من أجل عالم بلا أسرار حققت السلطة الرابعة ثورة فعلية، بكشفها عن أسرار وجرائم ذوي الياقات البيض، من سياسيين ومسؤولين حكوميين ورجال أعمال، ظلت انحرافاتهم وتجاوزاتهم غائبة عن أدبيات علم الاجتماع، بسبب ندرة المعلومات أو صعوبة الحصول عليها.
يعود الفضل بالأساس لثورة المعلومات التي لا تجامل مطابخ الأسرار الملوثة، ليتمكن الناس من رؤية الحقيقة كما هي لا كما تقررها الأنظمة. وهذا الكم المفجع من الفضائح التي تنكشف بوتيرة غير مسبوقة، يعزز الحاجة إلى إرساء حقل جديد في علم الاجتماع، يدرس الخروقات والتجاوزات التي تشوش على استقرار المجتمع وقواعده الضبطية.
كيف نشأ حقل علم اجتماع الفضائح ؟
كان عالم الاجتماع الأمريكي وليام سون William Son أول من دعا إلى العناية بهذا الحقل المعرفي، وضرورة تدخل الباحث الاجتماعي لتحليل وتأويل ردود الأفعال إزاء الفضائح، ورصد الآليات التي تعمل على توحيد الأحكام القيمية بشأنها. إلا أن هذا التقصي والبحث ينبغي أن يتم ضمن المتعارف عليه بشأن مسؤولية الباحث العلمي، وتجرده أثناء دراسة المعضلات الاجتماعية، لأن الهدف ليس هو التشهير وإنما تحرير المجتمع من العاهات والتقرحات التي تعيق استشرافه للمستقبل.
تنشأ الفضيحة حين يفشل المرء في التفاوض مع المعتقدات الاجتماعية الراسخة، والتزام المبادئ التي يفرضها المجتمع. وهي في عمقها جزء من طبيعة البشر” التلصصية” التي تتطلع لإطلاق الأحكام على الغير؛ لكنها في الوقت ذاته تحفز ميكانيزمات المجتمع على استئصال الفاسدين، لإضرارهم بالمؤسسات، وزعزعة الثقة بالقوانين والآداب العامة.
ولا يتخذ الحدث شكل الفضيحة إلا إذا تضمن جملة من الأركان يحددها المؤلف بنحو خمسة عشر، أهمها:
- كونه مناف للأخلاق والأعراف والقواعد القانونية.
- تستر فاعله عليه خوفا من انكشاف أمره.
- احتماؤه بمبررات تسويغية.
- لا يكشف أمره زمن حدوثه بسبب التعتيم والتكميم الذي يفرضه منصب الشخص.
- وصمته أقسى من أية عقوبة سجنية، لأن له تأثيرات علائقية ونبذية مجتمعيا..
للفضيحة إذن دور اجتماعي في تنقية المجتمع من عناصر الفساد، وإعادة التوازن لحياته التنظيمية. ويتميز العصر الحال بميلاد تنظيمات وهيئات مدنية، تعمل في جو من الحرية الفكرية والاستقلالية عن المؤسسات الحكومية، مما يتيح لها العمل كمصفاة مدنية تكشف الممارسات المجافية للأخلاق والقانون قبل استفحالها.
ترتبط الفضيحة بالشهرة، أي بالسمعة الاعتبارية المتميزة التي يحققها المرء بفضل أدائه المهني، أو نتيجة إعجاب شريحة واسعة من الناس بتألقه في أحد المناشط الاجتماعية التي تحظى باهتمامهم. لكن الشهرة تقيد حركة الشخص وتمنعه من التصرف على سجيته، وأحيانا أخرى قد تسبب الغرور والتعالي مما يؤدي إلى فقدانها. بينما يميل البعض الآخر إلى تفضيل السمعة على الشهرة، لكونها رديفة الاحترام والتقدير، حتى وإن كانت أضيق نطاقا من الشهرة.
ولا يعني كشف السلوك المفضوح دوما رغبة في تنقية المجتمع من المارقين على قواعده التنظيمية، إذ يعرض عالم الفن والرياضة عشرات الفضائح التي كانت سببا في شهرة مرتكبيها، ونحت مسارهم إلى النجومية. يتعلق الأمر هنا بطبيعة الضوابط الاجتماعية التي قد تكون متشددة، وتدفع بالتالي إلى الاستنكار وانسحاب المفضوح من موقعه تحت تأثير ما يمكن اعتباره إعداما اجتماعيا، أو غير متشددة، مثلما هو الشأن بالنسبة للمجتمع الفرنسي والإيطالي، فتعتبر الواقعة حدثا شخصيا، يمكن تبريره بمسوغات عقلية أو أعراف تقي من الوصمة الاجتماعية، لذا لم تمنع التحقيقات القضائية، واتهامات الفساد التي لاحقت رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلوسكوني إبان حكمه، من إعادة انتخابه أكثر من دورة!
تنعقد الفضيحة بتوفر ثلاثة أركان: الجاني، والضحية، والسلطة الرابعة إلى جانب منظمات المجتمع المدني. وقد يكون الجاني ضحية انحرافه عن المعايير، أو ضحية بعض أشكال التكسب الإعلامي والمهني التي يثيرها التنافس حول المناصب ومواقع القرار. وتدفع المرأة ثمنا اجتماعيا ونفسيا أبلغ حدة مقارنة بالرجل، خاصة في ظل التطور التقني الذي أسهم في تحويلها إلى سلعة للمقايضة والاستثمار المؤقت، وتدنيس وظيفتها الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها.
إن الفضيحة هي أقسى تعبير عن الممارسات المعيبة التي يزلزل انكشافها مكانة الفرد، ويؤثر على علاقاته بمن حوله. غير أن الثقافة الاجتماعية في بعض البلدان العربية على سبيل المثال، تفصح عن ازدواجية مريبة في تأكيد الوظيفة الثقافية لبعض الممارسات الموروثة التي تندرج تحت مسمى الفضيحة الاجتماعية، من قبيل: الاحتفال المصاحب لختان الإناث، أو لسروال العروس ابتهاجا بالعذرية، وإدراج بعض أشكال العنف ضد المرأة ضمن السلوكيات المقبولة اجتماعيا.
تخلّف الفضيحة أثرا اجتماعيا صادما ومحفزا في الآن ذاته، فهي من جهة تكشف الخروقات والانحرافات التي مست آليات الضبط الاجتماعي، ومن جهة أخرى تحفز على مراجعة القواعد المخترقة، وجعلها أكثر دقة ومحاسبة. وهنا يكمن دور الباحث الاجتماعي في كشف التشريعات والقوانين الضعيفة، وتتبع جدية تنفيذ القرارات المعرّضة لأساليب احتيالية والتوائية متعددة.
وفي المقابل تنشط بنية الفساد للتستر على الفعل المنافي للضوابط قبل افتضاحه، وتفعيل أشكال التضليل والتمويه التي تحمي الصورة الاجتماعية للفاعل وتُجنبه المساءلة. وسواء كان التستر صادرا عن فرد أو حزب أو حكومة، فإن آلياته المتعددة تسلط الضوء على الطبيعة المؤسسية للفساد، ودورها في تفريخ النماذج الفضائحية. هكذا تتم مقاومة الفضيحة أو منعها من خلال:
- آلية التجنب: بالابتعاد عن تناول الموضوع المتستر عليه لئلا يثير الانتباه.
- آلية التسويغ: بالحديث عن تدني الدخل الشهري للموظف، وغلاء المعيشة وغيرها..
- آلية التمييع: بإهمال الشكاوى المتعلقة بها.
- آلية الإنكار: برفض الحديث عن الموضوع كليا.
- آلية التمويه: من خلال تبني سلوك مغاير، أو ادعاء المثل العليا والاستقامة.
على الرغم من سلبياتها، والدوي الذي تُحدثه بكشفها للممارسات المعيبة، إلا أن الفضيحة تقدم خدمة للمجتمع على المدى البعيد، فهي بتعريتها للعناصر الفاسدة في النظام، تُعزز الرقابة الإعلامية على مفاصله النسقية، وتُدين دوافع الانحراف المعياري التي تهدد قيم المنافسة الشريفة، والموضوعية في الترقي للمناصب والحفاظ عليها.
تقدم الفضائح السياسية المحلية أو الدولية، مثالا للممارسات غير الطبيعية التي يغذيها الشعور بتهديد المنافس، والرغبة في بالبقاء بالمنصب، والتمتع بمزايا النفوذ والسلطة. أما فضائح رجال الدين الذين يُفترض بهم السهر على التنشئة الدينية، والاستقامة الأخلاقية، وتقوية الرباط الروحي للأفراد، فإنها تنعكس بشكل خطير على الهوية الذاتية والاجتماعية، وتسلب الدين مهمته الجليلة والسامية، باعتباره دستور الحياة الذي لا يمكن للفرد أن يستمر في العيش بدونه. يظهر الأمر جليا من خلال ردود الأفعال التي أعقبت فضائح الاستغلال الجنسي للأطفال على يد قساوسة الكنائس الكاثوليكية، والتي وثقت الراهبة السابقة ماري ديسبينزا جزءا من فظائعها في كتاب “انقسام: طفل، وقس، والكنيسة الكاثوليكية”.
وصرّح البابا فرانسيس لوسائل الإعلام بأن نحو ثمانية آلاف قس من مجموع أربعمئة وأربعة عشر ألفا في أنحاء العالم، يتحرشون بالأطفال. كما أقرّ بشناعة هذه الجرائم طالبا الغفران من الضحايا، ومعلنا أنه مثل المسيح، سيستخدم العصا ضد القساوسة المولعين جنسيا بالأطفال. وترتب عن سلسلة الفضائح تلك تخلي أزيد من تسعين ألف مواطن عن المذهب الكاثوليكي في إنجلترا وحدها.
كتاب علم اجتماع الفضائح
على امتداد ستة فصول من كتابه (علم اجتماع الفضائح) راهن الدكتور معن خليل العمر على تأكيد فاعلية الحقل الجديد في الارتقاء بعلم الاجتماع من مستوى وصفي-سردي إلى مستوى نقدي-إصلاحي، وذلك بجعل الفضيحة مادة بحثية ناقدة، تكشف عن آليات تكسير النسق الاجتماعي، وصور تجاوزات المسؤولين وصناع القرار التي ظلت غائبة عن أدبيات علم الاجتماع لزمن طويل.
والدكتور معن خليل العمر عالم اجتماع عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه من جماعة واين ستيت الأمريكية عام1976، وتولى التدريس بعدد من الجامعات داخل العراق وخارجه. ويعد من أنشط الباحثين في علم الاجتماع العربي وأغزرهم إنتاجا، حيث تجاوزت مؤلفاته ستين كتابا، بالإضافة إلى قائمة طويلة من البحوث والدراسات التي أكدت حسه السوسيولوجي العميق في رصد وتحليل الظواهر الاجتماعية، خاصة علم الإجرام، والمشكلات الاجتماعية، والاتجار بالبشر.
ومن أهم إصداراته المنشورة:
- نحو علم اجتماع عربي،1984
- علم اجتماع المعرفة، 1991
- جرائم الاحتيال،2006
- علم ضحايا الإجرام،2008
- الجريمة المنظمة والإرهاب،2013
- حقول مستحدثة في علم الاجتماع المعاصر،2017
- علم اجتماع الفقر، 2019..