التسامح والمساواة في الحضارة الإسلامية : إن تسامح المسلمين مع غيرهم، ومبدأ المساواة بين المسلمين أنفسهم حبب شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام، وتعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم وإتقانها، فقد انتشر الإسلام في بقاع الأرض المختلفة انتشارًا سريعا، واعتنقته شعوب بأكملها من قوميات متعددة في مشارق الأرض ومغاربها، وكان لهذا الانتشار السريع والسهل أسباب عديدة، فالإسلام هو الدين الموافق للفطرة والمتفق مع العقل والملبي لحاجات الإنسان الروحية والمادية، الفردية والجماعية، ثم هو دين الشمول والتوازن والتكامل والتناسق، وهو دين الوسطية والاعتدال كما أنه دين التسامح والمساواة، إنساني النزعة، ليس بدين عنصري ولا إقليمي ولا طائفي، بل هو دين عالمي إنساني ولاعجب.
إن أول آية في القرآن الكريم بعد البسملة هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (الفاتحة: 2)، وآخر سورة منه هي سورة الناس، إذن فآيات القرآن الكريم وسوره بدأت بالحديث عن عالمية هذا الدين، وانتهت بالحديث عن إنسانيته، ولذا فإنه من المستحيل حصر الإسلام في قومية أو جنس أو وطن، وفيما يلي عرض لمبدأين كان لهما أثر كبير في انتشار الإسلام، وهذان المبدآن هما:
- أولا مبدأ التسامح في الإسلام
- ثانيا: مبدأ المساواة بين المسلمين.
أولا: مبدأ التسامح في الإسلام
إن التسامح من أهم جوانب النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية، فقد أنشأ الإسلام حضارتنا فلم يضق ذرعا بالأديان السابقة، ولم يتعصب دون الآراء والمذاهب المتعددة، بل كان شعاره { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } (الزمر17، 18)، ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في التسامح الديني:
- الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13)
- الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.( البقرة: 136)
- العقيدة لا يمكن الإكراه عليها بل لابد فيها من الاقتناع {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
- الاختلاف في الأديان لا يحول دون البر والصلة والضيافة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (المائدة: 4)
- اختلاف الناس في أديانهم لا يمنع من الحوار الهادف إلى معرفة الحقيقة، فلهم أن يجادل بعضهم بعضا فيها بالحسنى، وفي حدود الأدب والحجة والإقناع: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، ولا تجوز البذاءة مع المخالفين، ولا سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.( الأنعام: 108)
- إذا اعتدي على الأمة في عقيدتها، وجب رد العدوان لحماية العقيدة ودرء الفتنة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193)، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُم} (الممتحنة: 9).
- إذا انتصرت الأمة على من اعتدى عليها في الدين، أو أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم، أو اضطهادهم في عقائدهم وحسبهم أن يعترفوا بسلطان الدولة ويقيموا على الإخلاص لها حتى يكون لهم مالنا وعليهم ما علينا.
هذه هي مبادئ التسامح الديني في الإسلام الذي قامت عليه حضارتنا، وهي توجب على المسلم أن يؤمن بأنبياء الله ورسله جميعا، وألا يتعرض لأتباعهم بسوء، يلين القول، يحسن جوارهم ويقبل ضيافتهم، وله أن يصاهرهم مع ما في ذلك من اختلاط للأسر، وامتزاج للدماء، وأوجب الأسلام على الدولة المسلمة أن تحمي أماكن عبادتهم وألا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم وحياتهم كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم.
وعلى هذه الأسس قامت حضارتنا، وبها رأت الدنيا لأول مرة دينا ينشئ حضارة فلا يتعصب على غيره من الأديان، ولا يطرد غير المؤمنين به من مجال العمل الاجتماعي والمنزلة الاجتماعية، وظل التسامح شرعة الحضارة الإسلامية منذ وضع أساسها رسول الله ﷺ، حتى أخذت في الانهيار، فضاعت المبادئ ونسيت الأوامر، وجهل الناس دينهم، فابتعدوا عن هذا التسامح الديني العظيم.
من صور التسامح في حياة الرسول ﷺ
لما هاجر رسول الله -ﷺ- إلى المدينة وفيها من اليهود عدد كبير، كان من أول ما عمله من شئون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقا تحترم فيه عقائدهم وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى عنهم، ويكونون مع المسلمين يدًا واحدة على من يقصد المدينة بسوء، فطبق بذلك رسول الله -ﷺ- مبادئ التسامح الديني في البذور الأولى للحضارة الإسلامية. وكان للرسول -ﷺ- جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببرة ويهديهم الهدايا ويتقبل منهم هداياهم، حتى أن امرأة يهودية دست له السم في ذراع شاة أهدتها إليه لما كان من عبادته أن يتقبل هديتهم ويحسن جوارهم، ولما جاء وفد نصارى الحبشة أنزلهم رسول الله -ﷺ- في المسجد وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: “إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين فأحب أن أكرمهم بنفسي”.
وجاء مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله -ﷺ- والمسلمون يصلون في جانب آخر، ولما أرادوا أن يناقشوا الرسول في الدفاع عن دينهم، استمع إليهم وجادلهم، كل ذلك برفق وأدب وسماحة خلق، وقبل الرسول من المقوقس هديته، وقبل منه جارية أرسلها إليه، وتسرى بها رسول الله -ﷺ- وولدت له إبراهيم الذي لم يعمر إلا أشهرًا قليلة، ومن وصاياه للمسملين: “استوصوا بالقبط فإن لكم فيهم نسبا وصهرا” (1).
من صور التسامح في حياة الصحابة رضي الله عنهم، على هدي الرسول -ﷺ- في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار صحابته من بعده: فها هو عمر )ت 23هـ(، رضي الله عنه، حين يدخل بيت المقدس فاتحا يجيب سكانها إلى ما اشترطوه، من ألا يساكنهم فيها يهودي، وتحين صلاة العصر وهو داخل كنيسة القدس الكبرى، فيأبى أن يصلي فيها كي لا يتخذها المسلمون من بعد ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجدا.
ونجده وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص (ت 43هـ )، رضي الله عنه، قد أدخل دارها في المسجد كرها عنها، فيسأل عمرا عن ذلك، فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترض، مما اضطر عمرا إلي هدم دارها وإدخالها في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال تأخذه متى شاءت، ومع أن هذا مما تبيحه قوانيننا الحاضرة وهي حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع، فإن عمر لم يرض ذلك وأمر عمرا أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المسيحية دارها كما كانت.
هذه هي الروح المتسامحة التي سادت المجتمع الذي أظلته حضارتنا بمبادئها، فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلا في تاريخ العصور حتى في العصر الحديث.
وبعد، فإن التسامح الديني في حضارتنا مما لا يعهد له مثيل في تاريخ العصور الماضية، وقد أجمع المؤرخون الغربيون ممن يحترمون الحق على هذا التسامح وأشادوا به.
يقول المؤرخ الشهير المعاصر ولز في صدد بحثه عن تعاليم الإسلام: إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما إنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها … إلى أن يقول عن الإسلام: إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة.
ويقول أرنولد وهو يتحدث عن المذاهب الدينية بين الطوائف المسيحية: ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرمت مثل هذه الأعمال التي تنطوي على الظلم، بل كان المسلمون على خلاف غيرهم إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهدا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس، مثال ذلك: أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيرا إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكهم لها، وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة التصديق.
وأن قول غوستاف لوبون: إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم هو إنصاف للحق قبل أن يكون إنصافا للمسلمين (2).
ثانيا: مبدأ المساواة بين المسلمين
وهذا جانب آخر من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، ذلك هو تقرير المساواة حقا بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم، فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، وقف الرسول -ﷺ- في حجة الوداع ليعلن في خطابه النبوي: “أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى” (3).
ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي لا يلفت نظرا، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله -عز وجل- والخشوع بين يديه، ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجا في وقوف الأسود بجانبه، ونفذت في الحج حيث تلتقي العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد بثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود أو استعلاء من البيض على السود، بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر رسول الله -ﷺ- بلالا الحبشي (ت 20هـ)، رضي الله عنه، يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملون كبلال؟ وكيف يطؤها بقدميه؟ إن مثل هذا أو قريبا منه لا يتصور في الحضارة الحديثة، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرنا، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلانا لكرامة الإنسان على كل شيء، وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فلا يقدم الإنسان بياضه إذا أخره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.
ولذلك لم يرض رسول الله -ﷺ- لأبي ذر (ت 32هـ)، رضي الله عنه، وهو من أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له: يابن السوداء، لم يرض منه ذلك بل قرعه، وقال له: “أعيرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية” (متفق عليه)، وهذا حد فاصل بين العلم والجهل، وبين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية.إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق، ولا لون على لون هي الحضارة الإسلامية، التي يسعد بها الإنسان بل وتسعد بها الإنسانية كلها، أما الحضارة التي يعلو فيها الأبيض ويمتهن الأسود، ويسعد بها ذوو البشرة البيضاء ويشقى بها الملونون فهي الحضارة الجاهلية التي ترتد بها الإنسانية إلى الوراء مئات القرون، عمياء متكبرة جاهلية حمقاء، “إنك امرؤ فيك جاهلية”، هذا وصف للحضارة الجاهلية التي تنادي بالتمييز العنصري، وهو ما كافحته حضارتنا في كل ميادين الحياة، في المسجد والمدرسة والمحكمة والقيادة، مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
لما جاء المسملون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن بابليون، رغب المقوقس في المفاوضة مع المسلمين فأرسل إليهم وفدا ليعلم ما يريدون، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفدا، فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت (ت 32هـ)، رضي الله عنه، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسوادة وقال: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقالوا جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهوسيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذاالأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟! قالوا: كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفي من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سوادا مني وأفظع منظرا (4).
لقد كان كثير من الناس -حتى المتحضرين في القرن العشرين- يرون السواد منقصة، وكانوا لا يرون الأسود أهلا لأن يكون في عداد البيض، فكيف يتقدمهم ويقودهم ويفضلهم في الرأي والعلم؟! فجاءت حضارتنا تحطم هذه المقاييس، وتسفه هذه الآراء، وتقدم الأسود على الأبيض حين يقدمه علمه ورأيه وشجاعته.
وكان عبد الملك بن مروان (ت 86هـ)، يأمر المنادي أن ينادي في موسم الحج ألا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح (ت 114هـ)، إمام أهل مكة وعالمها وفقيهها، وكان عطاء أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمي، وقد جعلته الحضارة الإسلامية إماما يرجع إليه الناس في الفتوى، ومدرسة يتخرج على يده الألوف من البيض، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير(5).
ولقد كان في حضارتنا المبدعون في كل ميادين العلم والأدب، وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كنصيب الشاعر (ت 108هـ)، ولا فقهاء يؤلفون المراجع المعتبرة في الفقه الإسلامي كعثمان بن علي الزيلعي (ت 743هـ)، شارح الكنز في الفقه الحنفي، والحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت 762هـ)، مؤلف نصب الراية، وكلاهما أسودان من زيلع من بلاد الحبشة.
وقصارى القول: إن حضارتنا لم تعرف هذا التمييز العنصري بين البيض والسود، ولم يكن فيها مجتمعات خاصة للسود لا يساكنهم فيها أبيض، ولا اضطهاد خاص بهم يجعلهم محل نقمة البيض وازدرائهم، وإنما كانت حضارتنا إنسانية تنظر إلى الناس جميعا بمنظار الحق والخير، ولا ترى البياض والسواد إلا بياض الأعمال وسوادها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} (الزلزلة: 7 – 8 ).
والنزعة الإنسانية تظهر حين يعلن الإسلام أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1).
فالأصل البشري لأبناء البشرية قاطبة هو أصل واحد، ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق البيت الواحد والإخوة من أب واحد وأم واحدة، وما كان كذلك فسبيل هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أن يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات : 13)، وقد ترفع الحياة بعد ذلك أفرادا وتخفض آخرين، وقد تغني فئات ويفتقر كثيرون، وقد يحكم شخص ويخضع شعب، وقد تبيض بشرة أقوام وتسود ألوان أمم أخرى، إن هذا وإن كان من سنة الله في خلقه، بل هو نظامها الذي لا يتبدل، فليس من شأنه أن يميز من ارتفع على من اتضع ولا من اغتنى على من افتقر، ولا من حكم على من خضع، ولا ذا اللون الأبيض على ذي اللون الأسود، بل الكل سواء:- سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم لا تمايز بينهم إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات : 13).
وهم سواء أمام القانون في الخضوع له لا تمايز بينهم إلا بالحق. وهم سواء في كيان المجتمع، يتأثر قويهم بضعيفهم، ومجموعهم لعمل أفراد منهم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالحمى والسهر” (صحيح مسلم).
وهكذا يستمر الإسلام في إعلان الوحدة الإنسانية بين الناس كإخوة من أب وأم، والوحدة الاجتماعية في المجتمع كشجرة تهتز أغصانها جميعا إذا لمستها الرياح لا فرق بين أعلاها وأدناها. ومن المفيد هنا أن نلاحظ كثرة خطاب القرآن للناس، بهذه الألفاظ التي تشعرهم بوحدة أصلهم الإنساني {يَا أَيُّهَا النَّاس} ، {يَا بَنِي آدَم} كما خاطب أبناء الدين الواحد بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُون} ، دون أن يميز بالخطاب أمه على أمة أو فريقا على فريق.وأما النزعة الإنسانية الحضارية في التشريع الإسلامي، فإنك لتلمس ذلك واضحا في كل باب من أبواب التشريع، في الصلاة يقف الناس جميعا بين يدي الله لا يخصص مكان لملك أو عظيم أو عالم، وفي الصوم يجوع الناس جوعا واحدا لا يفرد من بينهم أمير أو غني أو شريف، وفي الحج يلبس الناس لباسا واحدا، ويقفون موقفا واحدا، ويؤدون منسكا واحدا، لا تمييز بين قاصٍ ودانٍ، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة، فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون ليفيء إليه كل مضطهد ومظلوم، فإذا انتقلت من ذلك إلى القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قتل قتل، ومن سرق عوقب ومن اعتدى أدب، ولا فرق بين أن يكون القاتل عالما أو جاهلا، والمقتول أميرا أو فلاحا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين أو رجل من عامتهم، والمعتدى عليه أعجميا أو عربيا، شرقيا أو غربيا، فالكل سواء في الإسلام {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} (البقرة: 178).
ويسمو التشريع إلى أرفع من هذا حين يثبت الكرامة الإنسانية للناس جميعا بقطع النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70). هذه الكرامة هي التي تضمن للناس جميعا حقهم في الحياة والعقيدة والعلم والعيش، ومن واجب الدولة أن تكفلها لهم على قدم المساواة بلا استثناء، ويسمو التشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السمو الإنساني حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم بل على نواياهم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم”(صحيح مسلم)، فالنية هي محل المؤاخذة أو الإثابة: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه” (صحيح البخاري).
والنية المقبولة عند الله هي نية الخير والنفع للناس وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غرض مادي أو نفع تجاري {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 78)، وهذا الخير الذي تفعله ابتغاء وجه الله لا يصح أن تطلب ممن استفاد منه ثوابا ولا أجرا {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الإنسان : 4 -5).
ويبلغ التشريع أعلى ذروة من النزعة الإنسانية حين يقرر وحدة العوالم كلها من إنسان وحيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك في سلك العبودية لله والخضوع لنواميس الكون، وما أروع ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كل ركعة من ركعات صلاته {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة : 1 – 2)، إنه لواجب أن يذكر المسلم أنه جزء من الكون مخلوق لإله واحد متصف بالرحمة البالغة الشاملة، فليكن المسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه، مثالا للرحمة التي يتصف بها الله وهو غني عن العالمين.
تغاضب أبو ذر -رضي الله عنه- (ت 32هـ)، وهو عربي من غفار، مع بلال الأسود الحبشي (ت 20هـ)، رضي الله عنه، مولى أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو ذر وبلال صحابيين ممن آمن بالإسلام ورسوله، وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبا ذر الحدة فقال لبلال: يابن السوداء! فشكاه بلال إلى النبي -ﷺ- فقال لأبي ذر: “أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية” (متفق عليه).
وسرقت امرأة من بني مخزوم في عهد النبي -ﷺ- وجيء بها لتعاقب، فأهمّ ذلك قريشا وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله -ﷺ- في إسقاط الحد عنها؟ ثم ذكروا أن أسامة بن زيد ت ٥٤هـ، رضي الله عنه، حبيب إلى قلب الرسول -ﷺ- فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلمة بذلك فغضب -عليه الصلاة والسلام- غضبا شديدا وقال لأسامة: “أتشفع في حد من حدود الله؟ “، ثم قام في الناس خطيبا فقال: “إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (متفق عليه ).
وجاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي (ت 36هـ)، وصهيب الرومي (ت 38هـ)، وبلال الحبشي (ت 20هـ)، رضي الله عنهم، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل أي: رسول الله -ﷺ- فما بال هذا؟ يعني سلمان وصهيب وبلالا، فقام إليه معاذ بن جبل (ت 18هـ)، رضي الله عنه، فأخذ تلبيبه أي: قبض على ثيابه من جهة نحره ثم أتى به النبي -ﷺ- فأخبره بمقالته، فقام النبي -ﷺ- يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي أن الصلاة جامعة، وقال: “يا أيها الناس، إن الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي” (6).
وجاء عدي بن حاتم الطائي (ت 68هـ)، رضي الله عنه، إلى المدينة وهو لم يسلم بعد، فدخل على الرسول -ﷺ- وهو في مسجده، فانطلق به -ﷺ- إلى بيته، وبينما هو كذلك إذ لقيته ﷺ امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، فقال عدي: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك(7)، وكان لهذا الموقف النبوي الإنساني العظيم أثر واضح في إسلام عدي لاحقا.
ولما فتح رسول الله -ﷺ- مكة بعد إحدى وعشرين سنة من دعوته، ووقف موقف المنتصر ممن حاربوه وأخرجوه وكذبوه، لم يذكر يومئذ إلا دعوته ومبادئها التي كان ينادي بها يوم كان مستخفيا في دروب مكة، ثم يوم كان حاكما في المدينة يضع الأساس في بناء الحضارة الخالدة في التاريخ، يومئذ أعلن تطبيق المبادئ التي طالما نادى بها من قبل، قبل أن ينتصر انتصاره النهائي، فقال وهو على باب مكة، وقريش ذات الكبرياء والفوارق الاجتماعية الظالمة تسمع ما يقول: “يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من تراب” (8)، ثم تلا رسول الله -ﷺ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات : 13).
وإن المتفحص لهذين المبدأين:
- تسامح المسلمين مع غيرهم.
- المساواة فيما بين المسلمين.
يجد أن لهما أثرا عظيما في:
أولا: إقبال أهل تلك البلاد المفتوحة على الإسلام واعتناقه بقناعة تامة.
ثانيا: اهتمام أهل تلك البلاد بتعلم اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، والوسيلة الأهم لفهمه وفهم السنة المطهرة، وقد نبغ من هؤلاء الأعاجم علماء في كل الفنون من تفسير وفقه وحديث، بل وجد من العلماء المسلمين غير العرب من فاق العرب في علوم اللغة العربية ذاتها، ومن أشهرهم سيبويه (ت 180هـ)، الفارسي الأصل.