في قلب دمشق، جلّق الشام، عاصمةِ الحسن والبهاء، يقف الجامع الأموي صرحاً شامخا خلّدته دولة بني أمية، راوياً حكايا الحضارات المتعاقبة وشاهدا على أحداث الدهر وصروفه.
التاريخ والبناء
“ولد الجامع الأموي قبل أن يولد التاريخ” (1)، بهذه الجملة الرائقة الرائعة صدّر الأديب علي الطنطاوي رحمه الله دمشق، وهو الذي أحبها وصوّر في كتبهِ جمالها وحكى أخبار أيامها ونضالها.
وصف المقدسي في رحلته دمشق فقال: “هي مصر الشام، ودار الملك أيام بني أمية، وثَمَّ قصورهم وآثارهم وبنيانهم خشب وطين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن. لا ترى أحسن من حمَّاماتها ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها، ومنازلها ضيقة وأزقتها غامة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى، والجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يعلَم لهم مال مجتمع أكثر منه”.(2)
ماذا كان الجامع الأموي بدمشق قبل الإسلام ؟
تعاقبت على أرض الجامع الأموي عدة معابد قديمة، معبدٌ آرامي فروماني قبل أن يكون كنيسة كانت تسمى “يوحنا المعمدان” وهي التي أدركها المسلمون لمّا فتحوا دمشق في العام 13 للهجرة.
فاوض حينها المسلمون المسيحيين على التخلي عن النصف الغربي للكنيسة وصالحوهم على ذلك فقبلوا. فكان أن اقتسمها المسلمون مع المسيحيين فجُعل نصفها مسجدا وتُرك الآخر كنيسة إلى أن عوّض عنها الوليد النصارى بمال كثير.
أراد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أن يبني جامعا عظيماً يليق بعاصمة الخلافة، فأمر ببناء الجامع الأموي عام 705 للميلاد. واستغرق بناؤه عشر سنوات، وزُخرِف أيّما زخرفة وتناهى في الدقة والإتقان وغدا بعد ذلك عِقد دمشق الفريد وصرحها الخالد.
قيل إن الوليد لمّا أتم بناء الجامع الأموي، سمع الناس قد هالهم ما أنفق عليه من كثرته وباتوا يتحدثون أنه أنفق الأموال في غير حقها فنادى: “الصلاة جامعة”. فاجتمعوا في المسجد، فقال لهم، لقد بلغني أنكم تقولون: إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمر بن مهاجر (وكان أمين الخزانة) قم فأحضر ما لديك من الأموال في بيت المال. فأتت البغال تدخل بالمال ويصب على الأقطاع، حتى إن من كان في جهة الشمال لم يُبصر مَن كان في جهة القبلة. قال: الموازين! فأتت الموازين، فوُزن المال وأحصي فوجدوا أن في بيت المال من المدّخر ما يقوم بنفقات الدولة سنين.
وقال بعدها مخاطباً أهل دمشق: إنكم تفخرون على الناس بأربع، بهوائكم ومائكم وفاكهتكم وحماماتكم فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا الجامع.
موقع الجامع الأموي وعمارته
يقع جامع بني أمية الكبير في قلب المدينة القديمة بدمشق محاطاً بسوق الحميدية غرباً، وحي البزورية جنوباً، ومقهى النوفرة شرقاً، وضريح صلاح الدين الأيوبي في زاويته الشمالية الغربية. ومساحته 15 ألفا و300 متر مربع.
تميّز الجامعَ ساحة صلاة داخلية كبيرة وصحن واسع. كما تزيّن جدرانه لوحات فسيفساء لجنات الأشجار والأنهار والحدائق والقصور وتعرف قبّته بقبة النسر وهي ذات لون أزرق مائل للرمادي.
يضمّ الجامع ضريحاً يزعم الناس أنه للنبي يحيى عليه السلام “يوحنا المعمدان” وكان من قبلُ قبلةً للمسيحيين الراغبين في الصلاة قبل أن يبنى المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك.
تتجلى في الجامع الأموي روعة العمارة الإسلامية، فنجده مقسماً إلى أقسام. مكانٍ للصلاة، وفناء مفتوح مزين بأنواع الزخارف.
وله ست بوابات عظيمة أشهرها باب جيرون أو باب النوفرة الذي يربو عمره عن ألف عام. ترتفع في سماء الجامع ثلاث مآذن شامخة صدحت بالأذان قرونا طوالا. أولها مئذنة العروس التي تعدّ أقدم المآذن الإسلامية وثانيها مئذنة عيسى التي يعتقد أنها موضع نزول المسيح عليه السلام آخر الزمان وثالثها مئذنة قايتباي التي سمّيت باسم السلطان المملوكي الذي أمر بإنشائها.
رحلة الصمود
ظل الجامع الأموي سليماً كما تركه الوليد بن عبد الملك حتى انقسمت الخلافة عام 461 هـ ودارت رحى الحرب بين العباسيين والفاطميين حتى بلغت دمشق. فكان أن ترامت الخصوم بالنار فاشتعلت وأحرقت المسجد فلم تترك منه إلا الجدران الأربعة. بقي الجامع على تلك الحال 14 عاما حتى رمّمه السلاجقة.
مرّت بالجامع أحداث أخرى كثيرة، منها حريق عام 562 هـ الذي امتد إلى المسجد، وآخر في عام 570 هـ. كما تعرض المسجد لحرائق في أعوام 646 هـ و681 هـ، وفي عام 740 هـ دمر حريق كبير أجزاء واسعة من الجامع. وتوالت الحرائق حتى وصلت إلى الحريق الأخير عام 1311 هـ الذي ألحق أضراراً جسيمة بالمسجد.
كما تعرض الجامع لعدة زلازل مدمرة، كان أبرزها زلزال عام 131 هـ الذي أدى إلى تشقق سقف المسجد، وزلزال 233 هـ الذي أسقط المنارة ودمّر أجزاء كبيرة من المبنى.
خضع الجامع لعدة عمليات ترميم، بدءاً من ترميم السقف والقبة في عهد ملكشاه السلجوقي، إلى ترميم الصحن في عهد الملك العادل.
قالوا عن الجامع الأموي
مرّ بدمشق عبر العصور رحّالة وأدباء ومؤرخون كلّهم زار الجامع وأجاد في وصفه.
يصف الرحالة الأندلسي ابن جبير الجامع الأموي بأنه “أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين”.
أما الأديب علي الطنطاوي فقد قال فيه: “ذهبت أمية بمالها وسلطانها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان.
قال الفرزدق : أهل دمشق في بلدهم قصر من قصور الجنة، يعني به الجامع الأموي .
ويروى عن ابن ثوبان أنه قال: ما ينبغي أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق; لما يرون من حسن مسجدها.
عمر بن عبدالعزيز والجامع الأموي
يروي صاحب مختصر تاريخ دمشق فيقول: إن عمر بن عبد العزيز لما استخلف أراد أن يجرّد ما في قبلة مسجد دمشق من الذهب.وقال: إنه يشغل الناس عن الصلاة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه أنفق عليه غد فيء المسلمين وأعطياتهم، وليس يجتمع منه شيء فينتفع به، فأراد أن يبيضه بالجص فقيل له: تذهب النفقات فيه، فأراد أن يستره بالخزف، فقيل له: تضاهي الكعبة، فبينما هو في ذلك إذ ورد عليه وفد الروم فاستأذنوا في دخول المسجد، فأذن لهم، وأرسل معهم من يعرف الرومية، وقال: لا تعلموهم أنكم تعرفون الرومية، واحفظوا ما يقولون، فلما وقفا تحت القبة قال رئيسهم: كم للإسلام؟ قال: مئة سنة، قال: فكيف تصغرون أمرهم؟ ما بنى هذا البنيان إلا ملك عظيم. وأتى الرسول عمر فأخبره فقال: لا أرى مسجد دمشق إلا غيظاً على الكفار فنزل عما كان همّ به من أمره. (3)
خاتمة
من معبدٍ وثني إلى كنيسة مسيحية، ثم جامعٍ إسلامي روى قصة الإسلام وشهد أيام الشّام العظام، وبقي كتاباً مفتوحاً يروي حكاية الحضارات، وشاهداً حياً على حدثان الدهر ونوائبه.
شهد هذا الصرح المشيد مع فجر الإسلام تحولاً جديداً، وولد عندما غدا مسجداً لله يعمره من آمن به وباليوم الآخر وعندما ضمّ بين ثناياه جلّة علماء الإسلام والفاتحين.