على مدار القرن الماضي ترسخت فكرة الاضمحلال أو الأفول الذي تنتظره الحضارة الغربية باعتباره مصيرا محتوما على ضوء السياقات المختلفة التي مر بها الغرب، وهي الفكرة التي ظهرت أولا في كتابات نيتشه، وتطورت على يد كتاب لاحقين أمثال: دوبوا، وتوينبي، وماركيوز وسارتر وفوكو، وفي هذا المقال نحاول أن نعرض لآراء المؤرخ الألماني أوزالد شبنجلر (1880-1936) الذي غلبت عليه روح التشاؤم بشأن مستقبل الحضارة الأوروبية وشكلت أفكاره أساسا في هذا المجال.

شبنجلر: سيرته ومصنفاته

ولد شبنجلر في مدينة “بلانكبرج” بوسط ألمانيا عام 1880 وهو الابن الأكبر لأسرة متوسطة الحال لديها أربعة أطفال، اشتهرت عائلة والدته بميولها الفنية، وقد ترك هذا تأثيره على الفتى الذي اعتنى بالفن واعتقد بصلته الوثيقة بالثقافة، أما أبيه فكان عامل تعدين ثم أصبح موظفا بالبريد، أمضى شبنجلر طفولة غير سعيدة في كنف أبوين متباعدين، ولعل هذا ما دفعه للانسحاب والتقوقع حول الذات وأورثه ضعفا بدنيا، فقد ظل يتشكى من الصداع النصفى طيلة حياته، بل أنه أصيب بانهيار عصبي عام 1905 ولازمه لمدة عام كامل.

ارتحل شبنجلر إلى مدينة هال في سن العاشرة بصحبة أسرته، وهناك تلقى تعليما تقليدا فدرس الرياضيات والمنطق والعلوم الطبيعية واللاتينية، وقد ولع بالفن وأنتج عددا من الأعمال الفنية في الشعر والموسيقى، وفي هذا الوقت تأثر بفلسفة نيتشه التي تصل إلى حد العدمية ووجد فيها نوعا من “التسامي الذاتي”، وفي الجامعة درس الثقافات الكلاسيكية، والعلوم الفيريائية، وتقدم للحصول على الدكتوراه عام 1903 غير أن مشرفه خذله بحجة أنه ضمنها عدد قليل من المراجع، وفي العام التالي نجح في اجتيازها لكن طريقه للتدريس في إحدى الجامعات المرموقة لم يعد متاحا؛ فاضطر للعمل بالمدارس العليا وتنقل بين عددا منها بين طلاب وزملاء متوسطي الأهمية، وأمضى في ذلك ستة أعوام إلى أن قرر احتراف الكتابة في ميونخ، وعندئذ أصاب قدرا من الشهرة والنجاح[1].

وعلى الرغم من أن شبنجلر صنف طائفة من المؤلفات النقدية المهمة مثل “الإنسان والتقنية” (1932) الذي انتقد فيه هيمنة التقنية التي صنعها الإنسان بيديه ليصبح عبدا لها فيما بعد، إلا أن أشهر مؤلفاته هو كتاب “أفول الغرب” الذي صدر الجزء الأول منه عام 1918 والثاني عام 1922  في أعقاب الهزيمة التي منيت بها ألمانيا ولعل هذا ما يفسر ازياد روح التشاؤم في الكتاب، ففي الجزء الأول الذي كتب قبل الحرب يقدم شبنجلر التاريخ باعتباره قصة الشعوب والثقافات، أما الجزء الثاني فيعرض للمستقبل باعتباره “صراع البشر وليس صراع المبادئ أو المثل حيث القوة هي البداية والنهاية”[2].

التشكلات التاريخية: الثقافة والحضارة

وأفول الغرب يعد بصفة عامة دراسة لفلسفة التاريخ، وقد بدأه شبنجلر مثلما فعل فيكو قبله، وأرنولد توينبي بعده، بمقارنة الحضارة الغربية الحديثة بحضارة العالم اليوناني والروماني، وقاده بحثه إلى تعيين الحضارات الأساسية في العالم وتحديد دورة حياتها التي لامناص لها من المرور بها، ويبلغ عدد هذه الحضارات العالمية ثمانية وهي: الهندية والبابلية والمصرية القديمة والصينية والمكسيكية (المايا-أزتك) والعربية (أوالمجوسية( وهي تشمل ثقافات الشرق كاليهودية والفارسية، والكلاسيكية (اليونانية والرومانية) والأوروبية الغربية.

والتاريخ عند شبنجلر لا يتخذ مسارا خطيا تصاعديا من الأقدم إلى الأحدث أو من البدائية إلى التقدم، وإنما هو سلسلة متتابعة من الأحداث المتكاملة التي يطلق عليها “ثقافات”، ولكل ثقافة “رمز أساسي” يسري في أوصالها ويتجلى في منجزاتها الفكرية والفنية، وهذا الرمز هو العمارة والفن عند القدماء المصريين، وهو “الروح الفاوستية”[3] المأساوية في الحضارة الغربية، والثقافة كائن حي ينمو ويتطور، ولكل ثقافة دورة حياة تماثل دورة حياة الكائن الحي.

وكل الثقافات تمر بدورة تشمل أربع مراحل رئيسية هي: الربيع والصيف والخريف والشتاء، والعمر الافتراضي للدورة الواحدة يبلغ قرابة الألف عام، في المرحلة الأولى كما في (اليونان القديمة أو فارس) تكون الثقافة بسيطة ومحكومة وقوية لأن روحا ما تنفخ فيها، وفي مرحلة الصيف ينتشر الوعي الثقافي من النخبة [الثقافية أو السياسية أو الحربية] إلى جموع الشعب وتجتاز الثقافة عدة مراحل تبدأ بالتنظيم السياسي ثم العلوم والفنون المختلفة فتنتج أعمالا عظيمة، وعندما تبلغ هذه المرحلة ذروتها وأوجها تتجه نحو (الخريف) الذي عادة ما يصحبه نقد للأعمال الكلاسيكية وبروز للمدن الضخمة التي تضم أخلاطا من البشر بلا جذور ولا هوية، فإذا ما بلغت تلك المرتبة أصيبت بالتحجر الذي يؤذن بوصولها إلى مرحلة (الشتاء) الذي يودي بها في نمط جديد من الهمجية، وهنا تبلغ خاتمة حياتها، بسبب انقضاء أجل الثقافة لنضوب طاقتها الإبداعية كما هو الحال مع الثقافات المصرية والهندية والصينية القديمة[4].

ويميز شبنجلر بين “الثقافة” و”الحضارة”؛ فالثقافة هي بداية الدورة الحضارية، وهي الروح القوية التي تسري في الشعوب لتدفعها للإبداع، وعنده أن كل من: روسو وسقراط وبوذا يميز نهاية ثقافة لأن كلا منهم قد وارى أفكارا عظيمة، أما “الحضارة” فهي الوصف الذي يطلقه على عصره، وهي مرحلة زمنية متأخرة بل هي “الموت الذي يعقب الحياة والجمود الذي يتبع الحركة”، وجميع الثقافات مقضي عليها حتما أن تبلغ مرحلة الحضارة وتزوي.

 مصير الحضارة الغربية

يذهب كثير من النقاد إلى أن نقطة الضعف الرئيسية في نظرية شبنجلر بشأن الدورات الحضارية تكمن في الحتمية التي صيغت بها، فهو يفترض أن المراحل الأربعة السابقة ينبغي أن تمر بها جميع الحضارات، وهو ما يعني أن التاريخ يفرض قالبا محددا تتخذه كل حضارة ولا حيلة للبشر فيه، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يمكن للمؤرخ أن يتنبأ بالمستقبل، وهو يتنبأ بالفعل بمصير الحضارة الغربية ويرى أنها لم تستكمل بعد مراحل حياتها، ويتكهن بفترة دوامها ويرسم خط سيرها، ويعتقد أنها قد دخلت منذ عام (1800) مرحلة الشتاء الباكر، ففي هذا التاريخ بدأ الغرب مرحلة توسعه الاستعماري الوحشي الخارجي عن طريق الرأسمالية بأسواقها دائمة التوسع والتمدد، وبهذا يكون قد ولج مرحلة “إمبريالية الحضارة” التي تحاصر الروح الأوروبية وتهددها التي كانت متجهة قبل ذلك نحو الداخل باتجاه المعرفة والفن والأدب.

والحضارة الغربية الآن في اعتقاد شبنجلر تعيش في مرحلة إجترار الماضي وتقبل على الاستمتاع بألوان الترف الحضاري، داخلة بذلك مرحلة التداعي. وهذا المصير حتمي حيث لا أمل للحضارة الغربية في إنقاذ نفسها ذلك لأت الحضارات تذبل وتزدهر مثل الكائنات الطبيعية، ويستحيل تجديد شباب الحضارات مثلما يتعذر استرجاع شباب الكائنات الحية.

توينبي وشبنجلر

هناك تشابهات عديدة بين آراء شبنجلر والمؤرخ البريطاني توينبي التي طرحها في كتابه دراسة للتاريخ، أبرزها إيمان الرجلين بأن للحضارات دورة حياة لابد أن تمر بها، إلا أننا نلحظ أن اختلافاتهما تفوق اتفاقاتهما، وأحد الفروق المهمة أن شبنجلر يعزل عزلا تاما بين الثقافات، ويرى أن ليس ثمة علاقة إيجابية يمكن أن تربط بين حضارتين، أما توينبي فيذهب إلى أن الحضارات ينتمي بعضها إلى بعض، وهذا الانتماء يشغل موقعا مهما ضمن نظرية توينبي إذ يجد فيه ما يضمن استمرار التاريخ[5].

أما الفارق الآخر فيكمن في رؤيتهما للدين، ذلك أن شبنجلر يقدس أحكام العقل ويزدي الدين وأحكامه زاعما أنه يجافي المعرفة العقلية ويضيق ذرعا بالجدل والدليل العقلي، بل يقرر قضايا يجب على المؤمن تقبلها سواء وافقت عقله أم لا ، على حين يعتقد توينبي أن العقائد الدينية تلعب دورا في مجريات التاريخ  ويذهب إلى حد القول أن الدين يكمن وراء كل الحضارات الإنسانية القائمة كما هو الحال لدى الحضارة الغربية التي تولدت عن المسيحية والحضارة العربية التي نتجت عن الإسلام.

ومهما يكن من آراء شبنجلر، فإن النقاد والدارسون مجمعون على عبقريته، وليس أدل عليها من تحقق بعض تنبؤاته كتلك المتعلقة بهيمنة التقنية والتكنولوجيا على الإنسان وتحكمهما في أفكاره ومصيره، ومن ظهور “المدن الكوزموبوليتانية” الكبرى التي تذيب هوية الأفراد وتجلب التوتر بدل الانسجام.


Keith Stimely, Oswald Spengler: An Introduction to his Life and Ideas.   [1]

https://www.ihr.org/jhr/v17/v17n2p-2_Stimely.html

[2]  آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، ترجمة: طلعت الشايب، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 303.

 نسبة إلى شخصية الدكتور فاوست الشهيرة الذي باع روحه للشيطان في رواية “دكتور جيكل ومستر هايد”. [3]

 آرثر هيرمان، المرجع السابق، ص 292-293. [4]

 فؤاد محمد شبل، تداعي الغرب، القاهرة: تراث الإنسانية، 1965، مج3، ع 8،  ص 644. [5]