أي سلوك بشري يأخذ ملامح العقلية التي أنتجته، كما أن أي تغيير في العقلية الحاكمة ينتج عنه تغيير في السلوك، هذه قاعدة قرآنية مستقرة:(إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم)، من هنا تأتي أهمية دراسة الذهنيات التي تتحكم في سلوك المجتمعات لرواد التغيير، في هذه المقال نحاول عرض بعض الأفكار المهمة التي أوردها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه:(التخلف الاجتماعي:مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور).
يمهد المؤلف لهذا الفصل (العقلية المتخلفة) بالحديث عن مزايا دراسة العقليات الحاكمة، وكيف تؤثر هذه العقليات سلبا وإيجابا على خطط التنمية ومسار الحياة العام والشخصي للمجتمعات، ذلك بأن العقلية “إذا اتسمت بالجمود والقطيعة تؤدي إلى خلق عقبات معرفية جدية تعرقل خطط التنمية التي لا بد أن تنطلق من التقدير الدينامي الشمولي لذلك الواقع”. ثم هي بعد ذلك “تعطي المبررات الذهنية لمقاومة التغيير”، كما أنها قد تصل إلى درجة من الجمود تجعلها تعيد”تفسير المنهجيات النظرية والأساليب التقنية المستخدمة في التنمية من خلال القوالب التقليدية للذهنية المتخلفة، مما يفقدها بدورها قدرتها التغييرية”.
يعالج المؤلف (العقلية المتخلفة) في مرحلتين، الأولى مرحلة رصد الملامح والخصائص الأساسية، والثانية محاولة بحث الأسباب والقوى المولدة لهذه العقلية، التي تغذيها وتعمل على استمرارها، ثم يقسم خصائص العقلية المتخلفة إلى قسمين هما، خصائص منهجية وخصائص انفعالية، ولنبدأ بالأولى:
الخصائص الذهنية المنهجية
العقلية المتخلفة معاقة منهجيا، إنها تنتج الأفكار وتتعامل مع الأشياء بأدوات مختلة وقاصرة وبالتالي ينتج عنها مزيد من الارتباك والفوضى بدل التطور والنظام، وتتلخص الخصائص الذهنية المنهجية ـ حسب المؤلف ـ في أمرين أساسيين، هما:اضطراب منهجية التفكير وقصور الفكر الجدلي، وتتلخص مظاهر تأثير الحالتين في “صعوبة السيطرة على الواقع بكل تفصحاته”، مما تنتج عنه حالة من (الخصاء الذهني)، ويعني (الخصاء الذهني) عند المؤلف نوع من صد القدرة على الفهم والعجز عن توكيد الذات في واجهة العالم، ويقسم المؤلف الخصائص الذهنية المنهجية للتخلف إلى قسمين:
1 ـ اضطراب منهجية التفكير
إن اضطراب منهجية التفكير الذي تتسم به العقلية المتخلفة يظهر في سوء التنظيم حين تتصدى للواقع، فالعقلية المتخلفة لا تواجه الحياة بخطة قائمة على منطق تسلسلي مرتب، إنها “تقترب من الواقع وتتعامل معه دون خطة مسبقة”، وبالتالي بدلا من تنظيم الواقع والسيطرة عليه تزيد حدة ما يبدو عليه من فوضى وانعدام في التماسك.
ويضرب المؤلف مثالا واقعيا بالنقاشات التي تدور في المجتمعات المتخلفة، والتي تظل تضرب في كل اتجاه وتنشغل بجوانب الموضوع عن لبه، وفي النهاية ينفض سامر المجتمعين دون تكوين صورة واضحة عن المسألة وإيجاد الحلول لها، وتطرح قضايا كثيرة ثم يظل الحديث عنها سطحيا وربما يتم التحول عنها عندما تعترض دونها عقبات وصعوبات تتطلب جهدا لاستجلائها وحلها. ولا تقتصر هذه الظاهرة في المجتمعات المتخلفة على غير المتعلمين، بل هي بين المتعلمين أكثر استشراء.
المظهر الثاني لاضطراب منهجية التفكير في العقلية المتخلفة هو (قصور عمليات التحليل والتوليف)، فالإنسان المتخلف لا يتجاوز الملاحظة الساذجة والانطباع الأولي، ويكتفي بالمعرفة الحدسية التي لا تذهب بعيدا في البحث العلمي، بينما يعتبر تحليل الظواهر عمقا واتساعا هو الشرط الأساسي للسيطرة على الواقع، وبمقدار عمق التحليل ترتقي الاستنتاجات.
إن العقلية المتخلفة ـ حسب المؤلف ـ مصابة بما يسمى في علم النفس (الحشرية الممنوعة)، فهي أسيرة النقاط العمياء وهو ما يجعل نتائجها مليئة بالثغرات والهنات، وبقدر ما تعجز العقلية المتخلفة عن التحليل تعجز أيضا عن التوليف الذي هو قطف لعملية التحليل وبدونه يصبح التحليل ترفا عقليا لا قيمة له في ميزان الواقع، ذلك بأن القدرة على التوليف بين أجزاء الصورة “هو الذي يسمح بالخروج بتصورات متماسكة عن الواقع، تؤدي إلى قرارات فعالة.
ثم إن من مظاهر اضطراب التفكير لدى العقلية المتخلفة، “انعدام الدقة والضبط في التصدي للواقع”، فكل شيء إجمالي وانطباعي ولا مجال فيه للدقة الرياضية، “كل شيء يعمل كيفما اتفق، من تصليح الآلة إلى تنفيذ المهمات، إلى مسائل الإنتاج ووضع خطط مختلف المشاريع”، إن ضبط الأمور يعني السيطرة على الوجود، والعقلية المتخلف تفقد السيطرة على نفسها أحرى أن تسيطر على الواقع من حولها.
وعلى مستوى المكان، يرى المؤلف أن الإنسان المتخلف تجزيئي النظرة قصير التطلع، فهو لا ينظر إلى أبعد من محيطه المباشر، وهو ما يؤدي به إلى بروز ظواهر نكوصية في التفكير الذي يكتسب ساعتئذ خصائص طفلية وبدائية، ولا يقتصر الأمر في البلدان النامية على المستوى الفردي، بل إن الدول ذاتها تعاني من هذه الجزئية التي تنعكس في التخطيط؛ حيث “توضع مشاريع كثيرة وتصرف عليها الأموال الطائلة ولكنها تظل مشاريع معزولة وقطاعية، لا تدخل ضمن تخطيط شامل، ولا تدرس أبعادها ولا نتائجها انطلاقا من حالة مختلف القطاعات”.
2 ـ قصور التفكير الجدلي
ويعتبره المؤلف لب الذهنية المتخلفة، ويعني التفكير الجدلي أن المتناقضات يؤثر بعضها في بعضها الآخر في وحدة جدلية كلية، لكن الذهنية المتخلفة تقوم على “مبدأ الفصل والعزل”، حيث ترى أن كل ظاهرة منفصلة عن بقية الظواهر الأخرى، وبالتالي “تخفق في إدراك الترابط والتفاعل الشبكي والتاريخي بين الظواهر، وما ينتج عنه من حركية وتغير”.
كما أن من عوائق الذهنية المتخلفة أنها تنطلق من “مبدأ السببية الميكانيكية في النظر للأمور، السببية ذات الاتجاه الواحد” أي أن السبب يؤثر في النتيجة ولكن ليس العكس، وينعكس هذا التصور الأحادي والميكانيكي للسببية على تقدير الذهنية المتخلفة لدور كل من طرفي التناقض(الأساسي والثانوي ـ المحوري والحدودي ـ القاعدي والعابر).
إن هذا القصور في التفكير الجدلي “يخلق عند الإنسان المتخلف ـ حسب المؤلف ـ حالة من التصلب الذهني، تجعله يفتقر إلى المرونة وإلى القدرة على بحث الأمور من جوانب متعددة”، مما يحجب عنه رؤية النسبية في الأشياء ويعزز الإطلاقية الساذجة في أحكامه وميوله ومواقفه.
ويؤكد المؤلف في ختامه تحليله للذهنية المتخلفة على أن هذا الخلل ليس عضويا ولا انحطاطا تطوريا ـ كما يحلو لبعض الغربيين المتحيزين ـ، بل هو نتاج البنية الاجتماعية المتخلفة، ووليد عوامل القهر والاعتباط التي يخضع لها الإنسان المتخلف، فـ”قصور منهجية التفكير يتناسب بشدة مع درجة القهر المفروض، وجمود البنية الاجتماعية”.