يأتي المذهب المالكي من حيث الترتيب الزمني ثاني المذاهب الفقهية المعتمدة، المدونة فتاواها في الكتب والمصنفات، الحائز على الخدمة المتميزة من أصحاب وتلاميذ مؤسس المذهب، وينسب تأسيس هذا المذهب إلى الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وعالم المدينة. وهو من أصحِّ المذاهب وأعدلها في العقيدة والأحكام، يقول ابن تيمية: “مذهب أهل المدينة النبوية – دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ فيها سن الله لرسوله محمد ﷺ سنن الإسلام وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله وبها كان الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم – مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا؛ في الأصول والفروع”[1]. وخلال هذا المقال نتعرف على ترجمة موجزة عن الإمام مالك وتكوين مذهبه في المدينة المنورة.
ترجمة الإمام مالك
ولد مالك على الأصح: في سنة ثلاث وتسعين، عام موت أنس خادم رسول الله -ﷺ- ونشأ في صون ورفاهية وتجمل. وطلب العلم وهو حدث بعيد موت القاسم، وسالم.
فأخذ عن: نافع، وسعيد المقبري، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبد الله بن دينار، وخلق كثيرين.
طلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور، وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، وإلى أن مات[2].
توجه الإمام مالك إلى طلب العلم ووجد في نيل مراده أسرة تعينه على هذا الهدف حتى وصل غايته، فكانت والدته تشجعه على طلب العلم والإقبال عليه، قال مالك: “قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم. فألبستني ثياباً مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها. ثم قالت: اذهب فاكتب الآن.
وقال رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه”[3].
وكان يتصف بالتحري فيمن يأخذ عنه العلم، حتى عرف بالانتقاء في أعيان العلماء ورواة الحديث، وهذا الانتقاد الشديد في الرجال لم يؤثر في عدد العلماء الذين تعلم على أيديهم، “فقد أخذ مالك على تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين، وستمائة من تابعيهم ممن اختاره، وارتضى دينه، وفقهه، وقيامه بحق الرواية وشروطها، وخلصت الثقة به، وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية[4].
ومن أشهر كبار العلماء الذين أخذ عنهم العلم وتخرج على يديهم، عبد الرحمن بن هرمز، لازمه فترة كبيرة انقطع فيها عن غيره، من قوة ثقته بعلمه وفقهه، والتزم مجالسه قرابة ثلاثين سنة.
ومما حكاه مالك عن نفسه قال: كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوماً علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت فقال لي أبي ألهتك الحمام عن طلب العلم فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين. – وفي رواية ثمان سنين لم أخلط بغيره – ، وكنت أجعل في كفي تمراً وأناوله صبيانه وأقول لهم أن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول، وقال ابن هرمز يوماً لجاريته من بالباب فلم ترَ إلا مالكاً فرجعت فقالت له ما ثم إلا ذاك الأشقر فقال له دعيه فذلك عالم الناس. بل نقل أن الأمام مالك اتخذ تباناً محشواً للجلوس على باب هرمز يتقي به برد حجر هناك.
وقد عني الإمام مالك بحديث الرسول ﷺ عناية شديدة وخاصة حتى صار فيه إماما فريدا، وأصبح سنده أصح الأسانيد عند علماء السنة، وقد أكثر الرواية عن محمد بن مسلم الزهري حتى قال مالك: لقد سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة، ما حدثت بها قط، ولا أحدث بها.
وممن أثر فيه من العلماء، ربيعة بن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي، أخذ عنه مالك الرواية والإفتاء وتأثر به، حتى أتقن العلم فانتقل إلى حلقته الخاصة وانبرى للعلم وجلس للإفتاء والإفادة، قال الليث: قدمنا فإذا عبد العزيز بن أبي سلمة ومالك قد اكتنفا ربيعة وعلاه عبد العزيز، ثم قدمت مرة أخرى فإذا مالك علا عبد العزيز.
قال محمد بن فليح: كنت عند ربيعة ومالك يجلس إليه ثم نبل مالك واحتيج إليه. فانتقل من مجلس ربيعة وطلب منه العلم فكنت فيمن انتقل إليه من مجلس ربيعة وكنا جماعة أمرني بذلك أبي.
وقد أفتى مالك في حياة نافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وربيعة الرأي وكبار العلماء، وتفوق عليهم جميعا حتى أطلق عليه: عالم المدينة.
مآثره الجميلة وثناء العلماء عليه
جاء في الفكر السامي أن الحظ الذي حصل لمالك في الرواة عنه من الناس في الحديث لم يحصل لغيره قط، روى عنه ما ينيف عن ألف وثلاثمائة من أعلام الأقطار الإسلامية من الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر وأفريقية والأندلس، والذين تقدَّمت أسماء بلدانهم رواة حديثه، وروى عنه سواهم كثير، أما رواة الفقه عنه كابن القاسم، ونافع، وابن وهب، وغيرهم، فهم أيضًا كثير[5].
قال عنه الذهبي: كان عالم المدينة في زمانه بعد رسول الله -ﷺ- وصاحبيه، زيد بن ثابت، وعائشة، ثم ابن عمر، ثم سعيد بن المسيب، ثم الزهري، ثم عبيد الله بن عمر، ثم مالك.
واختار الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، أن الإمام مالك أعلم من بالمدينة من أقرانه فقال: ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم، والفقه، والجلالة، والحفظ، فقد كان بها بعدَ الصحابة مثل سعيد بن المسيب، والفقهاء السبعة … وطبقتهم،
ثم زيد بن أسلم، وابن شهاب، وأبي الزناد، ويحيى بن سعيد، وصفوان بن سليم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وطبقتهم،
فلما تفانوا، اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون .. فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق[6].
كتاب الموطأ الجامع بين السنة والفقه
ألف الإمام مالك رحمه الله كتابه النفيس “الموطأ” الذي أطبق عليه الأئمة الأعلام أنه من أحسن الكتب تأليفا وتصنيفا، وكان مما زاد شهرة مالك رحمه الله، ويدل على فضله في تدوين الفقه، وهو أول من فتح باب تفسير غريب الحديث كما قال عياض في المدارك، ففتح بموطأه الباب للمؤلفين من علماء الإسلام, وعلَّمَهم كيفية التأليف والتصنيف وحسن التبويب, فاستحسن طريقه كل من أتى بعده ليومنا هذا فلسكوه ففاتهم بالتقدم[7].
عرض عليه الخليفة العباسي هارون الرشيد الخروج معه العراق فأبى، وعزم أن يحمل الناس على كتابه (الموطأ)، فيعملوا به في جميع أمصار المسلمين فأبى، فكان جوابه: أن الصحابة رضوان الله عليهم تفرقوا في الأمصار وحملوا معهم الروايات .. فطلب ترك الناس على ما دانوا الله بها[8].
ولخص مناع القطان أبرز ما يشتمل عليه كتاب الموطأ، فوصف أنه كتاب حديث وسنة وفقه، ومنهج مالك في تدوينه أن يذكر الأحاديث في الموضوع الفقهي الذي اجتهد فيه، ثم يذكر عمل أهل المدينة المجمع عليه، ثم يذكر رأي من التقى بهم من التابعين وأهل الفقه، ثم يذكر الرأي المشهور بالمدينة، فإن لم يكن شيء من ذلك بين يديه في المسألة، اجتهد رأيه على ضوء ما يعلم من الأحاديث والفتاوى والأقضية. والذي يتصفح الموطأ يجد هذا النهج واضحا فيه[9].
أطوار مذهب المالكية في الفقه وأصوله
بدأ المذهب بمرحلة التكوين من وقت جلوس الإمام مالك رحمه للفتوى والتعليم في المسجد النبوي، وتميزت هذه الفترة بجمع الروايات والسماعات عن الإمام مالك وترتيبها، وتدوينها في مصنفات معتمدة منها: الأمهات الأربع، وهي: (المدونة، والواضحة والعتبية والموازية). وكانت هذه الكتب تجمع اختيارات الإمام مالك إلى جانب ما يضم إليها من اجتهادات وتخريجات تلاميذ الإمام.
ثم تطور المذهب على يد نوابغ علماء المالكية الذين قاموا بالتفريع على المذهب والترجيح بين أقوال العلماء من المذهب، وبدأت هذه المرحلة مع بداية القرن الرابع وانتهت بنهاية القرن السادس أو بوفاة ابن شاس (610 أو 616 هـ). وغلبت على الفقه المالكي في هذه الفترة نزعة الضبط والتحرير، والتمحيص والتنقيح والتفريع. ومن أشهر المصنفات المختصرة في هذه المرحلة: التفريع لابن الجلاب، وتهذيب المدونة للبراذعي.
ثم استقر المذهب ببداية القرن السابع الهجري تقريبا أو بظهور مختصر ابن الحاجب المعروف بجامع الأمهات، واستمر إلى العصر الحاضر[10].
أما أصول الاجتهاد في المذهب المالكي، فقد بني المذهب على أصول وقواعد متعددة تربو على عشرة أدلة، لذلك قيل إنه أكثر المذاهب الفقهية أصولا، وأشار الإمام مالك إليها على سبيل الإجمال: “الحكم الذي يحكم به بين الناس حكمان: ما في كتاب الله، أو أحكمته السنة، فذلك الحكم الواجب، وذلك الصواب. والحكم الذي يجتهد فيه العالم برأيه فلعله يوفق”. وهذا يجمع بين الأدلة النقلية والعقلية.
عمل أهل المدينة
وأبرز ما يميز مذهب الإمام مالك عن غيره، إلى جانب الاعتداد بالمصلحة المرسلة، هو الترجيح بناء على عمل أهل المدينة، “ذهب مالك إلى أن المدينة هي دار الهجرة، وبها تنزل القرآن، وأقام رسول الله ﷺ، وأقام صحابته، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل، وبما كان من بيان رسول الله ﷺ للوحين وهذه ميزات ليست لغيرهم، وعلى هذا فالحق لا يخرج عما يذهبون إليه؛ فيكون عملهم حجة، يقدم على القياس، وعلى خبر الواحد، وفي كتاب الإمام مالك إلى الليث بن سعد: “إن الناس تبع لأهل المدينة، التي إليها كانت الهجرة، وبها تنزل القرآن[11].
[1] مجموع الفتاوى (20/ 294)
[2] سير أعلام النبلاء (8/55).
[3] ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض (1/130).
[4] تهذيب الأسماء واللغات، النووي (2/78-79).
[5] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/499).
[6] سير أعلام النبلاء – ط الرسالة (8/ 58).
[7] الفكر السامي (1/449).
[8] سير أعلام النبلاء (8/79).
[9] تاريخ التشريع الإسلامي (351).
[10] المذاهب الفقهية الأربعة (71).
[11] تاريخ التشريع الإسلامي (ص353)