في تفسيره لقول الله تبارك وتعالى {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ٢)؛ بين الإمام ابن عاشور – رحمه الله – بأن المراد من الهدى ومن المتقين في الآية هو “أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية، وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون، أي هم الذين تجردوا عن المكابرة، ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين، وخشوا العاقبة، وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله، هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به، كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية”، أي في الآيتين التاليتين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: ٣-٤).

ووضح بعد ذلك أن “في بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة”، وهي:

* “الأول؛ أن القرآن (هدى) في زمن الحال؛ لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل، وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل، والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضا؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى…”

* “الثاني؛ أنه هدى في الماضي، أي حصل به هدى، أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من (المتقين) من كانت التقوى شعارهم، أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا. وعليه؛ فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به. وإطلاق (المتقين) على المتصفين بالتقوى فيما مضى – وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل – إطلاقٌ يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب”.

* “الثالث؛ أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل، وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في (هدى)؛ لأن المصدر لا يدل على زمان معين”.

ثم علق على وفرة المعاني في هذه الآية الكريمة، وما أحسن تعليقه وما أنفعه لمن ينشد هدايات القرآن الكريم الوافرة في شتى المجالات، فقال:

“حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل لو وصف باسم الفاعل فقيل (هاد للمتقين).

فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال (هدى للمتقين)، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين. وكل أولئك من المتقين، وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾”.

وختم ابن عاشور تعليقه بقوله:

“فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه، لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن”.