رغم أن علامة القراءات الراحل الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف، شيخ عموم المقارئ المصرية، قامة عالمية في تخصص القراءات الذي أفني فيه حياته إلا أنه لم يكن من عشاق الظهور في وسائل الإعلام، أو إن شئت فقل إن وسائل الإعلام لم تكن تولي علماء القراءات اهتماما مقارنة بغيرهم!!
لكن الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف كان صاحب جهود كبيرة عبر المقارئ المختلفة التي يشرف عليها ويحضرها بنفسه حتى وفاته، وكذلك سفراته الكثيرة لأغلب الدول الإسلامية والأوربية معلما وقارئا ومحكما في المسابقات الدولية.. وكأنه مصر على العطاء رغم عمره المديد…
“إسلام اون لاين” ذهبت إلى الشيخ ولم تكن تعلم أن حوارها معه سيكون حواره الخير قبل أن يوافيه أجله.. ولهذا تأتي اهمية الحوار لتوقيته، ولما تضمنه من خلاصات علمية ودعوية لرجل أفنى حياته طالب علم ومعلما لكتاب الله تعالى..
– فضيلة الشيخ دعنا نبدأ من الجدل الذي أثير حول قرار وزير الأوقاف تعيينك شيخا لعموم المقارئ المصرية بدلا من الشيخ أحمد المعصراوي.. فما تعليقك؟
معروف عني طوال عمري أنني لا أحب المناصب والكراسي وينبغي على الجميع أن يعلم أن أهل القرآن لابد أن يبتعدوا عن أي مشاحنات أو خلافات بسبب المناصب، ولمن لا يعلم فإن منصب شيخ عموم المقارئ المصرية قد عرض علي قبل 25 عاما، لكني رشحت تلميذي الدكتور أحمد المعصراوي الذي أعتز بأنه قرأ علي العشر الصغرى والكبرى، لكن بسبب انشغاله الدائم بالسفر لتحكيم المسابقات الدولية كثيرة، قام وزير الأوقاف بتكليفي بهذه المهمة – على غير سعي مني – فوافقت خدمة للقرآن الكريم وأهله، وأحب أن أؤكد للجميع على عمق العلاقة التي تجمعني بالدكتور المعصراوي، والتي لا يمكن أن تهتز تحت أي ظرف.
– عرضت عليك مشيخة المقارئ قبل عشرات السنين أيام الشيخ رزق حبة، ورفضتها، فلماذا؟
قلت لك قبل ذلك إن أهل القرآن يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم، فكيف لي أن أكون شيخًا لها والشيخ رزق خليل حبة موجودا، هذا شيخ مشايخ القراءات في العالم أجمع، هذا مما عددته أنا إساءة أدب مني لو قبلتها، وبعد وفاة الشيخ رزق، تقلدها تلميذي الشيخ الدكتور أحمد عيسى المعصراوي.. وأهل القرآن لا يزيدون بمنصب ولا ينقصون بنزعه منهم، فالقرآن قد رفعهم أو ينبغي أن يكونوا كذلك.. نسأل الله القبول..
مقارئ عديدة
– معروف أن فضيلتكم لم تصل شيخا لعموم المقارئ المصرية إلا بعد تاريخ طويل مع المقارئ فما أهمها ؟
عينت شيخًا لعدة مقارئ أولاً مسجد الهجيني بشبرا، ومسجد عين الحياة الذي كان يخطب فيه الشيخ عبد الحميد كشك، وكان يجلني وأجله، وكان يحضر المقرأة من أولها إلى آخرها ، ثم مقرأة مسجد الشعراني، ثم شيخًا لمقرأة مسجد السيدة نفيسة، ومقرأة مسجد السيدة سكينة، ثم شيخًا لمقرأة الأزهر إلى الآن، وكنت وكيلاً للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر.
أخطاء المصاحف
– بمناسبة أنك كنت وكيلا للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر، كيف يمكن الحد من أخطاء المصاحف؟
من المفترض أن تقوم الدولة بهذا الدور من خلال لجنة مراجعة المصحف بالأزهر المشهود لها بالمراجعة الدقيقة في خدمة كتاب الله وصيانته حيث تقوم بمراجعة وفحص كل ما يتعلق بالقرآن أو له صلة به حتى تطمئن تماما إليه، وذلك سواء كانت هذه المطبوعات في الداخل أو مستوردة من الخارج أو يتم تصديرها .. حيث يتم فحصها بدقة متناهية، وعمل تقرير دقيق جدا عنها، وأي تجاوز يتم فورا إبلاغ النيابة العامة عنه، وهناك تعاون تام مع أجهزة الأمن وكافة الأجهزة المعنية التي تتجاوب معنا فورا ، لأن هذه الأمور ليس فيها أي تراخي حيث يتم القبض على المخالف وإخضاعه لأحكام القانون وهي رادعة وتصل العقوبة أحيانا وخاصة في حالة التعمد إلي السجن والغرامة..
– هل هذا قاصر علي المصحف فقط أم كل ما يتعلق بالقرآن ؟
يتم فحص كل ما له صلة بالقرآن من علوم القرآن أو تفسير أو رسم المصحف أو المكتوب بخط اليد حيث يتم عمل تقرير وتدوين الملاحظات عنه ولا يتم إعطاء التصريح إلا بعد الاطمئنان التام وتنفيذ كافة الملاحظات..
كما يقوم الراغب في طباعة المصحف بتقديم طلب مرفق بعشر نسخ خالية من أية أخطاء ثم يتم تكرار فحص النسخ ولا يعطي التصريح بالطبع والتداول إلا بعد الفحص عددا من المرات والتأكد تماما من عدم وجود أي خطأ حتى لو في تشكيلة واحدة وبالتالي فإن هذه العملية صعبة ودقيقة ومعقدة
ضوابط الإجازة
– نسمع كثيرا من علماء القراءات مصطلح ” الإجازة ” فماذا يقصد بها وما هي ضوابطها بإيجاز؟
عرف علماء القراءات ” الإجازة ” بأنها عبارة عن نقل صوتي للقرآن الكريم من جيل إلى جيل، ويشهد من خلالها المجيز بأن تلاوة المجاز صحيحة تماما ومضبوطة بالأحكام والقواعد المتفق عليها..
ويتم هذا النقل كل شيخ عن الشيخ الذي قبله، وهي أمانة أمام الله في عنق الشيخ الذي يمنحها لذلك ينبغي على المجيز أن يؤديها إلى مستحقيها دون أي تهاون أو مجاملة ، هكذا كان درب السابقين وإنا على آثارهم مقتدون..
– لكن ألا ترى أن هناك من يتاجر في موضوع الإجازة عن طريق بيعها، أو منحها مجاملة لغير المستحق لها ؟
كل من يفعل ذلك على خطأ عظيم يصل لدرجة الجريمة في حق الله لأن أغلب من يمنحون الإجازة في قراءة القرآن لوجه الله تعالى، ولكن للأسف من يتاجر أو يتهاون فيها أساء للجميع… ومع ذلك يجب النظر إلى الجانب الايجابي الذي يتمثل في وجود غالبية من ذوي الكفاءة والخشية من الله..
عودة للمقارئ
– بالعودة إلى المقارئ مرة أخرى.. هل لفضيلتكم أن تحدثنا عن نشأتها وتاريخها ؟
تاريخيا نشأتها قديمة جداً حيث بدأت من الرسول ﷺ إذا اعتبرنا أن ما كان يفعله معه جبريل عليه السلام هو البداية الفعلية لهذه السلسلة التي بدأت من رب العزة سبحانه وتعالى إلى جبريل ثم النبي ﷺ ثم امته من بعده…
فقد كان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن كل عام فى رمضان مرة، وفى السنة التي مات فيها الرسول ﷺ دارسه القرآن وراجعه عليه مرتين.. وهذه تعد عند أهل القرآن بداية نشأة المقارئ..
ومن بعد النبي ﷺ اهتم بها كبار الصحابة.. ولكن النشأة التاريخية الحديثة لها في مصر على وجه الخصوص فقد بدأت عام 1860 ميلادية وتعاقب على مشيخة المقارئ منذ نشأتها 17 شيخاً فقط..
– لكن البعض يعتبر أن الشروط التي على أساسها يتم اختيار مشايخ للمقارئ صعبة جدا.. فما تعليقكم ؟
بكل تأكيد هي صعبة على غير الحفاظ المجيدين الفقهاء بقراءات الكتاب المجيد.. ولا بد بالمناسبة أن تكون كذلك فأي تهاون أو تراخ سيكون خيانة لكتاب الله تعالى.. ولذلك فهي تتم بعد إجراء اختبارات شديدة وصعبة للغاية، حيث يشترط أن يكون شيخ المقرأة عالماً بالقراءات المختلفة التي يتلى بها القرآن الكريم وخاصة القراءات السبع المشهورة على الأقل…
وحتى على المستوى الإداري فالاشتراك في هذه المقارئ له ضوابط، حيث توجد دفاتر حضور لأعضاء كل مقرأة، ويتم التفتيش المفاجئ على المقارئ من المقرأة العامة حتى تستمر المقارئ في عملها بجدية وبشكل دائم وجاد ومنضبط في قراءة القرآن الكريم..
– ألا تري أن هذه الشروط قد لا تكون متوافرة في بعض المناطق فما الحل ؟
إذا تعذر توافر الشروط السابقة كاملة فيشترط على الأقل أن يكون عارفا أصلاً وسنداً بقراءة حفص عن عاصم وهى القراءة الرسمية لمصر في تلاوة القرآن الكريم..
أوقاف المقارئ
– من أين يتم الإنفاق علي المقارئ التي تقارب الألفي مقرأة في المساجد المصرية؟
هناك العديد من مصادر تمويلها وأهمها: أوقاف أهل الخير منذ بدايتها قبل 150 عاما، وقد تم تقنين وضع هذه الأوقاف بما يضمن استمراريتها، ويحصل العضو بالمقرأة على أقل من مائة جنيه، لا تعتبر راتبا نظير عمل لأن عضوية المقرأة ليست وظيفة وإنما عضوية شرفية ويمارس كل إنسان فيها عمله الخاص به..
– هل لهذه المقارئ دور في معالجة عدم إجادة كثير من أئمة المساجد تلاوة القرآن الكريم؟
نعم، فقد أصدرت وزارة الأوقاف قراراً بإلحاق كل الأئمة الجدد بالمقارئ في مساجدهم أو محل إمامتهم حتى يجيدوا قراءته وتلاوته بشكل صحيح على يد “شيخ المقرأة”، وربطت الوزارة حوافز ومكافآت الأئمة بحضورهم المقرأة لتحسين قراءتهم حتى تكون سليمة لأن خطأ الإمام في القراءة مخز جداً.
الضرب مرفوض
– على ذكر قراءة القرآن على يد شيخ.. ذكرتم في مذكراتكم أن شيخك في الصغر كان يضرب بشدة من لا يحفظ أو يتكاسل ، فهل معنى هذا انك تؤيد الضرب ؟
لا ينبغي أن يكون الضرب هو العلاج الأول والأخير من يتكاسل في حفظ القرآن.. بل يجب أن يبدأ المحفظ بالترغيب أولا قدر استطاعته، فإذا فشل وتمادى المتكاسل في كسله فيجب التوجه إلى الضرب الخفيف وليس المبرح؛ لأن العنف الشديد والتمادي في التوبيخ الذي يصل إلى حد الإهانة قد يؤدي إلى كراهية الأطفال للقرآن كلية. بسبب ارتباطه في أذهانهم بذكريات مؤلمة ويصيب بعضهم بعقد نفسية من القرآن بدلا من حيه..
ولذلك يقول التربويون: إن المتعلم إذا أحب معلمه أحب ما يعلمه له ولو كان صعبا، وإذا كره المتعلم معلمه كره ما يعلمه له ولو كان سهلا…
فالتعليم والتحفيظ بالحب أفضل ألف مرة من الشدة والعنف، وهذا الأمر يكاد يكون عاما في أمور الحياة كلها، فاللين والرفق أفضل ألف مرة من الشدة والعنف لما فيهما من احترام لآدمية المتعلم وتوقير وإجلال للمعلم…
فضائيات القرآن
– ما رأيكم في القنوات الفضائية القرآنية، هل أسهمت في تسهيل حفظ القرآن وانتشاره في العالم ؟ وما هو تقييمكم لدورها ؟
لا شك أن من فكر في استخدام الفضائيات في نشر القرآن قراءة وتعليما له أجر عظيم لأنه استن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينتقص ذلك من أجورهم شيئا ، وفي مثل هذه الأفكار الطيبة الحسنة فليتنافس المتنافسون على نيل رضا الله وخدمة كتابه العظيم..
وتقييمي لها أنها مفيدة في الاستماع أفضل من التحفيظ لأن التلقي المباشر من الشيخ لراغب الحفظ ما زال هو الأفضل حتى الآن، رغم وجود العديد من وسائل الاتصال التي تستخدم في التحفيظ مثل التحفيظ الالكتروني ، ومع هذا ففي كل خير لأنه لا يخرج عن الخيرية التي اختص بها النبي ﷺ أهل القرآن حين قال :” خيركم من تعلم القرآن وعلمه “
رحلات خارجية
– قمت بالعديد من الرحلات الخارجية خدمة للقرآن فما أهم البلاد التي قمت بزيارتها ؟
زرت بلادًا عدة مصليًا وتاليًا بالقراءات، في شهر رمضان وغيره، ومعلِّمًا وحكَمًا في المسابقات، وكان شيخ الأزهر جاد الحق يختارني للذهاب إلى هذه الرحلات والمسابقات من تلك البلاد: سيدني، وملبورن، وتايلاند، وبومباي، وبنجلاديش، وشاركت في مسابقات عديدة في شرق آسيا، وزرت ساحل العاج، وحضرت رمضان في سيراليون، وروسيا، والعديد من الولايات الأمريكية مثل: نيويورك، وكاليفورنيا..
وأما البلدان العربية فزرت الإمارات وشاركت في لجنة مسابقة دبي والكويت وقطر والسعودية وغيرها.