جاء الخطاب في قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] موجها للنبي ﷺ وأمته من بعده أن يكون احتفاؤهم بفضل الله تعالى ورحمته عليهم وهما القرآن والإسلام وما يتبعهما من أمور الدين والعبادات، فإنه يفهم من الفرح بالقرآن العمل به والاهتداء إليه والدعوة إليه، فهذا عين الرح بالقرآن، كما يدخل في الإسلام الأموامر والنواهي التي جاء بها الإسلام، وهذه هي الشريعة الإسلامية بعينها، ففرحة المؤمنين بالإسلام وشرائعه أولى من كل أمور الدين وحظوظها، لذلك فإن هذه الآية مرتبطة بالآية التي قبلها، وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [يونس: 57].
وأما توجيه التناسب بين الآيتين فقد نظر إلى ذلك ابن عاشور فقال:
يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتها، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حرم منها أكثر المؤمنين ومنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع.
وجيء بالأمر بالقول معترضا بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويها بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمرا خاصا بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأمورا بأن يقوله. “التحرير والتنوير” (11/204).
ويقول ابن كثير: بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به هو خير مما يجمعون أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة “تفسير ابن كثير” (4/239).
ففضل الله تعالى ورحمته هو الهداية لدينه وشرعه ، وأخص ذلك هو القرآن المجيد والإيمان .
قال ابن القيم : “وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحًا، حتى إن القلب ليرقص فرحًا ــ إذا باشر روح السنة ــ أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنًا أخوف ما يكون الناس” “اجتماع الجيوش: ص10”.
وفي “التفسير الوسيط – مجمع البحوث” : (4/ 106) : ” والمعنى: قل يا محمد: أَيها الناس قد جاءَكم القرآن واعظًا لكم، وشافيًا لصدوركم، وهاديًا لقلوبكم، ورحمة للمؤمنين منكم، وهذا كله بفضل الله – تعالى – وبرحمته، فبذلك وحده فليفرح الناس جميعًا، فإِنه خير وأَبقى مما يجمعون من متاع الدينا، فهو زاد الآخرة الذي ليس له فناء، أَمَّا الدنيا ومتاعها فإلى زوال وإلى هباءٍ ” .
وعلى هذا القول الظاهر في معنى الآية: فالفرح إنما يكون بالرحمة الحاصلة للمؤمنين في الدنيا، بالقرآن العظيم، وهدايتهم إلى دين الإسلام.
ذكر بعض العلماء أن رحمة الله المذكورة في الآية عامة، تشمل الدنيا والآخرة .
قال “ابن عطية”: ” هذه آية خوطب بها جميع العالم، و الموعظة: القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف، ويزجر ويرقق، ويوعد ويعِد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله (مِنْ رَبِّكُمْ) يريد لم يختلقها محمد ﷺ بل هي من عند الله، وما فِي الصُّدُورِ يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هُدىً وَرَحْمَةٌ بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه.
وقوله سبحانه : ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ )، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس: الفضل هو الإسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل هو القرآن، و الرحمة أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم والضحاك الفضل هو القرآن، والرحمة هي الإسلام ، وقالت فرقة: الفضل محمد ﷺ، والرحمة القرآن.
وقد دارت المعاني حسب أقوال المفسرين حول القرآن والإسلام والنبي ﷺ على اختلاف في حمل الكلمات، وحملها على المعاني الشاملة للشرائع الإسلامية، وعلى هذا ينطبق ما جاء عن ابن عطية.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي ﷺ ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن الفضل هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، و الرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم: فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله، منتظرون الرحمة، والكافرون يقال لهم: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ” انتهى من “المحرر الوجيز” (3/ 126)
قال ابن عاشور:
وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي. وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافته الفضل والرحمة إلى الله، وإسناد فعل يجمعون إلى ضمير الناس.
وهذا الفضل أخروي ودنيوي. أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة. قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) [الفجر: 27، 28] فجعل رضاها حالا لها وقت رجوعها إلى ربها.
قال فخر الدين: «والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة ألبتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد»
وعلى ذلك يكون المعنى إن الدنيا وما فيها لا تستحق أن يفرح بها العاقلون، بل إنما يكون فرحهم الحقيقي : يوم القيامة أن يتغمدهم الله برحمته التي يرجونها، ويؤملونها، ويدخلهم الجنة الذي بها مستقر الرحمة والفضل الدائم.