ارتبط التعليم الإسلامي منذ نشأته بسمات وخصائص ذاتية ميزته عن غيره من النظم التعليمية وأكسبته فرادة، ومنها: الاستقلال المادي استنادا إلى الأوقاف المخصصة للمدارس، واتباع نظام الحلقة، واعتماد “الإجازة” لتقييم الدارسين، وفي السطور التالية أعرض بإيجاز لنظام الإجازة ودواعي نشأته وبعض أنواع الإجازات وكيف يمكن للباحثين الإفادة منها.

منشأ الإجازة ودواعي انتشارها

الإجازة مصدر من فعل أجاز، ويتضمن عدة معاني نصت عليها المعاجم؛ فأجاز الشيء أي جعله جائزا، كما تعني أباحه وسوغه، وتأتي أيضا بمعنى جواز الماء أي استسقاءه وعبوره من شخص إلى آخر، ولعل هذا المعنى الأخير هو الذي اختير لأجله ليعبر عن انتقال المعرفة وعبورها من الأستاذ إلى الطالب، وحول هذا يقول القسطلاني في (المنهج): الإجازة مشتقة من التجوز وهو التعدي، فكأنه عدى روايته حتى أوصلها للراوي عنه. وفكرة التعدي المعرفي لها أصل في الشريعة فقد نقل النبي العلم شفاهة إلى أصحابه وهم نقلوه بدورهم إلى التابعين ثم منهم إلى تابعي التابعين، وعبر القرون انتقل العلم من طبقة العلماء إلى الطبقة التي تليها دون انقطاع.  

وقد استعمل اصطلاح الإجازة أول الأمر للإذن برواية الحديث الشريف ، وظل قاصرا عليه زمنا، ولهذا فإنه عندما يستعمل بدون إضافة يعني الحديث على وجه الخصوص، ومع التوسع في العلوم الإسلامية وخصوصا الفقه صار مستخدما فيها بإضافة تميزه عن الإجازة في الحديث؛ فصار لدينا إجازات حديثية وإجازات علمية شملت العلوم الإسلامية والعلوم الدخيلة، وهي بهذا المعنى تعني إما الإذن بممارسة مهنة معينة تتطلب مهارات خاصة كالطب والصيدلة، أو رخصة -أو بعبارة أدق شهادة -يمنحها أحد العلماء إلى طالبها يجيزه فيها بالرواية أو التدريس أو الفتيا وفي هذه الحالة لابد أن تتضمن صيغة الإجازة المسائل العلمية التي اختبر فيها الطالب والمميزات العلمية التي تبرر منحه إياها، وكلما استطاع الطالب تحصيل أكبر قدر من الإجازات كان هذا دليلا على سلامة تكوينه المعرفي.

وهذا الانتشار لفكرة نظام الإجازة يمكن عزوه إلى ثلاثة عوامل:

الأول، اتساع دائرة التصنيف والتأليف الإسلامي منذ القرن الثاني، والإجازة هي وسيلة لضمان صحة المؤلفات وسلامة نسبتها إلى مؤلفيها، ولم يكن هذا ممكنا من دون الاتصال المباشر بين الطلاب والشيوخ وإثبات ذلك الاتصال شفاهة ثم كتابة في صدور المخطوطات أو ذيولها.  

الثاني، كره العلماء أن يأخذ المرء العلم من الكتب مباشرة بلا إجازة من عالم، وأسموه (التصحيف)، وفي هذا يقول المعري “أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب”، وهكذا صارت الإجازة لازمة لضمان انتشار العلم صحيحا خاليا من التحريف والأغلاط.

الثالث، وهو الرأي الذي يتبناه جورج مقدسي وملخصه أن غياب إكليروس إسلامي -هيئة دينية رسمية- يحدد صحيح الدين، هو الدافع وراء ظهور نظام الإجازة لأن العلماء سواسية ومعيار التفاضل بينهم هو القدرة على الاجتهاد والاستنباط من مصادر التشريع، وبالتالي كانت هناك ضرورة لوضع آلية تنظم قواعد الاستنباط والاجتهاد وعدم الإخلال بها ممن لم يتلقوا تعليما معتمدا، وكانت الإجازة هي الطريقة التي تم الاهتداء إليها لأنها تضمن خلق أجيال جديدة من العلماء تنهل من العلماء الأثبات الذين ارتضت الأمة مناهجهم البحثية وطرائقهم في الوصول للحكم الشرعي.  

وأيا ما كان السبب وراء انتشار الإجازة فقد أسفر انتشار الإجازة عن أمرين؛ أولاهما تقليص دائرة الانتحال الفكري ونسبة الكتب إلى غير مؤلفيها إلى حدودها الدنيا. وثانيهما صبغ المعرفة الإسلامية عموما بطابع التواتر الذاتي، وأعني أن العلماء -لا الدولة- كانوا هم المسئولون عن العملية التعليمية برمتها ومنح الإذن بالتدريس والفتيا والرواية، فلم يكن متاحا لأحدهم أن ينقل الكتاب الذي درسه إلى غيره من دون إجازة، وهكذا وجد ما يمكن أن نطلق عليه “جينولوجيا المعرفة” أي أجيال متتابعة من العلماء لها نسب علمي يمكن تتبعه جيلا بعد جيل.

أصناف الإجازات

ومع هذا الانتشار الواسع لنظام الإجازة كان منطقيا أن تتعدد الإجازات، وقد تحدث القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى) عن عدة أنواع من الإجازات العلمية السائدة في عصره؛ وهي: إجازة التدريس والفتيا، وإجازة الرواية، وإجازة عراضة الكتب، وبيانها كالتالي.

–  إجازة الفتيا، وينظر إليها بوصفها أهم الإجازات لأن الهدف الأسمى للعملية التعليمية كان إعداد الفقيه الذي يُلجأ إليه في المسائل الدينية والمدنية كالقضاء، وقد بحث القلقشندي هذا النوع  قائلا “أما الإجازة بالفتيا فقد جرت العادة أنه إذا تأهل بعض أهل العلم للفتيا والتدريس أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرس ويأذن له بذلك”. ولم تكن الإجازات -خصوصا في القرون الأولى-تمنح في سن مبكرة إذ عادة ما كانت تمنح للطلاب في العقدين الثالث والرابع، أو حتى بعد ذلك ضمانا لأن يكون الطالب قد استوعب المسائل الفقهية أصولها وفروعها ودرس الاختلافات والآراء داخل المذهب، وكان منح الإجازة يتوقف على المدرس في كثير من الأحيان، فبعضهم كان ضنينا في منح الإجازة ويجعل الأمر في غاية الصعوبة أمام الطالب، الذي ينبغي إثبات جدارته ليصبح مفتيا من خلال مناقشة بعض الفتاوى وإبداء الرأي فيها.

إجازة التدريس، وهي في أهمية إجازة الفتيا لأنها ضمانة تواتر مسيرة العلم الشرعي، وربما اقترنت بإجازة التدريس فتصبح إجازة إفتاء وتدريس معا، وتحتاج إجازة التدريس أن يثبت المرشح مقدرته التدريسية أمام الأستاذ الذي يجيزه، وفي القرون المتأخرة كان الإذن بالتدريس يتم في الجامع الأزهر بحضور علماء الجامع الذين يجلسون للاستماع إلى الطالب ومناقشته، فإن استطاع مناظرتهم والإجابة عن تساؤلاتهم أجازوه للتدريس، ويروي علي مبارك في (الخطط التوفيقية) أن نفرا من الطلاب كان يتجاوز هذا التقليد ويجلس التدريس دون إذن، وأن المدرسين تشددوا في ذلك فكانوا يهاجمون محلقة الدرس ويفرقون من يجلس للاستماع إليها، صيانة للعلم وحفظا للعملية التعليمية.

إجازة الرواية، أو الإجازة بالمرويات على الاستدعاءات، وفيها يكتب بعض طلبة العلم المستجيزين إلى بعض الفقهاء أو العلماء المختصين في بعض فروع العلم استدعاءات خاصة يطلبون فيها إجازتهم على ما يطلبون من حق الرواية أو السماح بالسماع عنهم، وقد جرت العادة أن تكتب الإجازة وترسل إلى طالبيها حيثما كان، وعادة ما كانت ترسل هذه الإجازات إلى أفاضل العلماء الذين طبقت شهرتهم العلمية الآفاق وعرفوا بأفضل النعوت العلمية، وكان الرد عليها غالبا ما يأتي بالإيجاب ويوضح فيها الشيخ المجيز مروياته وأشياخه.

إجازة الكتب، يوضح القلقشندي ماهية هذه الإجازة بقوله “جرت العادة أن بعض الطلبة إذا حفظ كتابا في الفقه أو أصول الفقه أو النحو أو غير ذلك من الفنون، يعرضه على مشايخ العصر فيقطع الشيخ المعروض عليه ذلك الكتاب،ويفتح منه أبوابا ومواضيع يستقرئه إياها من أي مكان اتفق، فإن مضى فيها من غير توقف ولا تلعثم استدل بحفظه على جميع الكتاب، وكتب له بذلك كل من عرض عليه” والحفظ كما هو معروف كان يتعلق بالمتون، أما المصنفات الأخرى كالشروح والتقارير وغيرها فهذه كان يكتفى فيها بالفهم والوقوف على دقائق المسائل.  

وختاما يمكن القول أنه كانت للإجازة فيما مضى فوائد حيث حالت دون انتحال العلم، وصانت قواعده، ولا تزال تحمل في طياتها فوائد وإمكانات معرفية للباحثين في عصرنا الراهن يمكن إيجازها فيما يلي:

–  تعد الإجازات وثائق تاريخية يمكن أن نتبين منها ثقافة علماء كل عصر وتكوينهم العلمي وما قرأوا أو سمعوا من كتب.

– وهي مصدر من مصادر التراجم، إذ تتضمن أسماء أعلام كثيرين لا نجد ذكر في كتب التراجم المعروفة، وربما أمكن صنع تراجم لأشخاص وردت اسمائهم في إجازات مستفيدين مما يرد فيها من معلومات حول؛ ما سمعوا من كتب، وما لقوا من شيوخ، وما عاصروا من رفاق في طلب العلم.

– والإجازة وسيلة لمعرفة مراكز العلم في العصور الإسلامية وتحولاتها، وعلى سبيل المثال نجد القرن الخامس الهجري إجازات كثيرة في بغداد في حين لا نجد في دمشق أو القاهرة مثل هذا العدد، ومرجع ذلك أن بغداد كانت حاضرة الخلافة العباسية في أوج مجدها، وفي القرنين التاليين ازدادت الإجازات في دمشق مع ظهور السلاجقة وتأسيس المدرسة الصالحية واضمحلت في بغداد، وفي القرون المتأخرة زادت الإجازات في القاهرة مع صعود نجم الأزهر.   

– وأخيرا فكثرة الإجازات على كتاب ما دليل على القيمة العلمية للكتاب ومنزلة مؤلفه، ومدى ضبطه وما إلى ذلك من أمور يمكن للمؤرخين والمحققين التراثيين الإفادة منها.