يقع متن كتاب “سجون الثقافة” لمؤلفه الاستاذ صالح زياد والصادر عام 2019 في 320 صفحة بما فيها المقدمة والخاتمة،ويصور الكاتب الفكر والثقافة بسجن تتشكل جدرانه من المفاهيم والتصورات(وهي فكرة ميشيل فوكو)، فإذا كانت السيطرة فعلا خارجيا في بعض الاحيان فانها تكون في احيان اخرى ” داخلية” تنتجها الذات العارفة والثقافة وخلفهما المصلحة، فالأديان والآيديولوجيات والمفاهيم والقيم والتصورات واللغات والانتماءات القومية والطائفية ومن خلال الاساطير والخرافات كلها معرفة يراد بها التحرر وهي في ذاتها سجون.
وفي فصله الاول يميز بين العقل المُنشأ(كما هو في حضارتنا) والعقل المنشئ( وهو المَلَكة التي يستطيع كل فرد ان يدرك من خلالها العلاقة بين الاشياء ويستخرج مبادئ كلية).واستنادا لثنائية العقل والعاطفة يقرر الكاتب ان الوحي (فهما وتفسيرا وتأويلا) غدا مفعول العقل المرتهن للرغبة، ويتتبع هذه المسألة في مدلولها العام عند عدد من الفلاسفة والكتاب الغربيين والمسلمين، ويرى انها عند الجميع هي ” سجون”.
وعند دخول الكاتب الى ميدان ما بعد الحداثة ويناقشه من خلال هابرماس ( قضية العقل الأداتي وتحويل المعرفة الى اداة للسيطرة) لينتقل الى أوهام العقل المعروفة عند فرانسيس بيكون(القبيلة والكهف والسوق والمسرح) من ناحية وباشلار من ناحية ثانية( التطور من جانب تصحيح الخطأ)…فاذا كان كل هذه ” سجونا” فلا بد من الاتكاء على الضمير الانساني الذي له مؤشرات على وجوده في الاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الانسان والاسرى وجرائم الحروب والديمقراطية .
وفي القسم الثاني، تتم مناقشة الحرية ومحاولة التدليل على حضورها في اشارات قرآنية ، لكن الحرية في تطبيقاتها انتهت لخلافها، فالتحرر الاشتراكي انتهى للاستبداد، والتحرر الليبرالي انتهى لخدمة رأس المال، والتتجريبية والوضعية انتهت للتحيز واقتصار المعرفة على التجريب، بينما الاديان انتهت هي الأخرى لتكون سببا في اقسى الحروب. وينتقل استنادا لكل ذلك الى مناقشة العلاقة بين الحرية والحداثة وكيف تطور مفهوم الحرية عند مارتن لوثر وزونجلي وفي أسس الاصلاح الديني وازاحة سلطة الكهنوت ليفسح ذلك المجال لقيام الدولة الحديثة ذات المرجعية الديمقراطية. ولعل هذا التطور غير بعيد عن فلسفة التسامح التي ينتقدها جاك دريدا وماركيوز بخاصة ان التسامح ينطوي على معنى ” الصدقة “.
وينتقل الكاتب الى مناقشة مفهوم الحرية في عالم الاتصالات المعاصرة، وكيف تحول المواطن الى مشارك في كل عملية الاتصال والاعلام وليس كمتلقٍ فقط، ويدخل بعد ذلك لموضوع الحرية وعلاقاتها بالمقدس ويتوقف عند واقعة حكمت فيها محكمة سعودية على شاعر فلسطيني ، مما جعل الكاتب يطالب ب ” تقنين التأويل للدين”، وفي القسم الثالث يناقش موضوع الزمن في ثقافتنا العربية، يركز في هذا الجانب على بعض الجوانب التي تعكس موقف ثقافتنا من الزمن: قمع الماضي للمستقبل(سيطرة الثقافة الماضوية)، تهميش الشباب(وهم التعبير عن المستقبل) والذاكرة( وكيف تلعب دورها في تخلفنا من خلال الحنين للماضي)، وعليه يرى ان التجديد لدينا(بسبب موقفنا من الزمن وطغيان الماضي) يقوم على الحوار مع التراث ومن داخله وهو ما يحوله الى سجن.
ثم يناقش ” السجن الثقافي العثماني” والموقف المخالف تجاه الحملة الفرنسية وكيف شكل هذان النموذجان انتاج النخبة الثقافية العربية، وهو ما يتضح في نماذج متناقضة من طه حسين الى حسن البنا وغيرهم واعتبار البعض ان كل ما يجري هو جزء من مؤامرة. وفي القسم الرابع يطرح الكاتب فكرة التغير وعلاقته بالهوية، ويمهد بهذا لطرح موضوع الاصالة والمعاصرة والمفاضلة بين الأمم وجعل العرب هم الافضل استنادا للغة حينا وللعرق حينا آخر. اما القسم الخامس فيخصصه لثلاثة مفاهيم هي العيب والخطأ والحرام، ويناقش الموقف من هذا الثالوث ويربطه بالمكانة الاجتماعية لتحديد المواقف منها، ويرى ان لهذه المفاهيم علاقة بفكرة متداولة عن ثنائية العقل والجسد، والتي يتم بناء عليها ايجاد تراتبية في المهن وكل ما له بعد ذلك من سلطة رمزية(الحسب والنسب والألقاب والمرجعيات القبلية والطائفية…الخ).
في الفصل السادس يناقش مفهومين متقابلين هما التطرف والاعتدال، و ينتقد هذا التصنيف ويرى في الاعتدال ” تطرفا لكنه اقل حدة”، و ان التطرف قائم على رفض “الاختلاف”” الذي يؤسس “لثقافة متلقي ضمني” لهذه الثقافة تعكسها الفتاوى، و يناقش الموقف من الآخر، فهو في ثقافتنا اما متعالى عليه او احساس بالدونية تجاهه او اللامبالاة، وهذه تصنع لنا سجن الرد على الآخر، ليدعو في الختام لاصلاح ديني يحرر الدين من سجن السياسة
يقوم هذا الكتاب في رايي على فكرة مركزية تتمثل في أن كل ما ينتمي للبنية الفوقية في المجتمع الانساني يمثل شكلا من اشكال ” السجن” على الانسان ، فأنماط تفكيره وادبه وآيديولوجياته وعقائده وفنونه وكل ما ينتجه العقل وتفاعلاته مع البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تنتهي الى نوع من السجن،والفارق بين المجتمعات هو في محتوى ” البنية الفوقية” لكل منها، لكنها تتشارك كلها في كونها نوعا من أنواع السجن او القيد. فهذه الدراسة هي مشهد من علم الاجتماع الثقافي، فالثقافة سجن بلا قضبان ، وقضبانها لا تُرى بل تتشكل عبر التاريخ ويتماهى الفرد فيها عبر التفاعلات مع الذات ومع الآخر، وحتى أن كل من يحاول التحرر من هذه السجون فانه سيجد نفسه صنع سجنا جديدا.
وتقف وراء كل هذه الإشكالية فكرة ” الرغبة أو المصلحة”، ويعمل البحث على اثبات صحة هذا التصور الذي يطرحه للثقافة. ويرصد الكتاب هذه السجون واحدة تلو الآخرى، فهناك سجن العقل وسجن الواقع وسجن الحرية او وهمها، وسجن الزمن(البقاء في الماصي” وسجن الهوية والاصالة وسجن العيب والشرف او القيم المرتبطة بهما، وسجن الطرق المختلفة للرد على الآخر…الخ.
ويمكن القول باطمئنان كبير بأن وصف وتفسير كل هذه السجون جرى تناوله من قبل عدد كبير من الكتاب، وميزة هذا الكتاب لا في محتواه وأفكاره الموجودة في مراجع ومقالات لكتاب آخرين، بل في تجميع هذ الأبعاد في الثقافة العربية الاسلامية. لذا من العسير الزعم باي جديد في الكتاب ، لكن الكاتب “كثفها وزادها وضوحا بأمثلة مختلفة. فانجذاب العرب للماضي، او نقد مفهوم التسامح، او موضوع العقلانية والمواجهة بين الغزالي وابن رشد أو ثنائبة أنا والآخر، أو مناقشة ذات المفاهيم في الفكر الغربي من ارسطو الى جان لوك الى هابرماس او موضوع الاصالة والمعاصرة ، وفكرة المؤامرة…الخ ، كلها موضوعات أزعم انني ما قرات كتابا عربيا حول النقد الثقافي والفلسفي إلا ووجدتها وبذات المضمون مع تغير في الصياغة لا أكثر. وعند بلوغ موضوع الحلول لما تعانيه الثقافة العربية الاسلامية، نجد من بينها فكرة ” الاصلاح الديني” التي يتبناها الكاتب في هذه الدراسة، ومفهوم الاصلاح لديه هو” تحرير الدين من سجن السياسة” ، ولكن كيف يتم هذا التحرير عند الكاتب ، يتم ” بتطور علمي في جانب المعلومات والمنهج النقدي”… وليت الباحث يعود لدراسات المفكر الايطالي البريكو جنتيلي حول هذا الموضوع.
ولو اخذنا نموذج المفاضلة بين الشعوب وتفضيل العرب(صفحة 198 وما بعدها)، فقد وضعت على غوغل عبارة ” التراث وقضية تفضيل العرب على غيرهم من الشعوب” فاعطاني موقع غوغل 402 ألف نتيجة…وهو ما يجعلني اضيف سجنا لسجون كاتبنا وهو ” سجن الاجترار الثقافي” في الموضوعات والمناهج بل والمراجع والمصادر دون العثور الا على شذرات لا تشكل نقلات نوعية في التفكير العربي.
احسب لهذه الدراسة ان صاحبها كان رشيقا في تنقله بين سجون ثقافتنا، ولغته فيها مسحة شعرية، لكني لا ارى فيها اضافة او تجديدا رغم نزعتها التحررية .
منهجية هذا البحث تقوم على تحديد الركائز الاساسية في بنية الثقافة العربية ثم نقدها من زاوية دورها في تعطيل التطور ومواكبة التغير، واعتبر الكاتب ان كل ركيزة تعمل عمل ” السجن”، وعليه رأى ان الانعتاق من هذه السجون بحاجة لآليات راى ان اهمها ” الاصلاح الديني الذي يتم بتحرير كل من الدين والسياسية من سجن كل منهما للآخر. والملاحظ ان عنوان الدراسة هو ” سجون” بالجمع لا بالمفرد، ولو كتبنا أزمات الثقافة العربية او المعوقات الثقافية للتطور العربي او نقد الثقافة العربية…او ما شابه ذلك فلن يتغير المعنى المقصود ، لكن تعبير السجن الثقافي يترك أثرا في النفس اعمق ويعطي انطباعا بضرورة ” تهديم جدران”..وهو ما حاوله الباحث.
وفي المقارنات داخل الثقافة العربية بين التيار العقلاني النقدي وبين التيار ” النقلي” لا تتضح في الدراسة أيهما أكثر حضورا من الآخر، ففي النخب الفكرية يمكن ان اجد مقابل كل ” عقلي” نظيرا ” نقليا”، لكن الخطورة هي في وجود متلقي ضمني لكل منهما، ومن الواضح ان المتلقي الضمني للتيار النقلي هو الأكبر، وفي تقديري ان الكاتب لو ركز على كيفية تغيير بنية المجتمع المُشكِل للمتلقي الضمني لكان اجدى من اعادة اجترار السرد لنفس الحكاية التي قرأناها او سمعناها مئات المرات.
لغة البحث –كما اشرت- رشيقة وشعرية، ولديه القدرة على ايصال فكرته بصياغة أزعم ان فيها من الدقة في التعبير ما يميزها عن بعض الدراسات في هذا الميدان، اما مصطلحات الدراسة فسأتوقف عند بعضها:
أ- صفحة 31 –السطر الاخير- استخدم تعبير ” ترسندتالية” وكتبها بالعربية بلفظ غير دقيق فهي: ترانسنديتال(Transcendental)، وكنت افضل لو استخدم بدلا منها ” المتعالية” وهو المعنى العربي الوارد في الدراسات الخاصة بايمانويل كانط( وهو من أكثر من استخدم المفهوم).
ب- صفحة 43 استخدم مصطلحين هما: Morals و Ethics وترجمهما بنفس الكلمة(الاخلاق) علما انه يميز بينهما في المتن وفي الهامش في نفس الصفحة ولكن بقدر من عدم الوضوح ،وطبقا للموسوعة الفلسفية فان الفرق بينهما هو ان Ethics ترتبط بقواعد تفرضها سلطة خارجة عن ارادة الفرد بينما Morals ترتبط بالمبادئ التي يعتنقها الفرد ذاته لتحديد الصواب والخطأ في السلوك.