تَداول هذه العبارة المركَّبة في مجالات تصنيف العلوم؛ ولأن موضوعنا هو وصف العبارة وشرحها، فلن نتَّجه إلى سياق المدح أو الذم للعلوم، بل إنّنا نتقصَّدُ الغرض من وضع هذه المفردة، خاصة أنّها -أي العلوم العقلية – مفهومٌ قلقٌ تارة، واحْتِجَاجِيٌّ تارة أخرى، أي إنّه استعمل بوصفه أداة نقد لمنظومة العلوم النَّقلية.
وعليه، فإن العلوم العقلية والعلوم الحِكمية والفلسفية ألفاظ متقاربة في استعمالاتها العديدة، يقول ابن خلدون إظهارًا لهذه الفكرة: ” وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنّه ذو فكر فهي غير مختصّة بملّة، بل يوجد النّظر فيها لأهل الملل كلِّهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النّوع الإنساني، منذ كان عمران الخليقة، وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة”[1].
وإذ عرف هذا -كما جاء في النص المذكور- فإنّنا نستنتج ما يلي:
- العلوم العقلية اختصاص إنساني بوجه لا يشاركه فيه غيره من الموجودات الطبيعية، فبرغم أن الإنسان هو آخر الموجودات الطّبيعية، إلا إنّه أوَّل الموجودات العقلية التي اختُصَّت بهذا الترَّكيب بين التَّكوين الطَّبيعي والتَّكوين الرُّوحي، فالميزة في هذا “أن باطنه مشتملٌ على كل إمكانات الكون الكلي، ذلك أنّه حقّق في ذاته بوصفه كونًا أصغر انعكاسًا لصفات الكون الأكبر”[2]
الاستواء في التوزيع العادل لهذه الأفعال العقلية، وفي هذا يقول الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت“R.Descartes : “إنّ الصّواب أعدل أشياء الكون توزّعًا بين النّاس… وأنّ القدرة على الحكم الجيّد، والتّمييز بين الحقيقة والخطأ، وهي ما يُسَمىَّ -على وجه التّحديد- صوابًا أو عقلًا، متكافئة بالطّبع لدى جميع النّاس، وكذلك على أنّ تنوُّع آرائنا لا يحصل من كون البعض أكثر تعقُّلا من البعض الآخر، بل من كوننا نسوق أفكارنَا على دروب مختلفة”[3].
وإذ تبيّن لنا الوصف الكوني للعلوم العقلية من حيث هي منزعٌ عقلي إنساني يولِّد العلوم الكونية كذلك، فيجْدر بنا أن نشير إلى الشيء الذي يقابل هذه العلوم المسماة بالعقلية، وهل هذه المقابلة تُوجب التعارض والضدّية التَّنافرية، أم أنّها في تداخل معرفي مع ما يقابلها من العلوم الأخرى؟
يشير أبو الحسن العامري إلى صنف العلوم العقلية أو الحكمية بقوله: “وأما العلوم الحكمية فهي تفتنُّ أيضًا إلى صناعات ثلاث، إحداها حسية: وهي صناعة الطّبيعيين، والثانية عقلية: وهي صناعة الإلهيين، والثالثة مشتركة بين الحس والعقل: وهي صناعة الرياضيين. ثم تنزّلُ صناعة المنطق من الصناعات الثلاث منزلة الآلة المعينة عليها”[4]. والمُلابس لهذه الصناعات لا يقل قيمة عن الملابس لصناعات العلوم المليّة، ولا يوجد بينها وبين هذه الأخيرة مدافعة أو عناد؛ إذ إن فوائدها -أي العلوم العقلية- حسب ما يرى العامري هي:
- الأنس باستكمال الفضيلة الإنسانية، باستيلائه على حقائق الموجودات، والتمكّن من التصرّف فيها.
- الخُلوص إلى مواقع الحكمة فيما أنشأه الصانع -جلَّ جلاه- من أصناف الخليقة، والتحقّق لعِللها ومعلولاتها، وما تتّصل به من النّظام العجيب، والرَّصف الأنيق.
- الارتياض في مطلب البرهان على الدَّعاوى المسموعة، والسَّلامة من وصْمة التّقليد للمذاهب الواهية”[5].
يظهر -إذن- أن العلوم العقلية متعدّدة في موضوعاتها، وغرضها متكامل: أخلاقي، وعلمي ومنهجي.
- فالأول مَداره التَّحلي العملي بالأخلاق الفاضلة التي يوجبها العقل،
- والثَّاني علمي تجريبي مداره اكتشاف القوانين الطبيعية،
- والثَّالث منهجي، مداره إتقان المنهج المنطقي والميزان المعرفي الذي يعرف به صحيح الفكر من خطئه، ويعرف به باطل الاعتقاد من حقّانيته، وخير الأفعال من شرّها.
أما إذا صرفنا النّظر إلى أبي حامد الغزالي، فإننا نجده بعد أن قسَّم العلوم إلى قسم شرعي وآخر عقلي. وقسَّم الشَّرعي إلى أصول هي: علم التوحيد، والتفسير، وعلم الأخبار، وفروع -أو علم الفروع العملي- وهي: حق الله تعالى، وحق العباد، وحق النّفس.
وقسَّم العلم العقلي أيضًا فجعله في ثلاث مراتب هي:
- العلم الرياضي والمنطقي،
- والعلم الطبيعي،
- والعلم الإلهي، فإنّنا نجده يقول قولًا غير معهود فيما يخص العلم العقلي.
ووجه هذا نتلحَّظُه من حيث دمجه للعلم العقلي بالتصوّف، يقول الغزالي مبيِّنًا هذه الحقيقة: “اعلم أن العلم العقلي مفرد بذاته، ويتولّد منه علم مركّب يوجد فيه جميع أحوال العِلمين المفردين، وذلك العلم المركّب علم الصوفية، وطريقة أحوالهم، فإنّ لهم علمًا خاصًّا بطريقةٍ واضحةٍ مجموعةٍ من العلمين وعلمهم يشتمل على الحال، والوقت، والسماع، والوَجْد، والشوق، والسُّكْر، والصحو، والإثبات، والمحو، والفقر، والفناء، والولاية والإرادة، والشيخ والمريد، وما يتعلّق بأحوالهم مع الزّوائد والأوصاف والمقامات”[6].
وهنا يعدُّ الغزالي التصوف من العلوم العقلية حال تَركّبها لا انفرادها، ووجه هذا الإقرار -فيما يظهر لنا- أن التصوف من العلوم العقلية العملية، فالعقل -كما يتعيّن في الممارسة الإسلامية خاصة في قطاعها الأخلاقي التكاملي- ليس أداة معرفية منفصلة عن التَّقويمات الأخلاقية العملية، بل إن معناه لا يكتمل، وصورته لا تتضح، إلاّ بعد أن يجمع الإنسان في سلوكه بين أفعال القلب وأفعال الجوارح، ومن دمج بينهما في سلوكه فهو العاقل على الأتم.
يظهر لنا -إذن- أن العلوم العقلية لها وجه نظري، وثمراته هي العلم الإلهي وعلوم الطبيعة والرياضيات، وآلة هذه جميعًا هي الآلة المنطقية. ووجه عملي، وثمراته هي علم الأخلاق والتَّصوف وسياسة النّفس. والغرض من هذه العلوم هو بناء السّلوك الأخلاقي القويم على أسس عقلية أو علمية، وإلى هذا الدّور والمعنى للعلوم العقلية يشير أبو بكر محمد بن زكريا الرَّازي في كتابه: ” الطّب الرُّوحاني”، فالعُلوم العقلية تُماثل “الطّب الروحاني” من حيث المعنى والقَصْد عند الرازي؛ لأنّه -أي الطب الروحاني- يعني “الإقناع بالحُجَج والبراهين في تعديل أفعال هذه النُّفوس لئلا تَقْصر عما أُريد بها ولئلا تُجاوزه”[7].
وهذه الطَّريقة في التَّوجيه نحو النَّماذج الأخلاقية المُثلى، عن طريق الإقناع ومخاطبة العقل بالدَّليل العلمي والشَّواهد النَّفسية[8]، نستطيع استجلابها والتَّحاور مع فصولها؛ لأجل إصلاح أخلاق النّفس اليوم، بَدَفْعِ الأخلاق المذمومة واطّراح العوائد العائقة عن المطلوب، وصَرف الجواذب نحو المُلهيات الخارجية، خاصة أن صفة الثقافة اليوم أنها باتت مُنغرسة في الفردانية، ويتملّكها ميلٌ شديدٌ إلى كسر الإلزام الأخلاقي، والانهماك في السَّعادة الفردية النّفسية.