تحظى مسألة الجرائم والعقوبات في الشريعة الإسلامية باهتمام من الدارسين الغربيين قديما وحديثا؛ مثلما يحظى القانون والتشريع الإسلامي بذلك أيضا، ويتجلى الاهتمام في صورة عدد كبير من الدراسات التي قدمها غولد تسيهر شاخت وكولسون وبرنارد لويس وكنوت فيكور وبيترز وغيرهم من المستشرقين والدارسين.
يعد الباحث الهولندي رودولف بيترز[1] واحد من أهم الدارسين المعاصرين للتطور القانوني للشريعة في العصور الحديثة، وتحظى كتاباته بمصداقية لدى الدوائر الأكاديمية الغربية والإسلامية على حد سواء لأنها كتبت بروح المؤرخ المدقق، ومن بحوثه ومؤلفاته: “عقيدة الجهاد في العصر الحديث “(1979) و”التشريع الجنائي في نيجيريا” (1997)، وأما آخر كتبه “فهو “الجريمة والعقاب في الشريعة: النظرية والتطبيق من القرن السادس عشر حتى القرن الحادي والعشرون”( 2005) الذي قدم له وائل حلاق وصدرت ترجمته العربية عن (عالم الأدب) عام 2017 في 304 صفحة.
و لا يمكن الحديث عن الجرائم والعقوبات في الشريعة الإسلامية دون التطرق إلى كتاب (الجريمة والعقاب)، وهو العمل الوحيد، كما يصرح مؤلفه، الذي يجمع في دراسة التشريع الجنائي الإسلامي بين النظرية والتطبيق، ذلك أن بيترز تناول في الفصل الثاني من الكتاب الجرائم التي نصت عليها الشريعة والعقوبات المقدرة لها، ثم أتبع هذا الفصل النظري بثلاث فصول تطبيقية تدرس نماذج مختارة مرتبة تاريخيا للتطبيقات المختلفة للتشريع الجنائي في: الدولة العثمانية، وفي البلدان الخاضعة للاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، وفي بعض التجارب المعاصرة. كما يضم الكتاب بضعة خرائط تبين مواضع هذه التطبيقات، ومسرد بالمصطلحات الفقهية والتاريخية التي استخدمت في الكتاب والتي كان يتعذر فهم النص بدونها، وأخيرا قائمة مختارة بالقراءات المقترحة في التشريع الجنائي الإسلامي.
يمثل الفصل الثاني (فقه المذاهب) البنية النظرية للكتاب، إذ يعرض فيه مؤلفه للخطاب الفقهي المتعلق بالعقوبات الشرعية، ويقارن آراء المذاهب الأربعة بالمذهب الشيعي – دون تحديد لماهية هذا المذهب-، لكنه لا يذهب بالمقارنة إلى مداها الأبعد فيقارن بين التشريع الجنائي الإسلامي والتشريع الغربي، معللا ذلك بأن ذلك يخرج عن نطاق اهتمام الكتاب، وأنه لا معنى ولا جدوى من هذا المقارنة لأننا لا ندري أي قانون نقارنه به، أنقارن بنظام أمريكي أم أوروبي حديث، أما نقارن بالنظام الأوروبي ما قبل الحديث. ورغم هذا فإننا نلحظ استبطانًا للمنظور الغربي في بضع مواضع؛ كحديثه عن التوبة وكونها مسقط للعقوبة، إذ يذكر بيترز بأنها ” من الدفوع المثيرة التي لا يمكن استيعابها في نظريات القانون الجنائي الحديث في الغرب لعدم ارتباطها بالقصد الجنائي ولا بحرمة الفعل الجنائي”.[2] وحديثه عن دور القاضي في عملية التقاضي الذي يصفه “بالسلبية” لأنه ليس له سلطة البحث عن الأدلة وتعقبها، ولا يمتلك سلطة إلزام المتداعيين برفع الدعوى أمام القضاء ويكتفي بالنظر إلى الدعاوى التي ترفع أمامه[3].
العقوبات الشرعية: مقاصدها وأنواعها
ومن المسائل المهمة التي تطرق إليها الكتاب مسألة ماهية العقوبة الشرعية وأهدافها وأنواعها، وبحسب بيترز فإن المقصد من وراء إيقاع العقوبة الشرعية هو: الزجر، والقصاص، وإصلاح الجاني، وحماية المجتمع، كما تؤكد المذاهب الإسلامية، وهذه العقوبات تطبيق بيد الأجهزة المعنية القضائية والشرطية إلا أن هناك استثنائين لذلك: فيحق لأولياء الدم عند المالكية والشافعية إيقاع القصاص بأنفسهم بإذن القاضي، وتتفق المذاهب -عدا المذهب الحنفي– على أحقية مالك العبد بتنفيد العقوبة على عبده.
ويحصي بيترز العقوبات الشرعية كما وردت في الكتب الفقهية فيجدها ثلاثة عشر عقوبة وهو يرتبها من الأدنى إلى الأعلى: التوبيخ، الزجر، التشهير، النفي أو التغريب، الحبس، الجلد، قطع اليد اليمنى، القطع من خلاف، قصاص ما دون النفس [ قطع بعض أعضاء الجاني أو جرحه أو فقء عينه إذا تعمد إيذاء شخص بمثلها]، القتل وهو على ثلاثة أصناف (القتل قصاصا، القتل رجما، القتل صلبا). وعلاوة على تلك العقوبات المحددة المنصوص عليها هناك عقوبات تكميلية أخرى في الشريعة وعددها يسير كعقوبة القاذف الذي لا تقبل شهادته. وهناك أيضا ما يسمى “التعزير” وهي عقوبة مخولة للقاضي في حال تعذر إثبات التهمة بوسائل الثبوت الشرعي المعتادة، أو في حال ارتكاب جرم لا تنطبق عليه تعريفات الجريمة الشرعية، وعندئذ يحق للقاضي اختيار عقوبة من العقوبات السالفة وتوقيعها على المذنب، ويذكر بيترز أن الجلد كان أكثر العقوبات توقيعا من جانب القضاة، وأن القتل تعزيرا يعد من المسائل الخلافية لكن جميع المذاهب قد أجازته في نهاية الأمر لمن تكررت منهم الجرائم، وللجرائم الخطيرة كالسحر واللواط، والتجسس لصالح العدو.
التشريع الجنائي الإسلامي في عصور الحداثة
ومن المسائل التي تطرق إليها الكتاب مسألة الإصلاحات القانونية التي أدخلت على التشريع الجنائي الإسلامي منذ القرن التاسع عشر بفعل عملية التغريب التي قادتها بعض النخب المحلية واستلزمت تبني القوانين الأجنبية، والاستعمار الغربي للبلدان الإسلامية، فقد اعتبر الموظفون الاستعماريون أن التشريع الإسلامي تشريع متعسف وأنه بحاجة للإصلاح، ومجمل انتقادهم يتعلق بباب التعازير الذي هو باب فضفاض لا يضم تعريفا محددا للجريمة وأوصافها، وعقوباته غير موضوعية لأن بعضها يمكن إبطاله بالصلح بين المتداعيين ودفع تعويض مالي (الدية)، ومن جانب آخر فإن العقوبات الشرعية غير متساوية، فربما عوقب شخص بأكثر من شخص آخر رغم أن الجرم واحد.
ويرصد بيترز التطورات التي لحقت بالتشريع الإسلامي في القرن التاسع عشر، ويجملها في ثلاث تطورات:
الأول: الإلغاء الكامل للتشريع الجنائي واستبداله بالقوانين الغربية، وقد اتبع في معظم الدول الواقعة تحت الاستعمار كما هو الحال في الجزائر على يد الفرنسيين.
الثاني: إدخال تعديلات تدريجية على بعض جوانب التشريع الجنائي، وهذا النهج اتبعه الإنجليز في الهند وفي نيجيريا حيث تم المزج بين القوانين الغربية وقوانين الشريعة في حزمة واحدة، لكنه الغي في نهاية المطاف.
الثالث: إصلاح التشريع الجنائي، وهو النهج الذي سارت عليه الدول المستقلة كمصر والدولة العثمانية، وذلك بمحاولة تقنين الفقه، وإنشاء محاكم مدنية إلى جوار المحاكم الشرعية[4].
وبالجملة فإن الكتاب يمس موضوعات مهمة تتعلق بجوهر العقوبة في الإسلام واختلافها عن العقوبة الوضعية، ويناقش تاريخ التشريع الجنائي في العصور الحديثة والعوامل التي أفضت إلى ما أسماه “كسوف” التشريع الجنائي، والكسوف -كما يصرح مؤلفه- لا يعني الإلغاء فهناك اتجاه متزايد للعودة إليه بعد أن اعتقد الغربيون أنه ضربا من الماضي وفي طريقه للاضمحلال والأفول.
[1] ولد رودلف بيترز في هولندا عام 1943، والتحق بجامعة أمسترام في مطالع الستينات ودرس القانون ثم اللغة العربية واللغة العثمانية، وفي عام 1979 نال درجة الدكتوراة في القانون عن رسالته “الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في العصر الحديث”، ومنذ ذلك الحين يقوم بتدريس التاريخ القانوني الإسلامي وعلى خلال الحقبة الحديثة بجامعة أمستردام وعدة جامعات عالمية.
[2] رودولف بيترز، الجريمة والعقاب في الشريعة، ص 64.
[3] نفس المرجع السابق، ص 39.
نفسه، ص155. [4]