إن التسبيح له شأن عظيم ومكانة رفيعة؛ إذ هو أحد الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله ﷺ بأنها خير الكلام وأحبه إلى الله، وذلك في قوله ﷺ: “أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” (صحيح مسلم).
التسبيح في القرآن الكريم
وكلمة: سبحان الله، التي هي إحدى هؤلاء الكلمات لها شأن عظيم، فهي من أجل الأذكار المقربة إلى الله، ومن أفضل العبادات الموصلة إليه، وقد جاء في بيان فضلها وشرفها وعظم قدرها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، بل إن ما ورد في ذلك لا يمكن حصره لكثرته وتعدده.
وقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، بصيغ مختلفة وأساليب متنوعة.
فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} (سورة الأحزاب: 41 – 42)
وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الحشر :1)
وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} (سورة الجمعة : 1)
وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} (سورة الصافات : 180 – 182) .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التسبيح في مفتتح ثماني سور من القرآن الكريم، فقال تعالى في أول سورة الإسراء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (سورة الإسراء : 2)
وقال تعالى في أول سورة النحل: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون} (سورة النحل: 1 – 2)
وقال تعالى في أول سورة الحديد: {سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الحديد: 1)
وقال تعالى في أول سورة الحشر: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الحشر: 1)
وقال تعالى في أول سورة الصف: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الصف: 1)
وقال تعالى في أول سورة الجمعة: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} (سورة الجمعة: 1)
وقال تعالى في أول سورة التغابن: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} (سورة التغابن: 1)
وقال تعالى في أول سورة الأعلى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثآء أحوى} (سورة الأعلى: 1 – 5).
قال بعض أهل العلم (1): والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين وجها، ستة منها للملائكة، وتسعة لنبينا محمد ﷺ، وأربعة لغيره من الأنبياء، وثلاثة للحيوانات والجمادات، وثلاثة للمؤمنين خاصة، وستة لجميع الموجودات.
أما التي للملائكة فمنها قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} ، (سورة غافر: 7)
وقوله: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسأمون} (سورة فصلت: 38)
وقوله: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون اليل والنهار لا يفترون} (سورة الأنبياء: 19 – 20)
وقوله: {وإنا لنحن الصآفون وإنا لنحن المسبحون} (سورة الصافات: 165 – 166) .
وأما التي لنبينا ﷺ فمنها قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} سورة الحجر، الآية: (98 – 99)
وقوله: {ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} (سورة الإنسان: 26) وقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (سورة النصر: 3).
وأما التي للأنبياء فقول الله تعالى لزكريا عليه السلام: {وسبح بالعشي والإبكار} (سورة آل عمران: 41)
وقوله تعالى عن زكريا عليه السلام في وصيته لقومه بالمحافظة على التسبيح: {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا} (سورة مريم: 11)،
وقوله تعالى عن يونس عليه السلام في إنجائه من ظلمات البحر وبطن الحوت لملازمته للتسبيح: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (سورة الصافات: 143 – 144) .
وأما التي للمؤمنين فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} (سورة الأحزاب: 41 – 42)
وقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} (سورة السجدة: 15)
وقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} (سورة النور: 36 -37).
وأما التي في الحيوانات والجمادات فمنها قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} (سورة الإسراء: 44)
وقوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} (سورة ص: 18 – 19)
وقوله تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} (سورة النور:41) .
وأما التي لعموم المخلوقات فمنها قوله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} (سورة الحشر: 1)
وقوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} (سورة التغابن: 1)
وقد ذكر الله – تعالى – لفظة {سبحان} في القرآن في خمسة وعشرين موضعا، في ضمن كل واحد منها إثبات صفة من صفات المدح، أو نفي صفة من صفات الذم (2).
منها قوله تعالى: {سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون} (سورة البقرة: 116)
وقوله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} (سورة الصافات: 180 – 182)
وقوله تعالى: {سبحان الله عما يشركون} (سورة الطور: 43) ، وقوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} (سورة الروم: 17 – 18)
وقوله تعالى: {سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون} (سورة الزخرف: 82 )
وقوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} (سورة يونس:10) .
فهذه النصوص القرآنية الكريمة وما جاء في معناها في كتاب الله تدل أوضح دلالة على جلالة قدر التسبيح، وعظيم شأنه من الدين، وأنه من أجل الأذكار المشروعة، ومن أنفع العبادات المقربة إلى الله عز وجل.
التسبيح في السنة النوية
وقد دلت السنة النبوية – أيضا – على فضل التسبيح وعظيم مكانته عند الله من وجوه كثيرة، بل إن السنة مليئة بالنصوص الدالة على عظيم شأن التسبيح، وشريف قدره، وجزيل ثواب أهله، وبيان ما أعد الله لهم من أجور كريمة، وأفضال عظيمة، وعطايا جمة. وقد تضمنت تلك النصوص الدلالة على ذلك من وجوه كثيرة:
ومن ذلك أن النبي ﷺ أخبر أن التسبيح أفضل الكلام وأحبه إلى الله، وقد سبق أن مر معنا قول النبي ﷺ: “أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”. (صحيح مسلم).
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن رسول الله ﷺ سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: “ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده”(صحيح مسلم).
وفي لفظ آخر للحديث أن أبا ذر قال: قال رسول الله ﷺ: “ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله. قال: إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده” (صحيح مسلم). فدل هذا الحديث على عظيم مكانة هذه الكلمة عند الله عز وجل.
ومن فضائل التسبيح ما أخبر به النبي ﷺ أن من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه ذنوبه ولو كثرت. ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر” (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
وثبت عنه ﷺ أن من قالها في الصباح مائة مرة وفي المساء مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا من قال مثل ذلك وزاد عليه. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه” (صحيح مسلم).
وثبت عنه ﷺ أن من قالها في يوم مائة مرة كتبت له ألف حسنة أو حطت عنه ألف خطيئة، والحسنة بعشر أمثالها. روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: “أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة” (صحيح مسلم).
ومما ورد في فضل التسبيح إخبار النبي ﷺ عن ثقل التسبيح في الميزان يوم القيامة مع خفة ويسر العمل به في الدنيا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم” (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
وقوله ﷺ في الحديث: “كلمتان” هي خبر مقدم مبتدؤه “سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”، قال بعض أهل العلم: “والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه؛ لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا”(3). وقد وصفت الكلمتان في الحديث بثلاثة أوصاف جميلة عظيمة، وهي: أنهما حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان.
وقد خص لفظ الرحمن بالذكر هنا؛ لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله – تعالى – على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، فما أيسر النطق بهاتين الكلمتين على اللسان، وما أعظم أجر ذلك وثوابه عند الكريم الرحمن، وقد وصفت الكلمتان في الحديث بالخفة والثقل، الخفة على اللسان والثقل في الميزان، لبيان قلة العمل وكثرة الثواب. فما أوسع فضل الله! وما أعظم عطاءه!
ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة، ما رواه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: “من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة” (4)، وله شاهدان:
أحدهما: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – موقوفا، خرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(5).
والآخر: من حديث معاذ بن سهل مرفوعا، خرجه الإمام أحمد في مسنده (6).
ومن فضائل هذه الكلمة ما رواه الطبراني، والحاكم، من حديث نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: “من قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، ومن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له”.
قال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني(7).
وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: “من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك” (8).
فهذه جملة من الأحاديث الواردة في التسبيح والدالة على عظيم فضله وثوابه عند الله، وفي أكثر هذه الأحاديث قرن مع التسبيح حمد الله – تعالى -؛ وذلك لأن التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميد فيه إثبات المحامد كلها لله عز وجل، والإثبات أكمل من السلب، ولهذا لم يرد التسبيح مجردا، لكن ورد مقرونا بما يدل على إثبات الكمال، فتارة يقرن بالحمد كما في هذه النصوص، وتارة يقرن باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال، كقول: سبحان الله العظيم، وقول: سبحان ربي الأعلى، ونحو ذلك (9).
والتنزيه لا يكون مدحا إلا إذا تضمن معنى ثبوتيا، ولهذا عندما نزه الله – تبارك وتعالى – نفسه عما لا يليق به مما وصفه به أعداء الرسل سلم على المرسلين الذين يثبتون لله صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه اللائق به، وذلك في قوله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} (سورة الصافات: 180 – 182) ، وفي هذه الآية – أيضا – حمد الله نفسه بعد أن نزهها؛ وذلك لأن الحمد فيه إثبات كمال الصفات، والتسبيح فيه تنزيه الله عن النقائص والعيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح وإثبات لكمال بالحمد، وهذا المعنى يرد في القرآن والسنة كثيرا، فالتسبيح والحمد أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما المنهج الحق في توحيد الأسماء والصفات، وبالله وحده التوفيق.