توجد في كل الديانات السماوية والوضعية نبوءات تتحدث عن أمور مستقبلية كانتظار أشخاص أو حدوث فتوحات أو حروب… إلخ.
والنبوءة في اللغة تعني: “الإخبار عن الشيء قبل وقته حزْرًا وتخمينًا”([1])، و”الحَزْرُ: التقدير والخَرْصُ”([2]).
ونبوءات الأنبياء صادقة ومتحققة الوقوع، ولكن هناك نبوءات كاذبة أطلقها مدّعون ألبسوها لباسًا من القداسة لتحفيز المؤمنين بها أو تثبيتهم أو طمأنتهم … إلخ.
وهناك نبوءات مشتركة بين أهل الديانات السماوية، ولكن تختلف تفصيلاتها وتوجيهها بينهم؛ فعودة المسيح مذكورة في الديانات الثلاث، لكن مسيح اليهود غير مسيح النصارى والمسلمين، وما سيقوم به مختلف بين الديانات الثلاث.
وكذلك أمر المهدي المنتظر يختلف أمره بين السنة والشيعة.
وما يعنيني في هذا السياق ليس الحديث عن النبوءة باعتبارها أمرًا قدريًّا، ولكن ما يعنيني هنا هو تفاعل المؤمنين بها معها.
فاليهود عندهم نبوءة أنهم سوف يعودون إلى أرض الميعاد، وقد عملوا من قديم على تحقيق هذه النبوءة؛ فـ”في عام 1649م وجّه من هولندا عالما اللاهوت البيوريتيان (التطهريان) الإنجليزيان جوانا وألينزر كارترايت مذكرة إلى الحكومة البريطانية طالبا فيها (بأن يكون للشعب الإنجليزي ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إياها إرثًا أبديًّا).
وتكمن أهمية هذه المذكرة في أمرين:
الأمر الأول: أنها تعبر عن مدى التحول في النظرة إلى فلسطين (والقدس) من كونها أرض المسيح المقدسة (التي قامت الحروب الصليبية بحجتها) إلى كونها وطنًا لليهود.
الأمر الثاني: أنها كانت أول تعبير عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح تحتم أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين، وأن العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي إلى الإيمان بأن هاتين العودتين (عودة اليهود وعودة المسيح) يمكن أن تتحققا بعمل البشر”([3]).
فأن تصل القناعات لدى علماء اللاهوت المسيحيين إلى هذه الدرجة معناه أن اليهود حاولوا نشر معتقداتهم ونبوءاتهم من فترة قبل هذا التاريخ، وجاء هذا البيان كثمرة ونتاج لعمل سابق مضنٍ بين المسيحيين، وأن تتغير النظرة تجاه اليهود من قتلة للمسيح ومحاربين للمسيحية إلى نوع تفاهم واتفاق على قضايا عقدية أمر جدير بالاعتبار والنظر.
ولم يقتصر الأمر على علماء اللاهوت، بل كان العمل الشاق على كافة المستويات؛ فها هو اللورد أنطوني إشلي كوبر (1801-1885م) قد نشر مقالاً سنة 1839م يؤكد فيه “أن اليهود سيبقون غرباء حتى يعودوا إلى فلسطين، وأن الإنسان قادر على تحقيق إرادة الله بتسهيل هذه العودة”([4]).
ولم يكن العمل منصبًّا على أوروبا، بل كانت أمريكا ضمن منطقة العمل اليهودي الصهيوني من قديم، وقبل أن تصبح قوة عظمى؛ فالقس وليم بلاكستون (1841-1935م) يعتبر “أبرز دعاة العودة اليهودية إلى فلسطين، وكان أول من مارس الضغط السياسي في الولايات المتحدة من أجل تسريع هذه الدعوة.
وكان أول من بشر من خلال كتابه “المسيح آت” الذي صدر في العام 1878م، وذلك من خلال دعوته إلى الربط بين عودة اليهود إلى فلسطين وعودة المسيح إلى الأرض.
في العام نفسه الذي صدر فيه هذا الكتاب أسس بلاكستون منظمة تدعى (البعثة العبرية من أجل إسرائيل)، ولا تزال هذه المنظمة مستمرة في مهمتها حتى اليوم باسم جديد هو (الزمالة اليسوعية الأمريكية)، وتعتبر هذه المنظمة حتى اليوم قلب جهاز الضغط (Lobby) الصهيوني في الولايات المتحدة”([5]).
وإذا كان سعي اليهود والصهاينة يتجه نحو النخبة الثقافية والدينية والسياسية فإنها حاولت من خلال هذه النخبة أن تصل إلى القواعد؛ فيكون لها الظهير الشعبي المتحمس إلى هذه النبوءة أو المعتقد؛ فقد “تأسست في العام 1942 منظمة (المجلس المسيحي لفلسطين) على قاعدة وعد بلفور وتحقيقًا له من القساوسة البروتستانت، ومن شخصيات مالية وسياسية وحكومية بارزة.
هذه المنظمات رفعت شعار: الأرض الموعودة، وشعار: الشعب المختار، وربطت بين الشعارين.
وعلّمت الناس أن أفضل عمل يقوم به المسيحي تقربًا وزلفى إلى الله هو المساهمة المادية والمعنوية في تحقيق إرادة الله بإعادة اليهود إلى فلسطين تمهيدًا لعودة المسيح”([6]).
وأصبح هناك مزاوجة أو تلاق في المصالح أو العقائد بين اليهود والمسيحيين البروتستانت الأمر الذي استدعى أن يشتق البعض مصطلح “الصهيونية المسيحية”، بل ويقول: “كانت الصهيونية المسيحية أشد مغالاة وأكثر تطرفًا من الصهيونية اليهودية”([7]).
وأصبح متأصلاً لدى الصهيونية المسيحية أن “ثلاث إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح:
الإشارة الأولى: هي قيام إسرائيل.
الإشارة الثانية: هي احتلال مدينة القدس.
الإشارة الثالثة: هي إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى”([8]).
ولذلك وجدنا بريطانيا العظمى كانت تقف إلى جانب اليهود ومن بعدها أمريكا؛ فالأمر زاد عن المصالح إلى العقائد.
وجعل اليهود الصهاينة إرادتهم من إرادة الله -حسب زعمهم- ومن يقف في طريقهم فهو يقف ضد إرادة الله -تعالى، فلا “يحق لأي دولة أن تتدخل ضد إرادة الله، والله يريد عودة كل اليهود إلى كل فلسطين، والله منحهم صكًّا أبديًّا بملكية الأرض المقدسة لإقامة صهيون عليها، وبالتالي ليس مقبولاً من أي قوة على الأرض أن تتحدى إرادة الله أو أن تعرقل تنفيذها”([9]).
وعلى جانب آخر فإن الشيعة يعتقدون أن إمامهم الثاني عشر هو المهدي وأنه سيعود، وأنهم يعيشون الآن فترة الغيبة الكبرى حتى عودة الإمام المهدي، وترتب على ذلك عندهم أن الجمع والأعياد والجهاد لا تجب إلا تحت راية الإمام المعصوم.
وقد جاء الخميني بفكرة ثورية أراد من خلالها أن يجعل للشيعة دولة فقال بنظرية “ولاية الفقيه”، وأن الفقيه نائب عن الإمام حتى خروجه، وأنه يمهّد له الأرض لحين رجوعه.
ونبوءة الإمام المهدي الذي سيظهر ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا([10]) موجودة عند السنة والشيعة.
ولكن الأشخاص والأفعال والتوجهات مختلفة.
لكن ما يهمني في هذا الأمر أن الشيعة طوروا من أنفسهم وفكرهم وتحركوا لتحقيق نبوءتهم، وبذلوا الجهد لإقامة دولتهم وتحقيق فكرتهم ونشرها، وهو ما تمخض عن جمهوريتهم الإسلامية، ونفوذها الممتد إلى دول الجوار، وما بعد الجوار.
والذي نريد أن نخرج به في هذا المقام أن قدر الله سيتحقق لا محالة، لكنه يسبب الأسباب لبلوغ هذه المقادير وتحقيقها. وعلينا أن نعمل وأن نجتهد وأن نبذل الجهد ونستفرغ الوسع؛ فكما رأينا الأمم الفاعلة الحية المتحركة التي لا تتواني في سبيل تحقيق نبوءاتها وإن كانت -كما نعتقد- مكذوبة مفتراة.
فمثلاً حديث: “… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة“([11])، هذه بشارة نبوية لهذه الأمة التي سقطت خلافتها في العام 1924م، أي أن الخلافة عائدة عائدة، ويلزم لهذه العودة من قوة سياسية واجتماعية وعسكرية … إلخ، ونرى الأمة في حال ضعف وتمزق وتكالب من الأعداء عليها، فهل سيتحقق موعود الله دون حركة منا نحن المسلمين.
لو ظللنا على حالنا لطال بنا المقام والقعود، ولكن العمل والسعي والتخطيط والتدبير هو الضمانة للتغيير نحو الأفضل.. نحو الرفعة والتمكين في الأرض.
([1]) المعجم الوسيط، (2/712).
([2]) الصحاح، مادة (حزر).
([3]) محمد السماك: الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي، تقديم: أ.د محمد عمارة، هدية مجلة الأزهر المجانية لشهر صفر 1435هـ، ص(25).
([4]) السابق، ص(28).
([5]) السابق، ص(42).
([6]) السابق، ص(46).
([7]) السابق، نفس الصفحة.
([8]) السابق، ص(54-55) باختصار.
([9]) السابق، ص(68) باختصار.
([10]) أخرج أبو داود في “المهدي”، ح(4282) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: “لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ يَوْمٌ”. قَالَ زَائِدَةُ فِي حَدِيثِهِ: “لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ” -ثُمَّ اتَّفَقُوا- “حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنِّي” أَوْ “مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي”. زَادَ فِي حَدِيثِ فِطْرٍ: “يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا”. وَقَالَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: “لاَ تَذْهَبُ أَوْ لاَ تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي”، وقال الألباني في “صحيح سنن أبي داود”: “حسن صحيح”.
([11]) أخرج أحمد في “مسنده”، ح(18430) أن حُذَيْفَة قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ r: “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ”، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده حسن”.