فقه الاختلاف والنهوض الحضاري والعلاقة الجدلية بينهما كان أحد المواضيع التي ناقشناها في حوارنا مع الدكتور محمد الصادقي العماري، مدير مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث، حيث يقول العماري أن “فقه الاختلاف” يمكّن المسلم من بناء جسور التواصل مع المخالف، والبحث عن إمكانات التعاون والتبادل الفكري والثقافي والحضاري. موضحًا أننا بـ”فقه الاختلاف” نتجاوز حالة الصراع الإسلامي الإسلامي، وحالة الصراع الإسلامي الإنساني، ونتوصل إلى المشترك الإسلامي والانساني.

وبيّن العماري أن المسلم بهذا الفقه يستطيع التمييز في الاختلاف، بين ما هو داخل في دائرة “الخطأ” و”الصواب”، ودائرة “الكفر” و”الإيمان”، ودائرة “الديني” و”السياسي”، ودائرة “الكلي” و”الجزئي”.. وبهذا التمييز، يكتسب المسلم القدرة على بناء علاقات إنسانية سليمة، بعيدًا عن الإقصاء أو ادعاء امتلاك الحقيقة، أو قبول ما لا يجب قبوله، أو إنكار ما لا يجوز إنكاره.

والدكتور محمد الصادقي العماري، متخصص العقيدة والفكر الاسلامي، ومدير مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث، وأستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، بالمغرب. وله عدة مؤلفات منها: “أصول تدبير الاختلاف في القرآن الكريم“. “إدارة التنوع الفكري والعقدي والتأسيس للحوار الحضاري”. “الأديان السماوية: التأسيس للاختلاف والمشترك العقدي”. “الخلاف في مسالك العلة الاجتهادية وأثره في الفروع الفقهية: دراسة نظرية ونماذج تطبيقية”. “موقف العلماء من الصراعات الفكرية: دراسة في الفكر والمنهج”.. إضافة إلى البحوث والدراسات المنشورة في المجلات العلمية المحكمة، والمشاركات في الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية..

فإلى الحوار:

ما المقصود بـ”فقه الاختلاف”؟

“الاختلاف” هو عدم الاتفاق في الرأي، وسلوك كل طرف- فردًا أو جماعة أو أمة- مذهبًا أو رأيًا مغايرًا ومباينًا لمذهب الآخر في الفكر أو السلوك.. و”فقه الاختلاف” هو فهمه، وإدراك أسبابه التي أوجبته إسلاميًّا وإنسانيًّا، ثم إدارته وتوجيهه وتسييره بروية وحكمة، والنظر في عواقبه، بما يحقق مقاصده ومصالحه.

و”فقه الاختلاف” بهذا المعنى يشمل أمرين اثنين: الأول: الفهم والإدراك الصحيح، والثاني: تدبيره وإدارته بحكمة.

كيف ترى أهمية “فقه الاختلاف” في تشكيل وعي المسلم تشكيلاً صحيحًا؟

لـ”فقه الاختلاف” بمعنى: “الفهم” و”التدبير”، أهمية كبيرة في تشكيل وعي الإنسان المسلم؛ لأن “العلم” باختلاف الناس ومذاهبهم وآرائهم، يجعل الإنسان أقرب إلى فهم الأحداث التي تجري في واقعه، سواء كانت أحداثًا وطنية أو دولية، كما أن قدرة المسلم على “تدبير” اختلافاته بطرق سلمية وحضارية، يجعله يُسهم علميًّا وعمليًّا وأخلاقيًّا، في تقويم الصراعات الفكرية الواقعة في زمانه.

لا حديث عن “فقه الاختلاف”، دون قيم وأخلاق

إن “فقه الاختلاف”، من أوجب الواجبات بالنسبة للمسلم المعاصر، إذ به يتعرف على المدارس الفكرية والمذاهب والفرق والآراء المختلفة القديمة، والتيارات الفكرية الحديثة الإسلامية والغربية.. وطرق التعامل معها، في ظل عالم تتسع فيه دائرة الاختلاف يومًا بعد يوم، حتى أصبح لكل فرد من الأفراد صغيرًا كان أو كبيرًا، موقعه، وقناته الخاصة، يبث فيها ما يشاء من الآراء والأفكار.

“فقه الاختلاف” يمكّن المسلم من بناء جسور التواصل مع المخالف، والبحث عن إمكانات التعاون والتبادل الفكري والثقافي والحضاري.. وبـ”فقه الاختلاف” نتجاوز حالة الصراع الإسلامي الإسلامي، وحالة الصراع الإسلامي الإنساني، ونتوصل إلى المشترك الإسلامي والانساني.

بهذا الفقه يستطيع المسلم التمييز في الاختلاف، بين ما هو داخل في دائرة “الخطأ” و”الصواب”، ودائرة “الكفر” و”الإيمان”، ودائرة “الديني” و”السياسي”، ودائرة “الكلي” و”الجزئي”.. وبهذا التمييز، يكتسب المسلم القدرة على بناء علاقات إنسانية سليمة، بعيدًا عن الإقصاء أو ادعاء امتلاك الحقيقة، أو قبول ما لا يجب قبوله، أو إنكار ما لا يجوز إنكاره..

“فقه الاختلاف” يمكّننا من بناء جسور التواصل

ما الأسس المنهجية التي يرتكز عليها “فقه الاختلاف”؟

الحديث عن المنهج في سياق الكلام عن الاختلاف وتدبيره، حديث عن جوهر القضية وأساسها؛ لأن بوضع المنهج ووضوحه نتجاوز الكثير من الإشكالات القديمة، والإشكالات الحديثة والمعاصرة.. لكن المنهج يختلف من مجال إلى مجال آخر، فالاختلافات الدينية وتدبيرها، غير الاختلافات السياسية أو الاجتماعية أو الأسرية… لكن نشير- مبدئيًّا- هنا إلى أساسين كبيرين:

الأول: التشخيص الصحيح الواضح للاختلاف؛ لأن العلم والفهم إن لم يكن عن تشخيص صحيح، لا يثمر علمًا صحيحًا. وبدون علم صحيح بالاختلاف، فلا قدرة على تدبيره وإدارته، فقد روي عن الامام أبي حنيفة– في سياق كلامه عن الإمام الصادق- قوله: “أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

ونحن نقول: أعلم الناس فقهًا وحكمة، ودراية بمآخذ الآراء ومقاصد أصحابها، وأعلمهم بفلسفة التشريع وروحه، وأقدرهم على “مراعاة الخلاف” و”الخروج منه” و”تدبيره وإدارته”؛ هو أعلمهم باختلاف آراء الناس ومذاهبهم ومدارسهم وأديانهم ومعتقداتهم.

ومن ثمرات هذا التشخيص، معرفة ما لا يعتد به من الاختلافات، يقول الشاطبي: “من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو ضربان؛ أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة. والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك”. وهذا التشخيص قضية منهجية عظيمة، ومفيدة، في الاختلاف الداخلي، أي الاسلامي.

الثاني: القصد إلى الوحدة والائتلاف، وتدبير الاختلاف بآلياته، والبعد عن الفرقة والاختلاف؛ فإذا كان قصد الشارع هو الوجهة، فإن اختلاف في الطرق إلى هذه الوجهة لا يضر، لأن المختلفين كما يقول الشاطبي: “مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر. كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة؛ كرجل تَقرُّبه الصلاة، وآخر تقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة.

المدارس الفكرية الإسلامية هي تفسيرات وقراءات للنصوص الشرعية

وما أهم القيم الخُلقية التي يتطلبها “فقه الاختلاف”؟

مدخل القيم من المداخل الأساسية لـ”فقه الاختلاف وتدبيره”؛ فلا حديث عن “فقه الاختلاف”، دون قيم وأخلاق، سواء في الاختلاف الداخلي أو الخارجي. وأزعم أنه لا حديث عن “فقه الاختلاف وتدبيره”، في غياب الأخلاق والقيم.

ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، القيم الأساسية التالية:

  • الاعتراف بالمخالف، فلا تدبير للاختلاف في ظل الإنكار للمخالف ورفضه؛ قال تعالى على لسان نبيه : ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ: 24).
  • التعاون مع المخالف في إطار البر والتقوى، وإنكار المنكر والفساد والظلم والعدوان؛ قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).
  • التدافع مع المخالف، والمنافسة الشريفة، بعيدًا عن الصراعات والحروب؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: 251).
  • الحوار والجدل بالتي هي أحسن؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل: 125). لأن بـ”الحوار” يتحقق “التعارف”، المفضي إلى “التعاون”.
  • العدل والإنصاف، وبهما تحفظ الحقوق لأصحابها، ويحارب الظلم والاستكبار، فالعدل والإنصاف، قيمتان فوق الدين والمعتقد والمذهب الجنس واللون؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8).
  • وأخيرًا الإذعان للحق، وهي قيمة تحظى بأهمية كبيرة، وخصوصًا في زماننا، الذي طغى فيه الباطل على الحق، وأصبح الحق موضع شك وريب. فقد كان منهج طلب ومناشدة الحق، وجهة رسول الله ، وكان إذا قام من الليل يفتتح صلاته قائلاً: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (صحيح مسلم)؛ فحريّ بكل مسلم أو إنسان صادق، أن يجأر بهذا الدعاء في كل وقت وحين.
كتاب (الخلاف في مسالك العلة الاجتهادية وأثره في الفروع الفقهية)، د. محمد الصادقي العماري

كيف جاءت معالجة “فقه الاختلاف” في القرآن الكريم والسنة النبوية؟

القرآن الكريم هو الأصل النظري، والسنة النبوية هي التطبيق العملي له، وهما معًا يمثلان “المرجعية الإسلامية”، وكل ما جاء في القرآن بيّنته السنة، لذلك تجد الرؤية القرآنية- نظريًّا- لـ”فقه الاختلاف”، تجسدت تمام التجسد- عمليًّا- في “السنة النبوية”، وسيرته ، سواء في الاختلاف الإسلامي أو الإنساني. وأرى أن النص الشرعي- القرآن والسنة- قدم قضية الاختلاف، وفقهه، وتدبيره، في سياقات متنوعة:

  • سياق الاختلاف الطبيعي والإنساني: فقد ذكر الله تعالى الاختلافين في سياق واحد، تنبيهًا للإنسان، وإرشادًا له، إلى الحكمة من هذا الاختلاف، وهي إثبات “قدرة الله” تعالى و”وحدانيته” من جهة، وإثبات أن مقصد اختلاف الظواهر الطبيعية، “التكامل” و”التوازن” بين عناصرها من جهة أخرى، وفي هذا تنبيه للإنسان، بأن الاختلاف قصده التكامل لا التنافر.
  • وسياق الاختلاف التكويني والتشريعي: فالاختلاف واقع بمشيئة الله، وأنه من أصل خلقة الإنسان، وأن الأمر التشريعي قد راعى هذا الاختلاف في اختلاف الشرائع، وأساليب خطاب الناس بالشرع، وإقناعهم به، وفي تشريع الأحكام لهم، بأن جعل لهم في الشرع مساحة للاجتهاد واستعمال العقل.
  • وسياق الاختلاف المذموم والمحمود: فالقرآن الكريم يذم الاختلاف الذي لا ينضبط بضابط، والاختلاف بعد مجيء البينات، والاختلاف القائم على الميولات النفسية: “الهوى”، و”التعصب”، و”الزيغ”، و”إنكار الحق” بعد وضوحه وجلائه.. ويقر الاختلاف في الفهم، القائم على اختلاف المدارك في إدراك الحقائق.
  • وسياق الاختلاف في إطار الجوامع: فالقرآن الكريم يوجه البشرية جمعاء، إلى البحث عن الجوامع والمشتركات لتدبير الاختلاف، لأن القرآن وإن أقرّ “الاختلاف الطبيعي والإنساني”، وبيّن العلاقة بين “الاختلاف التكويني والتشريعي”، وبَيَّن “الاختلاف المذموم من المحمود”- كما سبق بيانه- فإنه يوجه الخلق إلى تنظيم هذا الاختلاف، وتضييق مساحته، والتقليل من مثاراته، وذلك بأن جعل لكل دائرة إنسانية جوامع، تستوعب أهل هذه الدائرة، حيث دعا “أهل الأديان”، ومن خلالهم دعا “الإنسانية” جميعًا إلى “الكلمة السواء”، ودعا “أهل الإسلام” إلى “وحدة المرجعية”، فإن دين الإسلام، “هيأ أفراد الناس للاتحاد والمعاشرة”، كما يقول ابن عاشور.

ليس مطلوبًا رفع الاختلاف وإزالته من الوجود، فهذا غير ممكن

هل يمكن القول بأن الفكر الإسلامي يؤسس بالضرورة لحالة من التعدد والتنوع، والمدارس العقدية والفقهية تشهد بذلك؟

المدارس الفكرية الإسلامية، ما هي إلا تفسيرات وقراءات للنصوص الشرعية، والتفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي والفكري.. وهذه القراءات تختلف من مدرسة لأخرى، والنصوص المختلف فيها تسمح بذلك، لأن في هذه النصوص الدعوة إلى الاجتهاد والنظر والتعقل والتفكر.. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فالنصوص الشرعية فيها “الظني” و”القطعي”، والنصوص “الظنية” هي الباب الواسع للاجتهاد، حتى قيل: “الفقه من باب الظنون”.

ومن جهة ثالثة، يختلف الناس في تكييف الواقع، وقراءة الأحداث الواقعة فيه؛ سواء كانت هذه الأحداث سياسية أو اجتماعية أو تربوية أو اقتصادية.. لاختلاف الناس وتفاوتهم في العلوم والمعارف والخبرات والتجارب.. ومن ثم يختلفون في القدرة على استيعاب الواقع، وفهمه، وتكييفه تكييفًا صحيحًا.

وبناء على ما سبق، ظهرت في تاريخنا اختلافات عقدية، وفقهية، وفكرية، وفلسفية.. تطورت هذه الاختلافات إلى مدارس ومذاهب وتيارات إسلامية، سواء في الفقه أو العقيدة أو السياسة أو الفلسفة أو حتى التصوف.. وهذا الاختلاف في الحقيقة هو اختلاف ثراء وتنوع، أغنى المكتبة الإسلامية والمؤسسات العلمية والتربوية.

وهذا يبين ما كان يمتع به المسلمون في تاريخهم من مساحات للحوار الفكري، ومدى تمتعهم بالحرية في عرض الآراء، والدفاع عنها، ونقد المخالفين، وفي هذا رسالة لمن يريدون تنميط الفكر في زماننا، والرجوع بنا إلى الرؤية الواحدة والوحيدة، والحزب الواحد والوحيد..

وهذا التنميط و”الوحدة القصرية”- التي يسعى اليها البعض- مهما كانت مبرراتها، فهي واهية، ومرفوضة شرعًا وعقلاً، لأننا كما ندافع عن “تدبير الاختلاف”، فإننا ندافع كذلك عن “شرعية الاختلاف”، لأنه “سنة كونية”، و”حقيقة شرعية”، و”ضرورة بشرية”.

فالمطلوب ليس هو رفع الاختلاف وإزالته من الوجود، فهذا غير ممكن، بل مستحيل، لأنه على خلاف إرادة الله سبحانه وتعالى؛ فالممكن والمنسجم مع قصد الشارع سبحانه، هو فهم الاختلاف، ومعرفة مصالحه ومفاسده، وتمييز المحمود والمذموم منه، ومعرفة طرق وآليات تدبيره وإدارته بحكمة.

“فقه الاختلاف وتدبيره” ضروري لترشيد السلوك الحضاري للأمة

إذن، ما الآثار المترتبة على غياب “فقه الاختلاف”؟

الآثار المترتبة على غياب هذا الفقه العزيز اليوم في عالمنا المعاصر، كثيرة ومختلفة باختلاف مجالات الاختلاف؛ منها ما يتعلق بالفكر عمومًا، ومنها ما يتعلق بالواقع السياسي، ومنها ما يتعلق بالحياة الاجتماعية العامة واليومية للإنسان، ومنها ما يتعلق بالحياة الأسرية، والعلاقات الزوجية.. وبما أنه يصعب التفصيل في الكلام عن كل هذه المجالات في هذا السياق، فنذكر بعض الآثار التي قد تكون مشتركة بين هذه المجالات وغيرها؛ مثل:

  • التعصب للرأي أو المذهب؛ وهذا ما يؤدي إلى الطائفية والغلو وتقديس الرأي أو المذهب الفكري والسياسي.
  • إنكار المخالف، وعدم الاعتراف به، بل ومحاولة استئصاله، والتشدد في الإنكار عليه. وهنا فرق بطبيعة الحال بين إنكار الرأي، وإنكار صاحب الرأي.
  • الضعف، والاستلاب الحضاري، وتمكن الآخر من رقاب المسلمين سياسيًّا، واقتصاديًّا، وتربويًّا؛ لأن الاختلاف والتفرق خارج الجوامع، لذلك كان معولاً للهدم، وضياعًا للقوى والقدرات.
  • ضياع وحدة الأمة وجمع كلمتها؛ وقد عمل علماء الأمة قديمًا وحديثًا، لأجل هذه الوحدة، في سياق قراءة واقع الاختلاف في الأمة عبر تاريخها. ومن الاجتهادات في هذا السياق “الجامعة الإسلامية” عند الأفغاني رحمه الله، ونضاله من أجلها، داخل العالم الإسلامي وخارجه، إلى الامام أبو زهرة رحمه الله، وما طرحه من تشخيص لواقع الاختلاف الإسلامي، وكيف ضاعت الوحدة وما أسباب ضياعها، ومقترحه لإعادة بناء الوحدة الإسلامية. وهناك اجتهادات كثيرة في هذا السياق.

كيف ترى حاجة مجتمعاتنا العربية المعاصرة لتأسيس “فقه الاختلاف”؟

كانت الحاجة إلى تأسيس “فقه الاختلاف”، في كل زمان وفي كل مكان؛ والدارس لتاريخ الأفكار في عالمنا الإسلامي، يجد ذلك واضحًا جليًّا. وما الكتابات والتآليف في “علم المقالات” و”الملل والنحل”، وكتب “الخلاف الفقهي” سواء منه “الخلاف العالي” أو “الخلاف داخل المذهب”؛ إلا خير دليل على الإحساس بهذه الحاجة الملحة.

منهم من اقتصر على حكاية المذاهب والفرق والآراء فقط، وهذا النوع في رأيي اقتصر على جانب العلم والفهم لقضية الاختلاف، ومنهم من ذكر المذاهب والآراء، وعلّق عليها، وناقشها، وانتقدها بناء على قناعاته الفكرية، أو انتمائه المذهبي، سواء كان منصفًا أو غير منصف؛ لكن هذا النوع من الكتابات في رأيي هو الذي بدأ طريق تدبير الاختلاف وإدارته.

ومن خلال هذه الثروة الفكرية تحقق لنا فهم الاختلاف من جهة، والتطلع الى محاولة تدبيره من جهة أخرى؛ لأنه بدون فهم الخلاف القديم، لا يمكننا فهم الخلاف الحديث والمعاصر، بل لا يمكننا فهم العلاقات الإنسانية ولا العلاقات الدولية.

إن مجتمعاتنا اليوم في حاجة إلى تأسيس “فقه الاختلاف وتدبيره”، وذلك عن طريق “البحث” أولاً، ثم “التعليم والتدريس” ثانًيا، ثم “التفعيل والتوظيف” في مختلف مجالات الحياة ثالثًا؛ وهذه هي الخطة التي نقترحها- مبدئيًّا- لتأسيس هذا “العلم” النافع حضاريًّا.

كتاب (الاختلاف في إطار الجوامع قراءة في الوحي والاجتهاد الفقهي) د. محمد الصادقي العماري

“فقه الاختلاف” من منظور حضاري.. ماذا يمكن أن نقول في العلاقة بين “فقه الاختلاف” و”النهوض الحضاري”؟

“فقه الاختلاف وتدبيره” ضروري لترشيد السلوك الحضاري للأمة الإسلامية؛ فالأمة اليوم في حاجة كبيرة إلى “فقه الاختلاف وتدبيره”؛ لأن “النهوض حضاري” للأمة متوقف على “وحدتها”، ولا وحدة إلا بـ”فقه الاختلاف”. وهذا التسلسل المنطقي: “فقه الاختلاف”، ثم “وحدة الأمة”، ثم “النهوض الحضاري للأمة”؛ يبين بجلاء هذه العلاقة الجدلية، بين “فقه الاختلاف” و”النهوض الحضاري”.

على المسلمين أن يقدموا الجواب الحضاري لأزمة الاختلاف الإنساني

والإشكال ليس في الاختلاف، بل في فهمه، وامتلاك أدوات تدبيره وإدارته بحكمة؛ لأن هذا هو الممكن الوحيد- كما سبق بيانه- فقد كان الاختلاف في تاريخ الإسلام، وأنتج المسلمون حضارة قوية، رغم اختلافاتها الداخلية والخارجية.. بل استوعبت الحضارة الاسلامية الحضارات المخالفة: اليونان والفرس والروم والهنود؛ وكانت أقدرَ الحضارات على التأثير والتأثر، وترجم المسلمون علوم ومعارف غيرهم من الحضارات الأخرى.

لذلك، يجب على المسلمين اليوم، أن يقدموا الجواب الحضاري لأزمة الاختلاف الإنساني، وأن يقدموا المقترح النظري والعملي للخروج من هذه الأزمة. لكن جوابهم هذا، لا يمتلك الشرعية ولا يحظى بالاحترام والتقدير؛ إلا إذا طبقوه في واقعهم أولاً، لنقول للآخر هذا هو مقترحنا الحضاري لتدبير الاختلاف الانساني، نظريًّا وعمليًّا.