مشهدان من تاريخنا، هما محور حديث اليوم..المشهد الأول للصحابي ربعي بن عامر وهو في مجلس رستم فرخزاد، قائد جيش الفرس في عهد آخر ملوك الدولة الساسانية يزدجرد الثالث أثناء معركة القادسية الخالدة، والمشهد الثاني لابن الأثير وهو يتحدث عن بلاء المغول، الذي عم أجزاء من العالم كثيرة، وكان لبلاد المسلمين النصيب الأكبر.
سأبدأ بالثاني قبل الأول، لبيان التحول الواضح الكبير لحالة الأمة من العزة إلى الذلة. فالمؤرخ المعروف بابن الأثير، صاحب كتاب الكامل في التاريخ، حين وصل في تأريخ وتسجيل الحوادث في كتابه إلى سنوات ظهور وباء المغول، وما أحدثوه في العالمين من إهلاك للحرث والنسل وخراب الديار، بدأ يصف سبب توقفه عن كتابة التاريخ لفترة معينة. فأبدى رأيه في وباء أو كارثة المغول التي اجتاحت العالم الإسلامي بشكل يدعوك من فورك إلى تخيل واستحضار الأحداث في ذهنك، كما لو أنها تحدث أمامك، لتدرك بعدها معنى البلاء أو الوباء أو العذاب.. فماذا قال ابن الأثير في وصفه؟
يقول: “لقد بقيت عدة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى. فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً. إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يُجدي نفعاً. فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين. فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله “بختنصر” ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس. وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد -ويقصد المغول- التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟ وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قُتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يُبقي على من اتبعه، ويُهلك من خالفه. وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال. شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.” انتهى.
البُعد عن الدين مذلة
إنها حقيقة أثبتتها الأيام بالتجارب والوقائع. فما من مرة ابتعد المسلمون عن دينهم واشتغلوا بالعاجلة أكثر من الآخرة، إلا ضرب الله عليهم الذلة، وأصابهم من البلاء والوباء الشيء الكثير. والحديث الصحيح واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. وباء المغول كان هو العذاب لا غيره، والمذلة لا غيرها. والسبب دون شك، حب الدنيا وكراهية الموت، أو الوهن كما في الحديث الشريف.
لكن نجد على النقيض من ذلك في مشهد ربعي بن عامر، وهو مرسل من لدن قائد جيش المسلمين، سعد بن أبي وقاص إلى قائد جيوش الفرس. نجده يدخل بفرسه إلى خيمة رستم بثيابه المتواضعة، فيما رستم في قمة زينته وهيبته. فجلس ربعي على الأرض، فقال له رستم: ما دعاك لهذا؟ فأجابه: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.
ثم بدأ هذا الحوار:
قال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي، بثقة المؤمن المعتز بدينه: لقد ابتعثنا اللهُ لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر. قال له رستم: قد تموتون قبل ذلك. فأجابه: وعدنا الله عز وجل الجنة لمن مات على ذلك، والظفر لمن بقي منا.
طلب رستم مهلة ليتفاكر مع قادته. فأمهله ربعي يومين، لكن رستم طلب أكثر ليخاطب رؤسائه في المدائن. فقال له ربعي: إن رسول الله قد سنَّ لنا ألا نمكّن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فإني أعطيك ثلاثة أيام بعدها؛ اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية. وإن كنتَ لنصرنا محتاجاً نصرناك، وإن كنت عن نصرنا غنياً رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي، ألا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا.
قال له رستم: أسيدهم أنت؟ قال: بل رجل من الجيش، لكن أدنانا يجير على أعلانا -يعني إذا أحدنا أعطى وعداً فلا بد وأن ينفذه أعلانا- ثم عاد رستم يكلم قادته مستغرباً من منطق ربعي وقوته وثقته بنفسه، وهو محارب في جيش المسلمين وليس قائداً فيه. يتحدث رستم إلى قادته آملاً أن يقتنعوا بالصلح وتجنب الحرب. لكنهم رفضوا ولجُّوا وعاندوا. فكان القتال المعروف بالقادسية، والذي انتهى بنصر مشهود، تبعه بعد حين من الدهر قليل، زوال دولة كسرى.
مشهد الإذلال والإذعان
بعد مشهد العزة والهيبة، نجد مشهداً غاية في الذل والهوان، حين يتعمق حب الدنيا في النفوس وكراهية الموت كما في الحديث. مشهد الإذلال الدامي، المادي والمعنوي، وقد تجلّى في سقوط الخلافة الإسلامية بمقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله وبشكل مهين، بعد أن أضاع الأمانة ولم ينصح للأمة، ولم يجاهد في الله حق جهاده. فقد ترك أمر الدولة في يد خائن من غير الملة، ابن العلقمي ومن معه، الذي اتفق مع هولاكو قائد الهمجيين المغول، لتصفية مشهد من مشاهد عزة الإسلام المتمثلة في الخلافة، حيث أذعن الخليفة لشروط هولاكو خائفاً مرتعباً ذليلاً، بعد أن أقنعه ابن العلقمي بالصلح وتسليم المدينة من أجل صالح البلاد والعباد. فسلم رقبته ورقاب حاشيته وقادته وعلماء الدولة، بل الدولة كلها، لمتوحش لئيم مثل هولاكو، لا يعرف عهداً ولا وعداً، فأهلك الحرث والنسل، لتسقط الخلافة لأول مرة بعد قرون عدة. وكان الوضع آنذاك يشهد تدهوراً مماثلاً للدولة السلجوقية العظيمة، التي سيطر على مفاصلها المغول أيضاً، وكثر فيها الخونة من المسلمين المتعاونين معهم، في مشهد دفع بابن الأثير إلى أن يقول كلماته الحزينة السالفة، قبل أن يبدأ في تكملة كتابه وتسطير تاريخ دام موجع لأمة الإسلام.
أمة لا تموت
هذه حقيقة أخرى.. أمة الإسلام ما ظهرت لتموت، بل لتبقى إلى يوم الدين. قد تضعف وتنتكس، لكنها لا تموت. إذ مع الوباء المغولي الذي سيطر على عالم المسلمين كما غيرهم أيضاً، كانت في الوقت نفسه، نبتة أخرى قد بدأت تزهر وتنمو وتمتد جذورها إلى الأعماق، ويقوى جذعها وتتماسك أغصانها شيئاً فشيئا، مصداقاً لقوله تعالى (فإنّ مع العسر يسرا)، وتمثلت تلك النبتة في قبيلة بدوية من أتراك الأوغوز بقيادة سليمان شاه، ومن بعده ابنه الغازي أرطغرل.
بدأت القبيلة في مسيرة النهوض بالأمة، عبر تكاتفهم مع آخر قلاع الإسلام في مصر بقيادة الظاهر بيبرس وقطز، وتم دحر المغول ودفعهم إلى حيث ألقت أم قشعم، والرجوع إلى جحورهم العفنة، لتبدأ مع قيام الدولة العثمانية عودة العزة للإسلام والمسلمين تدريجياً على يد أبناء السلطان عثمان: أورخان وبايزيد وسليمان القانوني وغيرهم.. يحكمون نصف العالم لستة قرون متواصلة مرهوبي الجانب، ينشرون الإسلام في أوروبا، حتى نال أحدهم وهو محمد الفاتح، شرف فتح القسطنطينية وتحقيق البشارة النبوية، في تأكيد جديد لحقيقة لا تتغير، هي أن نيل العزة والمهابة إنما عبر الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه.
اليوم تعيش الأمة في مشهد مماثل أثناء انتشار وباء المغول، والتفرقة التي كان عليها المسلمون. لكن مع ذلك نرى ومضات هنا وهناك في العالم الإسلامي، وهي لا شك ستتجمع معاً بصورة وأخرى في وقت قريب قادم بإذن الله، لبدء نهضة جديدة، وإنهاء وباء الصهيونية الظالمة، والرأسمالية المتوحشة، وبقية قوى الشر والطغيان على شكل دول ومؤسسات وهيئات دولية، والتي ما زادت العالمين غير تخسير (ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا)