراهيم – فقال: المستمر شيخ ثقة. وكانه أعجبه.
قال ابن حجر العسقلاني في أماليه: «فكأن أحمد لم يبلغه ذلك أولاً إلا من حديث عمرو بن مالك – وهو النكرى -، فلما بلغته متابعة المستمر أعجبه، فظاهره أنه رجع عن تضعيفه». اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/43).
ومما يعزى لشيخ الإسلام ابن تيمية تراجعه عن توقيت المسح على الخفين بأربع وعشرين ساعة للمقيم ، وثلاثة أيام للمسافر، فرأى أخيرا أنه لا توقيت في حالة الضرورة والحاجة؛، فقد قال : ” لما ذهبت على البريد وجد بنا السير وقد انقضت مدة المسح فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة . [مجموع الفتاوى (21/ 215)]
مراجعات العلماء المعاصرين
– الألباني: ممن عُرِف في عصرنا بكثرة مراجعاته العلمية، الشيخ الألباني – رحمه الله- فقد كثرت مراجعاته في حكمه على عدد من الأحاديث، كان يضعفها في أول حياته، ثم استجد له من العلم ما حمله على تغيير اجتهاده، فصححها، أو العكس، وكثيرا ما تغير الحكم الفقهي تبعا لتغير الحكم على الحديث.
– شعيب الأرنؤوط: وليس هذا الأمر حكرا على الشيخ الالباني وحده، فقد حدث هذا أيضا مع الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره.
ومن أمثلة المراجعات عند الشيخ شعيب الأرنؤوط، حديث: ” بعثت بين يدي الساعة بالسيف”، فله تخريجان للحديث: قديم وحديث.
فأما القديم ففي تخريج أحاديث (زاد المعاد) وفيه حكم على الحديث أنه حسن. وأما الجديد، ففي تخريجه للمسند، وفيه حكم على الحديث أنه ضعيف.
ويعلل الشيخ القرضاوي هذا التراجع بقوله : ” في تخريجه للمسند أصبح أكثر نضجًا واستقلالاً من ناحية، وغدا يشاركه خمسة آخرون من العلماء، فهو عمل جماعي له قيمته.
– القرضاوي: وإذا كان ما سبق في المراجعات الحديثية ، فقد حدث أيضا التراجع مع الفقهاء المعاصرين، فللشيخ القرضاوي مثلا فتويان في حكم دخول الكنيست، أولاها بالجواز، وأخراها بالمنع والتحريم. ومما ذكره في الفتوى الأخيرة : ” ولكن الذي تبين لي، بعد تقليب أوجه النظر، وتعميق البحث في القضية، والنظر في ملابساتها المختلفة: أن الموقف الصحيح ـ من الوجهة الشرعية ـ يقتضي رفض الدخول في برلمان العدو الصهيوني (الكنيست) لما يوحي به ذلك من اعتراف ضمني بحقهم في الوجود، أو البقاء على الأرض المغتصبة.”
– ابن العثيمين: وتراجع عن عدد من المسائل، من ذلك : تحية المسجد:
فقد قال : كنت أقول بوجوب تحية المسجد؛ لكني بعد ذلك ترجح عندي عدم الوجوب،ومع هذا لو أن أحداً قال بالوجوب فإننا لا نعنفه ولا ننكر عليه.
ومن ذلك : جلسة الاستراحة، فقد قال : إن احتاجَ الإنسانُ إليها صارت مشروعة لغيرها للراحة وعدم المشقَّة، وإن لم يحتج إليها فليست بمشروعة. وكنت أميلُ إلى أنها مستحبَّة على الإطلاق وأن الإنسان ينبغي أن يجلس، وكنت أفعلُ ذلك أيضاً بعد أن كنت إماماً، ولكن تبيَّن لي بعد التأمل الطويل أن هذا القول المفصَّل قول وسط، وأنه أرجح من القول بالاستحباب مطلقاً، وإن كان الرُّجحان فيه ليس قوياً عندي، لكن تميل إليه نفسي أكثر، فاعتمدت ذلك.
المجامع الفقهية
ولم تقتصر التراجعات على الاجتهادات الفردية، بل طال ذلك المجامع الفقهية؛ فقد تراجع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عن فتوى له بشأن ميلاد الشهر الهجري، فقد نظر المجلس موضوع ميلاد الشهر الهجري في دورته السابعة عشرة، وقرر فيها الاعتماد في دخول الشهر على الحساب الفلكي، معتبرا أن لحظة القران -وهي ظاهرة فلكية- تعني بالضرورة ميلاد الشهر.
ثم عاد في دورته التاسعة عشرة لمناقشة هذا الموضوع، وبعد مزيد من النظر والدراسة عدل عن هذا القرار ليشترط أن تكون ثمة إمكانية لرؤية الهلال بالعين المجردة أو بالاستعانة بآلات الرصد في أي موقع على سطح الأرض.