كان الشيخ محمد رشيد رضا (1865- 1935م) الحلقة الثالثة الأبرز في مدرسة الإصلاح والتجديد؛ التي بدأها السيد جمال الدين الأفغاني، وتوسطها الإمام محمد عبده.. وكان يمتاز عن سابقَيْه بالتبحر في العلوم الشرعية، خاصة في علم الحديث، مما جعله يكمل جوانب كثيرة فاتت الشيخين الجليلين.

وقد وصف الشيخ الغزالي مكانة الشيخ رشيد رضا وجهوده فأحسن الوصف، حين قال: “كان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن، وشارة السلفية الصحيحة، والمفتي العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره.

في هذا الحوار نتوقف مع الباحث المصري حسين عبد الكريم، الذي حصل على الماجستير في “موقف الشيخ رشيد رضا من السنة”؛ لنتعرف معه على أهم معالم مدرسة الإصلاح والتجديد، بأعلامها الثلاثة، وموقع رشيد رضا منها، بجانب التعرف على ملامح من جهوده في السنة النبوية، وفي دفع مسيرة الإصلاح :

 

ما العوامل الأساسية التي أسهمت في تشكيل الشيخ محمد رشيد رضا؟

لقد كانت هناك عدة عوامل أساسية أثرت وأسهمت في فكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله، من أهم هذه العوامل البيئة التي نشأ فيها؛ فقد وُلد في بيت علم وشرف ودين، فنشأ الفتى يقلد الآباء والأجداد، وصار وهو صغير يعظ ويعلّم أهل قريته “القلمون”؛ فقد ورث عن أبيه مهمة الإرشاد والوعظ. وكان يميل وهو صغير إلى التصوف، وكان مما قرأ من الكتب وأثر في نفسه أثناء الطلب، كتاب “إحياء علوم الدين”؛ فقد قال الشيخ رشيد: “ثم صرت أقرؤه للناس، وكان له أكبر الأثر في ديني وأخلاقي وعلمي وعملي”.

ومما أثر في فكر ووجدان الشيخ رشيد الشيوخ والأساتذة الذين تلقى عليهم، فقد كان لهم كبير الأثر فيه، ومن هؤلاء الأساتذة الشيخ حسين الجسر الأزهري، الذي كان يشجعه ويجد منه الشيخ رشيد كل تقدير.. والشيخ محمود نشابة، وهو من كبار علماء طرابلس وأخذ عنه الإجازة في الحديث، وبلغ ما أخذه عن الشيخ نشابة درجة عالية ساعدته على أن ينتقد ما في الكتب من أحاديث ضعيفة وموضوعة، واعترف زملاء الشيخ رشيد له بهذه المكانة في ميدان الحديث، والتي تراها واضحة في مجلة المنار وتفسير المنار.. ومازال يترقى في هذا العلم “علم الحديث” حتى غدا آخر الأمر كما يقول الدكتور مصطفى السباعي: حامل لواء السنة، وأبرز علمائها في مصر خاصة، نظرًا لما كان عليه علماء الأزهر من إهمال لكتب السنة وعلومها، رغم تبحرهم في المذاهب الفقهية والكلامية واللغوية وغيرها.

لكن التأثير الأكبر في حياة الشيخ، والذي حول مسار حياته بعد ذلك حتى صار من كبار المصلحين.. كان للإمام محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني، من خلال قراءة رشيد رضا أعدادًا من مجلة “العروة الوثقى”.

ومما يؤخذ في الاعتبار أن الفترة التي عاشها الشيخ، وهى فترة الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، كان لها دور في وجدان الشيخ رشيد، فكان يردّ من خلال مجلة المنار على الشبهات المثارة حول الإسلام ويكشف زيف المذاهب والتيارات الهدامة.

 

كيف أثرت علاقة رشيد رضا بالإمام محمد عبده في إثراء وجدانه وفكره؟

كان الشيخ رشيد في فترة شبابه يعظ أهل قريته “القلمون”، وكان- كما يقول هو عن نفسه- “يغلِّب جانب الترهيب على الترغيب، والخوف على الرجاء، والإنذار على التبشير، والزهد في الدنيا على القصد والاعتدال”. وفي أثناء هذه الحالة الغالبة عليه عثر في أوراق والده على عدد من مجلة “العروة الوثقى”؛ فلما قرأه تاقت نفسه إلى مقابلة السيد جمال الدين الأفغاني، وكانت هذه نقطة بداية التحول في حياة الشيخ رشيد رضا، ولكن شاء الله أن يموت السيد جمال الدين الأفغاني قبل أن يلتقي به الشيخ رشيد رضا.

وإذا كان جسد الأفغاني قد مات، فإن أفكاره مازالت في عقول وصدور تلامذته؛ ومن أكبر تلامذته بل رفيق دربه: الإمام محمد عبده. وقد كان الشيخ رشيد رضا يعلم علاقتهما، فلما مات الأفغاني قرر رشيد رضا الاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده.

وبالفعل، توجه الشيخ رشيد رضا إلى القاهرة، والتقى بالشيخ محمد عبده، ووجد ضالته، وتناقشا في أن ينشئ رشيد رضا مجلة، فوافق الإمام محمد عبده، على أن يبتعد رشيد رضا عن السياسة.. فأنشأ مجلة المنار.

أخذ الشيخ رشيد رضا ينهل من فكر الشيخ محمد عبده، الذي كان له كبير الأثر في فكر ووجدان رشيد رضا. يقول الشيخ أحمد شاكر في مجلة “المقتطف” عن ذلك: لقد كان لمجلة العروة الوثقى أثر كبير في توجيه فكر الشيخ رشيد إلى الوجهة الإصلاحية للمسلمين، وإلى وضع منهج واضح يسير عليه في سبيل الإصلاح؛ وقد اتبع ما رسمه لنفسه من خطة”.

لقد كان الشيخ رشيد بالنسبة للإمام محمد عبده تلميذًا وصديقًا وناصحًا ومخلصًا، وكان كما قال الشيخ محمد شاكر- والد الشيخ أحمد شاكر: ترجمان أفكار محمد عبده.

لقد كان الإمام محمد عبده من أوائل الداعين في مصر إلى تحقيق عدد عظيم من مشروعات الإصلاح الثقافي والاجتماعي؛ فأسس الجمعية الخيرية الإسلامية، وأقنع عباس باشا بإصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، ووضع تقريرًا لذلك. وكان الشيخ رشيد ملازمًا للإمام عبده كظله، فاستفاد من ذلك كله.

ولما مات الإمام ظل الشيخ رشيد رضا مخلصًا لأستاذه، يعمل على إحياء ذكراه ونشر تعاليمه. يقول الشيخ عبد الجليل عيسى، في مقال نشره بمجلة “الرسالة” سنة 1950: “بالرغم من كثيرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحدًا منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد محمد رشيد رضا؛ فلولا الشيخ رشيد لذهبت آثار الشيخ محمد عبده، وتبخرت أفكاره، كما ذهب مع الريح كثير من آثار غيره من كبار علماء الأزهر. إن التلميذ لم يكن مسجلاً لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشًا وممحصًا وموجهًا كما هو الشأن في التلميذ الذي كانت تعده العناية ليقوم برسالة شيخه بعد موته، وليكون امتدادًا لحياته ووصيًّا على تركته الخالدة”.

 

استطاع رشيد رضا أن يخطَّ لنفسه منهجًا متمايزًا عن أستاذه محمد عبده، وإن تقاطع المنهجان في نقاط كثيرة.. ما أهم نقاط التقاطع والتمايز؟

من كلام الشيخ عبد الجليل عيسى السابق ندرك أن الشيخ رشيد رضا لم يكن نسخة طبق الأصل من شيخه، بالرغم من التوافق الكبير بينهما. لقد كان الشيخ رشيد له شخصيته المستقلة..

ولعل من أهم نقاط التمايز بينهما أن الإمام محمد عبده كان ميالاً للاتجاه العقلاني، فيعتبر هو والسيد الأفغاني أول المؤسسين للمدرسة العقلية الحديثة، أما الشيخ رشيد رضا فهو محسوب على المدرسة السلفية؛ يقول د. عاطف العراقي: كان رشيد رضا مخالفًا بمنهجه لمنهج الشيخ محمد عبده؛ إذ إن الشيخ محمد عبده كان يميل إلى الاتجاه العقلاني التنويري، في حين أن الشيخ رشيد رضا كان يميل إلى الاتجاه السلفي المحافظ.

وهنا نقطة إشكال! إذا كان الشيخ رشيد رضا محسوبًا على الاتجاه السلفي، فكيف انتقد أحاديثَ في الصحيحين؟! ومن خلال دراستي التي نلت بها درجة الماجستير عن “موقف الشيخ رشيد رضا من السنة”، توصلت إلى ما يلي: أن الشيخ رشيد رضا لم يكن سلفيًّا خالصًا، كما لم يكن عقلانيًّا خالصًا؛ فهو أثري ذو نزعة عقلية.. هذه النزعة العقلية من تأثير شيخه محمد عبده.

ومن أهم نقاط التمايز أيضًا أن الشيخ رشيد رضا له باع كبير في علوم السنة، شهد له بذلك علماء عصره، كالشيخ أحمد شاكر وغيره.. أما الإمام محمد عبده فقد كانت بضاعته في علوم الحديث قليلة، وكثيرًا ما  كان الشيخ رشيد ينتقد أستاذه ويصحح له بعض الأحاديث.

بجانب ذلك، فإن الإمام محمد عبده بعد أن اكتوى بنار السياسة، ابتعد عنها وأوصى تلميذه رشيد رضا أن يبتعد عنها؛ لكن لما مات الإمام لم يكن هناك بدّ للشيخ رشيد رضا من الاختلاط بالسياسة على نحو ما؛ فقد كان قبلة الكثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لمعرفة ما يحاك بالمسلمين، من خلال مجلة المنار، وكانت له كتابات مؤثرة.

 

ما موقف الشيخ رشيد رضا من بعض الأدلة والقواعد العامة؛ خاصة ما يتصل بالإسرائيليات، وخبر الآحاد؟

الشيخ رشيد رضا يتفق مع جمهور المسلمين في الأدلة والقواعد العامة، لكن كانت له بعض الآراء أو الاختلافات في هذه القضية أو تلك، مما لا يخرجه عن المنهج السلفي كما أشرنا، لكن بنزعة عقلية..

فيما يتصل بموقفه من الإسرائيليات، كان رحمه الله من أشد المفسرين إنكارًا للإسرائيليات عمومًا، وهو في هذا موافق لرأي شيخه محمد عبده الذي قال عن التفاسير: “ولكن أكثر المفسرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نص المحدِّثون على كذبها، كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن”.

ومن خلال دراستي التي قمت بها، تبين لي أن الشيخ رشيد رضا يرفض الإسرائيليات عمومًا؛ فعند تفسير قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} (البقرة: 58)، يقول بعد أن ذكر بعض أقوال المفسرين: “ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خُدع بها المفسرون، ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله”.

ومن أجل موقفه هذا من الإسرائيليات، فقد طعن الشيخ رشيد أو نقد أحاديثَ جاءت في الصحيحين، منها على سبيل المثال ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَبَدَّلُوا؛ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ” (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء).

كذلك رفض الشيخ رشيد كل ما جاء عن طريق كعب الأحبار ووهب بن منبه؛ فقد أساء فيهما الظن، مخالفًا بذلك رأي جماهير العلماء من حسن الظن بهما. يقول الشيخ رشيد رضا عنهما: “وبعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررناه كذب الرجلين- كعب ووهب- بما ذكرا، فلا يبقى مجال للشك في أنهما كانا يغشان المسلمين، ويُدخلان في كتبهم الدينية ورواياتهم ما يقتضي الطعن في دينهم؛ وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في تلك الجمعيات اليهودية والمجوسية التي كانت تكيد للإسلام والعرب”.

من أجل ذلك، طعن أو رد الشيخ رشيد رضا أحاديثَ في الصحيحين جاءت من طريق كعب أو وهب بن منبه؛ ومن هذه الأحاديث حديث الحِطة السابق ذكره، وغيره.

وماذا عن موقفه من خبر الآحاد؟

إذا تتبعنا موقف الشيخ رشيد رضا من خبر الآحاد، فسنجد أنه لا يأخذ بها في باب العقائد، ويؤكد أن خبر الآحاد يفيد الظن، ولا بد من اليقين في باب العقائد. فيقول عن حديث عدم مس الشيطان لعيسى ابن مريم عليه السلام: “هو من الأخبار الظنية؛ لأنه من رواية الآحاد. ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن؛ كنا غير مكلفين أن نؤمن بمضمون هذه الأحاديث في عقائدنا”.

كذلك، وبسبب موقفه من أحاديث الآحاد، شكك الشيخ رشيد رضا أو نقد حديثَ سحر الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه حديث ثابت في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين السنة.. ورأى أن الحديث مخلّ بمقام النبوة.

 

مدرسة الإصلاح والتجديد، بأعمدتها الثلاثة الأساسية، الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، لها تأثير كبير ممتد إلى أجيال لاحقة.. كيف ترى هذه المدرسة وامتداداتها؟

نعم، كان لمدرسة الإصلاح والتجديد تأثير في أجيال كثيرة؛ من العلماء، والمفكرين، وقادة الحركات الوطنية، ورجال التربية والصحافة. ومن أبرز هؤلاء الذين تأثروا بفكر مدرسة الإصلاح والتجديد: محمد مصطفى المراغي، محمد فريد وجدي، سعد زغلول، قاسم أمين، محمود شلتوت، عباس العقاد، أحمد أمين، البشير الإبراهيمي، محمد الغزالي.. وغيرهم كثير.

ومدرسة الإصلاح والتجديد تدعو إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، والقضاء على الجمود الفكري والحضاري، وإلى إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر وتواجه التحديات.. وقد قدمت هذه المدرسة من الجهود العلمية والعملية في سبيل الإصلاح الكثير والكثير؛ فظهرت في رحابها أجيال من العلماء والمفكرين والدعاة أدركوا ضرورة التجديد والأخذ بوسائل التقدم والنهوض؛ فكان إنتاجهم الفكري استئنافًا لمشروع الإصلاح والتجديد الذي بدأه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.

لقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يرمي إلى تحقيق الإصلاح في شتى المجالات ، لكن على النقيض من هذا، اقتنع الإمام محمد عبده بأن الإصلاح الديني والعلمي والتربوي له الأولوية، ومال إلى أن إصلاح الفرد والمجتمع يكمن في إصلاح المؤسسات التربوية، كالأزهر ودار العلوم.

ولعلنا نلاحظ، فيما يتصل بامتدادات مدرسة الإصلاح والتجديد، أن جهودها لم تقتصر على مجال واحد من مجالات الإصلاح، بل شملت المجالات كافة؛ من الإصلاح الفكري، والديني، إلى إصلاح المؤسسات، وتطوير أساليب الكتابة، والنهوض بالصحافة.. وكان لها رجال وأفذاذ في كل ميدان من هذه الميادين.

كذلك لم تقتصر جهودها على الإصلاح داخل مصر، وإنما شملت أرجاء فسيحة من عالمنا الإسلامية، من إندونيسيا والهند شرقًا إلى الجزائر غربًا.. وكانت مجلة المنار، ومن قبلُ “العروة الوثقى”، خير سفير لأفكار وأسس هذه المدرسة التي استطاعت أن تكون بحق “جامعة” للشعوب الإسلامية، وتعبيرًا صادقًا عن معاناتها وطموحاتها وآمالها.

ولا شك أننا بحاجة ماسّة للبناء على هذه الجهود الكبيرة، حتى نخرج بعالمنا الإسلامي من وهدة التراجع الحضاري إلى ما يصبو إليه من نهوض وتقدم.. وهو جدير بذلك بإذن الله تعالى.