تُعتبر الشام ودمشق من أهم المناطق التاريخية والدينية في العالم الإسلامي، حيث لعبتا دورًا محوريًا في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية عبر العصور. تحتوي هذه المناطق على إرث غني من المعالم التاريخية والعلمية، مما جعلها محط أنظار المسلمين على مر القرون. ويكفي الشام فضلا ومنزلة أنها أرض بارك الله فيها وما حولها يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الأعراف: 137]، هذه الآية تشير إلى بركة الشام وخصوبتها[1]، مما يعزز مكانتها في الإسلام. فما هي فضائل الشام ودمشق على وجه الخصوص؟
ما هي حدود الشام
جاء في “موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثة”: كان العرب في الجنوب يطلقون اسم الشام على جميع أجزاء المنطقة الشمالية من البلاد العربية، وما زال اسم الشام يتردد على ألسنتنا، على الرغم من الأسماء البديلة الرسمية، فالناس في جميع أنحاء البلاد العربية، عرفوا الشام من خلال التاريخ، وتضطرهم ظروفهم لكي يعرفوا الشام من خلال الحدود السياسية، فيتبادلون تسميات أخرى، ولكن اسم الشام ما زال أكثر تداولًا، على الرغم من أن حجم هذا الاسم تكثف في مدينة واحدة هي دمشق.
إن اسم الشام قديم، ولقد استعمله العرب للدلالة على جميع المناطق الشمالية؛ كما أن عرب الشمال كانوا يطلقون اسم اليمن يمنات أو يمون على مناطق الجنوب، وكان الهمذاني في كتابه “الإكليل” قد ذكر لأول مرة اسم الشام.
ولم يكن لبلاد الشام حدود سياسية ثابتة، ولكن الإصطخري كان أقدم من أوضح حدود الشام فهو يقول: وأما الشام فإن غربها بحر الروم وشرقها البادية من أيلة إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم وشمالها بلاد الروم، وجنوبها حد مصر وتيه سيناء، وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، ومما يلي الروم الثغور.
مصنفات في فضائل الشام ودمشق
إن لبلاد الشام ودمشق مجموعة من الفضائل والمناقب نقلها علماء الحديث بأسانيدهم، وسطروها في أجزاء حديثية وفتاوى شرعية، أشار إليها ابن تيمية في مقولته: ثبت للشام وأهله مناقب: بالكتاب والسنة وآثار العلماء. وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم: بلزوم دمشق ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر واستدعائي العسكر المصري إلى الشام وتثبيت الشامي فيه[2].
أفرد المحدث أبو الحسن علي بْن مُحَمَّد بن شجاع الربعي المالكي[3] جزءا خاصا في رواية الأحاديث النبوية الخاصة بالشام سماه: فضائل الشام ودمشق[4]، اعتنى به الشيخ الألباني بتخريج أحاديثه مع الحكم عليها، وقال: بلغت مجموع أخبار الكتاب “119” خبرًا، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- أحاديث مرفوعة إلى النَّبِيِّ ﷺ، وأكثرها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع، ومجموعها مع المُكرر “41” حديثًا.
- أحاديث موقوفة على بعض الصحابة وغيرهم من التابعين ومن دونهم، وجُلُّها لا تصحُّ أسانيدها؛ لأن مدارها على مجاهيل وضعفاء، ومجموعها “47” حديثًا موقوفًا.
- إسرائيليات، وأكثرها يدور على كعب الأحبار، وكل الأسانيد إليه لا تصحُّ.
ثم جمع الحافظ السمعاني (ت 562هـ) جزءا حديثيا خاصا في فضائل الشام، أسند أحاديثه، وأشاد به ابن عساكر الدمشقي واستحسنه.
ثم أتى ابن رجب الحنبلي (795هـ) فألف كتابا بعنوان نفسه: فضائل الشام، قال في مقدمته: فإن الله -تعالى- جعل البلدة الحرام مبدأ لخلقه وأمره؛ فأول ما خلق من الأرض مكان البيت، ومنه دُحيتِ الأرض وهو أول مسجد وضع عَلَى وجه الأرض لعِبَادَةِ الله -تعالى- وتوحيده، وفيه ابتدأت رسالة خاتم النبيين، وأنزل الكتاب المبين، وجعل الشام منتهى الخلق والأمر، ففي آخر الزمان يستقر الإيمان وأهله بالشام، وهي أرض المحشر والنشر للأنام.
وابن تيمية (728هـ) عقد في كتابه مجموع الفتاوى فصلا خاصا بعنوان: “في مناقب أهل الشام”، وقال في مقدمته: ثبت للشام وأهله مناقب: بالكتاب والسنة وآثار العلماء. وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم: بلزوم دمشق ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر واستدعائي العسكر المصري إلى الشام وتثبيت الشامي فيه[5].
ومن الكتب الحديثة المعنية بفضل الشام عموما كتاب موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية جمع أحمد بن سليمان بن أيوب، ومجموعة من طلبة العلم[6].
مناقب الشام ودمشق في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
ذكر المؤلفون في فضائل الشام ودمشق على وجه الخصوص مجموعة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد على اختصاص هذه البقعة بمناقب:
البركة في بلاد الشام ودمشق
جاء في القرآن الكريم ما يثبت أن الشام أرض مباركة وذلك في خمسة مواضع:
- قَولُهُ تَعَالَى ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]. قال جمع من المفسرين: إنها بلاد الشام.
- قَولُهُ تَعَالَى ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير ﴾ [الإسراء: 1]، وحوله أرضُ الشام، وكان هذا في الإسراء.
- قَولُهُ تَعَالَى في قصة إبراهيم: ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِين * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين ﴾ [الأنبياء: 70-71] ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه اللهُ ولوطًا إلى أرض الشام، مهاجرًا من أرض العراق.
- قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِين ﴾ [الأنبياء: 81]. وإنما كانت تجري إلى أرضِ الشامِ التي فيها مملكةُ سليمان.
- قَولُهُ تَعَالَى في قصة سبأ: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين ﴾ [سبأ: 18]، قال جمع من المفسرين: يعني قرى الشام، فكانوا يسيرون من اليمن إلى الشام، والقرى التي بورك فيها الشام، والأردن، وفلسطين، ومعنى ظاهرة: أي متواصلة.
فهذه خمسُ آيات في بركة الشام، الأولى في انتقال بني إسرائيل إليها، والثانيةُ مسرى الرسول صلى اللهُ عليه وسلم إليها، والثالثة هجرة إبراهيم إليها، والرابعة مملكة سليمان بها، والخامسة مسير سبأ إليها، وصفها تبارك وتعالى بأنها الأرض التي بارك فيها.
- ويلحق بما سبق ما جاء من كلام الله تعالى لموسى عليه السلام على جبل الطور، والذي أقسم الله به في سورة الطور، فقال: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون * وَطُورِ سِينِين ﴾ [التين: 1-2].
وذكر المفسرون أن المراد بالبركة بركة الدنيا، وذلك بكثرة الأقوات، والثمار، والأنهار والزروع، وسعة الأرزاق، وقال بعضهم: بركة الدين لأنها مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة والوحي، وقال النووي رحمه الله: “جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيًّا[7]”، والصحيح أن ذلك يشمل الأمرين معًا، وَقَد دَعَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم رَبَّهُ لِلشَّامِ بِالبَرَكَةِ، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا”، وسيأتي الحديث كاملا.
قال ابن رجب: “واعلم أن البركة في الشام تشمل البركة في أمور الدين والدنيا، ولهذا سميت: الأرض المقدسة. قال -تعالى- حاكيًا عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].
ولما “قال النبي ﷺ لأبي ذر: كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: أنطلق إِلَى الشام والأرض المقدسة المباركة”. وقد خرّجه الإمام أحمد وغيره[8].
وفي رواية الإمام أحمد قال: “الحق بالشام؛ فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر وأرض الأنبياء”[9].
وقد دعا النبي ﷺ للشام بالبركة، ففي صحيح البخاري عن عمران أن النبي ﷺ قال: “اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلزال والفتن، وبها -أو قال: منها- يخرج قرن الشيطان”.
الشام أرض المحشر
قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾ [الحشر: 2]. استدل بهذه الآية جمع من أهل العلم (القرطبي، وابن كثير، وابن حجر) على أن الشام أرض المحشر، فالحشر الأول حصل لليهود بنفيهم إلى الشام، والثاني سيكون للناس.
روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ حَكِيمِ بنِ مُعَاوِيَةَ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “هَا هُنَا تُحشَرُونَ، هَا هُنَا تُحشَرُونَ، هَا هُنَا تُحشَرُونَ، ثلاثًا، رُكبَانًا، وَمُشَاةً، وَعَلَى وُجُوهِكُم.. ثم آخر الحديث، قَالَ ابنُ بُكَيرٍ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ: إِلَى هَا هُنَا تُحشَرُونَ”.[10]
شيخ الإسلام ابن تيمية حول مناقب الشام
“وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس، والعقل، وكشوفات العارفين أن الخلق، والأمر، ابتداءً من مكة أم القرى فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي التي جعلها الله قيامًا للناس، إليها يصلون، ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق، والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام”[11]. اهـ.
حفظ الله الشام بالملائكة الكرام
أن الملائكة باسطو أجنحتها للشام وهو أمر روى الترمذي في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ زَيدِ بنِ ثَابِتٍ رضي اللهُ عنه: قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: “طُوبَى لِلشَّامِ، طُوبَى لِلشَّامِ، قُلتُ: مَا بَالُ الشَّامِ؟ قَالَ: المَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَجنِحَتَهَا عَلَى الشَّامِ”[12].
ذكر الحافظ أبو القاسم من رواية معروف الخيّاط ، قال : سمعت واثلة ابن الأسقع ، يقول : ” إن الملائكة تغشى مدينتكم هذه ـ يعني : دمشق ـ ليلة الجمعة فإذا كان بكرة افترقوا على أبواب دمشق براياتهم وبنورهم فيكونون سبعين رجلا ، ثم ارتفعوا ويدعون الله لهم اشف مريضهم وردّ غائبهم”[13]
والمقصود أن الملائكة تبسط أجنحتها على بقعة الشام وأهلها بالمحافظة عن الكفر، وقال المناوي: أي تحفها وتحولها بإنزال البركة ودفع المهالك والمؤذيات.
الأمر بسكنى الشام
روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ حَوَالَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ[14]. وفي رواية: تَكَفَّلَ -لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ.
وأراد بالتوكل التكفل، فإن من توكل بشيء فقد تكفل بالقيام به، والمعنى: أنه تعالى ضمن لي حفظها وحفظ أهلها من بأس الكفرة واستيلائهم، بحيث يتخطفهم ويدمرهم بالكلية[15].
وقال سعيد بن عبد العزيز: وكان ابن حَوالة رجلًا من الأزد، وكان مسكنه الأردن، وكان إذا حدث بهذا الحديث قال: وما تكفل الله به، فلا ضيعة عليه.
وفي الحديث الشريف إشارة إلى فضل سكنى الشام والترغيب فيه، قال ابن رجب: وحاصل ما نُقِل عن الإمام أحمد أنَّه يُسْتَحَبُّ سُكْنَى الشام والانتقال بالذرية والعيال إِلَى معاقلها كدمشق، فأما أطرافها وثغورها القريبة من السواحل فلا يستحب سكناها بالذرية، لما يخشى عليهم من إغارة الكفار، وإنَّما يستحب الإقامة بها للرباط بدون نقل النساء والذرية.
وكل ما كان من بلد من بلدانها أقرب إِلَى السواحل، وأشد خوفًا، فإنَّه يكره نقل الذرية إِلَيْهِ.
فأما الأحاديث في فضائل الشام فلا تختص عنده بثغورها، بل هي عامة لجميع أرض الشام، كبيت المقدس، وما والاه ودمشق وغيرها، والله تعالى أعلم[16].
وفي الحديث أيضاً وعد من الله تعالى لرسوله بحفظ هذِه المملكة وحفظ أهلها، ولن يخلف الله وعده.
قال ابن رسلان المقدسي: لكن سياق الكلام يدل على أن المراد بالحفظ عند كثرة الفتن ومهاجرة الناس إليها، وسيأتي في كلام رواية أبي داود الطيالسي حفظ بيت المقدس من الدجال من رواية سفينة أن الدجال يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله تعالى عند عقبة أفيق… ويحتمل أن يراد عموم الحفظ في جميع الأزمان[17].
استقرار العلم والإيمان في الشام
روى الحاكم في المستدرك مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “إِنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحتِ وِسَادَتِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الفِتَنُ بِالشَّامِ”.[18]
وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه وهم حملته القائمون به[19].
الطائفة المنصورة من المجاهدين في الشام
ومثل ذلك أن الطائفة المنصورة التي تقاتل في سبيل الله، وهم خير المجاهدين، يرابطون في بلاد الشام، فقد روى الترمذي في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ ابْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ”[20].
وفي “الصحيحين” عن عمير بن هانئ أنَّه سمع معاوية يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: “لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم عَلَى ذلك”.
قال عمير: فَقَالَ مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام
وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: ” لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة”.
وأهل الغرب هم أهل الشام نقل ابن تيمية ذلك عن الإمام أحمد وأيده.
وقد تتبع ابن رجب عددا من أقوال الصحابة والتابعين التي توافق على هذا التفسير مما ذكر:
- عن أبي هريرة قال: “لا تسبوا أهل الشام، فإنهم جند الله المقدم”.
- النهي عن قتال أهل الشام وذم من قاتلهم: قال علي رضي الله عنه: “لا تقاتلوا أهل الشام بعدي”.
وروى أبو القاسم من الحافظ بإسناده عن أبي بكر النهشلي قال: كنت في الجمع -يعني: جمع الكوفة- يوم جاء أهل الشام يقاتلون أهل الكوفة، فإذا شيخ حسن الخطاب، حسن الهيئة عَلَى دابة له، وهو يقول: اللهم لا تنصرنا عليهم، اللهم فرق بيننا وبينهم، اللهم، اللهم؟ فقلت: يا عبد الله، ألا تتقي الله؟! ترى قومًا قد جاءوا يريدون، يقاتلون مقاتلينا ويسبون ذرارينا، وأنت تقول: اللهم لا تنصرنا عليهم؟!
فَقَالَ: ويحك! إني سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يغلب أهل الشام إلا شرار الخلق[21].
وصية النبي صلى اللهُ عليه وسلم بالتوجه إلى الشام
روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “سَتَخْرُجُ نَارٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ. قَالُوا: فَبِمَ تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ[22]”.
هلاك المسيح الدجال في الشام
روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عِندَمَا ذَكَرَ وُصُولَ المُسلِمِينَ إِلَى الشَّامِ، قَالَ: “فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ”.
مناقب خاصة ببلاد دمشق
ثبت في بلاد دمشق أحاديث خاصة تشير إلى فضلها وانفرادها بخصائص نذكر الصحيح منها فقط:
دمشق خير منازل المسلمين في آخر الزمن
روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ”.[23]
وفي رواية: “يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ الكُبرَى فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ بِأَرضٍ يُقَالُ لَهَا: الغُوطَةُ، فِيهَا مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، خَيرُ مَنَازِلِ المُسلِمِينَ يَومَئِذٍ.[24]
قال ابن تيمية: والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام. وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها. وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أسري بالنبي ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم عليه السلام وهو بالشام[25].
ومما نقل عن الصحابة والتابعين في استقرارهم بدمشق حرسها الله تعالى:
- قال الأوزاعي: بلغني أن بالشام واديًا يقال له: الغوطة فيه مدينة يقال لها: دمشق، هي خير مدائن الشام يوم الملاحم.
- واشتهر عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رغبته السكن في دمشق.. فقد روى عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إن منزلي قد نبا بي بالعراق والحجار فخر لي؟ قال: أرضى لك ما أرضى لنفسي ولوالدي عليك بدمشق، ثم عليك بمدينة الأسباط بانياس؛ فإنها مباركة السهل والجبل، وإن البركة عشر بركات، خص الله بانياس من ذلك: ببركتين، وإذا وقعت الفتن كانت بها أخف منها في غيرها، فوالله لفدَّان بها أَحَبّ إليّ من عشرين بالوهط. والوهط بالطائف.
- وعن أبي الدرداء لما أمره معاوية أن يرجع من دمشق إِلَى حمص: يا معاوية أتأمرني بالخروج من عقر دار الإسلام؟!
نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بغوطة الشام
روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: “فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْق”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقًا على المناقب السابقة من الكتاب والسنة وآثار العلماء:
“وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتار وأمري لهم بلزوم دمشق ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت العسكر الشامي فيه، وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر الله للمسلمين صدق ما وعدناهم به وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحًا عظيمًا ما رأى المسلمون مثله مثل صرح مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام فإنهم لم يهزموا أو يغلبوا كما غلبوا على باب دمشق في الغزوة الكبرى التي أنعم الله علينا فيها من النعم بما لا نحصيه خصوصًا وعمومًا.[26]
فضائل بيت المقدس
نختم هذا المقال بإفراد بيت المقدس أو القدس بذكر بعض ما جاء فيه من مناقب خاصة تبعا للمنهج الذي سلكه العلماء المصنفون في فضائل الشام ودمشق. وقد ثتب مجموعة من الأحاديث الصححية في فضائل بيت المقدس – حرره الله تعالى من يد العابثين –، وبلغ كثرة حتى قال ابن رجب: ولو استقصينا ما ورد في فضله لطال الكتاب، وإنما نقتصر عَلَى ذكر أعيان الأحاديث المرفوعة في فضله دون الآثار والإسرائيليات”[27].
وهنا جملة من فضائل بيت المقدس:
بيت المقدس مسرى رسول الله ﷺ
قال الله- سبحانه وتعالى في فضله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وفي الصحيحين عن جابر أن النبي ﷺ قال: “لما كذبني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه”.
وخرج مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: “لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس، لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به”.
بيت المقدس أحد المساجد الثلاثة المفضلة
جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه سلم- قال: “لا تشد الرحال إلا إِلَى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”.
وقد أسند هذا الحديث عن النبي ﷺ من رواية جماعة من الصحابة والمعنى متقارب.