بعد مرور أكثر من عامين على بدء شرارة الربيع العربي التي أدخلت العالم العربي في منعطف جديد من نوعه، وجعلته في موقع المسؤولية التاريخية؛ تظهر الحاجة إلى إنشاء خطاب إصلاحي، في جميع مفاصل الحياة الاجتماعية، بدءاً بالمؤسسات التربوية، والدينية، وانتهاء بالمؤسسات السياسية، ذلك أن الحالة الاجتماعية العربية قبل الثورات أظهرت العجز التام عن طرح مفاهيم الإصلاح، كما عانت التيارات الإصلاحية من عداء اجتماعي، ومحاربة من قبل كثير من المؤسسات السياسية والدينية وغيرها.

وتتم “مَأْسسة” هذا الخطاب الإصلاحي من قبل مؤسسات مختلفة، تبلور باجتماعها خطابًا إصلاحيًّا متكامل المدخلات، والمخرجات، وعمليات التفاعل، ليدخل الكل الاجتماعي في عملية إصلاحية ديالكتيكية، تفرز في كل دور أحسن ما عندها، ومتجاوزة في الوقت نفسه أخطاء أفرادها.

وفي حالة “مأسسة” الإصلاح في شكل خطاب لغوي، تبرز قيم الإصلاح في شكل مفردات لغوية متداولة، في الإعلام، وفي وسائل المجتمع الإعلامية، والتربوية، والدينية، ويتحول سماعها من قبل الأجيال إلى أمر مألوف لدى الأجيال الناشئة، مما يسهل عليها مهمة إكمال عملية الإصلاح الاجتماعي، والفكري، والثقافي.

من هم المعنيون؟

وتكون المؤسسات المعنية بهذا الإصلاح، هي القَيِّمة على مثل هذا المشروع، وهذه المؤسسات هي “التربوية، والدينية، والإعلامية”،  حيث يقوم مفكرو هذه المؤسسات، بتشكيل هيئات متعددة، لتتشارك في هذه العملية.

وتلقى مهمة مأسسة مفردات ولغويات إصلاحية على عاتق مجامع اللغة العربية، التي يتوجب عليها إغناء اللغة العربية بالمفردات المتجددة، المنحوتة من مصادر اللغة العربية المتعددة، كي تبقى اللغة العربية قادرة على استيعاب مفردات الإصلاح، من دون أن تتجاوزها خطابات الإصلاح كلغة غير متجددة.

ويأتي دور المفكرين في هذا المشروع، ليضعوا قائمة بالمفاهيم الإصلاحية، بشكل متدرج منطقي، كي لا يحدث الانتقال ”الفج“، خللا في النسيج الاجتماعي، بين “فئة الكبار”، المعارضة بحكم تقدم سنها لهذا التغيير، وبين ”فئة الشباب” المتشوفة ”للتغيير والإصلاح”.

في مدخلات الخطاب

ويتم إدخال مفردات الخطاب الإصلاحي المؤسس ضمن المناهج الدراسية، على أنها من ضمن الأهداف العامة التي يجب أن يسعى المنهاج إلى تحقيقها، في المراحل المختلفة، وفي المواد الدراسية كلها، مما ينشئ لدى الطالب ثقافة إصلاحية، تنبع من حاجات مجتمعه، وتسعى لإرساء قيم الإصلاح فيه.

فمثلاً، يتم تداول مصطلحات سياسية في إطار اجتماعي حياتي، مثل مصطلح ”الآخر” في مستويات المنهاج الدراسية جميعها، وفي المراحل كلها، حيث يعطى في كل مستوى دراسي معنى جديدا، فتضرب بها الأمثلة، وتعقد المقارنات، وترسم صور إيجابية عنه، ويطلب من الطالب البحث عنه، ثقافيًّا، وحضاريًّا، وعلميًّا في مستويات متقدمة.

ومثل مصطلح ”تكافؤ الفرص”، حيث تنسج قصص عن مفهوم هذا المصطلح، ويطلب من الطالب إبداء رأيه في هذا الموضوع، وتقوم وسائل الإعلام الاجتماعية، بإنشاء برامج تفاعلية حول عدد من هذه المصطلحات، وتوعية الناس تجاهها.

ويأتي الإعلام الترفيهي بشقيه ”برامج الكرتون للأطفال والدراما” ليقوم بدور الموجه غير المباشر، بوصفه إعلامًا جاذبًا ومتابعًا من قبل الجميع.

وللخطاب الديني الإصلاحي دور في ترسيخ هذه المفاهيم التي تخدم مقاصده وقضاياه، حيث تركز الخطب الدينية على هذه المفاهيم والمصطلحات، محفزة قطاع المؤمنين على سعيهم، إليها، كونها من العبادات التي يؤدونها لتقربهم إلى ربهم.

ويكون هذا الخطاب موجها للكل الاجتماعي، على اختلاف طبقاته، وتنوع فئاته، ومراحله العمرية، مع التركيز على الفئة الشبابية، التي ترى العالم من منظور آخر غير منظور الكبار.

في عمليات التفاعل

وتتم معالجة هذه الألفاظ والمفاهيم الإصلاحية في نسق عملي مبسط، لينتج من تعانق اللفظة ومدلولها، إنتاج المفهوم الإصلاحي بصورة واقعية، أكثر منها فلسفية نظرية، وهذا يؤدي إلى التفاعل الفعال بين الفكرة وحاملها، منتجا سلوكا إصلاحيًّا عمليًّا، بعد أن كان محض لفظ ومدلولا نظريا فلسفي.

وفي أثناء عملية التفاعل تبرز قيم تكون علة لما بعدها، ومعلولة لما قبلها، فهي تأتي في طور ثان من علمية إنتاج الإصلاح من مثل ”الحوار” و”الموضوعية في النقاش” مما يعطي عملية الإصلاح وجودا أكبر على المستويين النظري والعملي.

في مخرجات الخطاب 

مع مرور الزمن، يتحول هذا الخطاب الذي كان “حكرًا ” على المثقفين، إلى ثقافة شعبية رائجة بين طبقات المجتمع ككل، وينتقل من طور التنظير والمحاضرات، إلى طور الواقعية والتجربة، ويجعل الكل فاعلًا في هذه العملية، من دون أن يكونوا حروفاً ساكنةً، أو غائبة عن الفاعلية.

 في علمية النقد والتقويم 

وتشكل هذه المخرجات موضوعًا للنقد والتقويم، حيث يقوم المجتمع بمؤسساته، بفحص النتائج والمخرجات، على ضوء الوقائع وسنن التاريخ والاجتماع، ليتم الحفاظ على الإيجابيات، وتجاوز السلبيات، لتشكل المخرجات في طور آخر، مدخلات لعملية إصلاحية أخرى، وهكذا دواليك لحين مقاربة الأهداف التي وضعت خطط الإصلاح من أجل تحقيقها.

إن إنشاء خطاب إصلاحي مؤسساتي كفيل برأيي في إدخال عالمنا العربي المتشوف للإصلاح في هذا السباق التاريخي، الذي بات الحديث عن ضرورته وأهميته حديث الدوائر كلها، وهذه المهمة ملقاة على عاتق المجتمع، مثقفين ومسؤولين في آن معًا.