قبل التطرق لأحد أهم كتب علم الكلام “التسديد في شرح التمهيد ” من المعلوم أن علم الكلام الإسلامي من العلوم الملية التي تفخر بها الأمة الإسلامية في تاريخ حضارتها التليد؛ ذلك أن هذا العلم يتعلق بأشرف معلوم، وهو ما يخص الذات العلية والعقائد اليقينية التي يدين بها المكلف في دين عظيم ختم الله به الديانات السماوية السابقة ونسخها.
ومنذ أن قيض الله لهذا العلم الشريف من يقرر قواعده الصحيحة في مجاري النظر ومسالكه على منهج أهل السنة والجماعة، وهذا العلم يعرف تطورًا مستمرًا من قِبل أذكياء علماء الإسلام في بيان جليله ودقيقه.
وكان المجدد الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ) طيب الله ثراه، أحد أبرز الأئمة الذين بينوا معالمه وحدوده وضوابطه ومسائله؛ حتى أصبح علمًا مكتملة أركانه، وأضحى مذهبًا عقديًّا سنيًّا ينتسب إليه أهل السنة في العالم الإسلامي، بعد تفرق الأمة في مقالاتها. وقد استقبلت الأمة كتبه بالقبول والترحاب، وانتشر مذهبه في الآفاق الإسلامية مشرقًا ومغربًا، وشهره أئمة عظام من مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية؛ فكان مذهبًا سنيًّا وسطًا بين مذاهب العقلانيين والظاهريين.
وقد حظي مذهب الإمام الأشعري بنصرة كبار الأئمة؛ كأبي عبد الله بن مجاهد (370هـ) وابن فورك (406هـ) وأبي الحسن القابسي (403هـ) وأبي بكر الباقلاني (403هـ) وصاحبه الإمام أبي عبدالله الأذري (431هـ – 440هـ) الذي توجه إلى المغرب ناشرًا هذا المذهب السني الكلامي بالقيروان، بعد أن استوى علمًا قائمًا بذاته وشجرة عقدية طيبة توتي أكلها بإذن ربها، فكان من فضله تعالى أن أخذ هذا العلم عنه الإمام الكلامي البارع والأصولي اللوذعي المصقع، القاضي عبد الجليل أبو القاسم الديباجي الصابوني القيرواني، الذي كان حيًّا سنة 478 هـ؛ حيث تصدى لشرح أهم كتب الباقلاني في علم الكلام، وإملاء نكت علمية شريفة عليه، وسماه (التسديد في شرح التمهيد) .
ومن لطيف الأقدار الإلهية أن يبقى هذا الكتاب مخطوطًا حبيس الخزانات، رغم استمداد كبار علماء المغرب منه؛ كالإمام ابن العربي (543هـ) والإمام اليفرني (734هـ) وغيرهما من أعلام المغرب الإسلامي بعدوتيه، حتى قيض الله لإخراجه من مرقده باحث في علم الكلام الإسلامي من المغرب الأقصى، ويتم طبعه في دار الفتح من الأردن، ويتولى التقديم للكتاب أحد كبار علماء الإسلام المشهورين في علم الكلام من أرض الكنانة بمصر، وهو العلامة الإمام الموسوعي المتواضع الشيخ الأزهري فضيلة الدكتور العالم حسن الشافعي حفظه الله، رئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ورئيس المجمع اللغوي السابق وعضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف.. فكان هذا الكتاب النفيس كثير الأنوار؛ يشترك فيه أهل العلم من المشرق والمغرب من زمن الباقلاني إلى عصرنا هذا، وهو ما يدل على تجذر الوحدة الإسلامية والعقدية في ذاكرة الأمة، التي تجمع المسلمين وتوحدهم في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد تولت دار الفتح الرائدة في مجال الدراسات الشرعية والتراثية إخراج كتاب (التسديد في شرح التمهيد) للإمام أبي القاسم الديباجي التونسي القيرواني، في حلة قشيبة – جميلة – وتحقيق علمي متين، بتحقيق الدكتور حمزة أحمد النهيري، وتقديم الإمام الكبير فضيلة العلامة الدكتور الشيخ حسن الشافعي.. ليكون هذا الكتاب لبنة في صرح المكتبة الإسلامية العظيمة في علم الكلام الإسلامي، وجوهرة نفيسة من جواهر كتب علم الكلام في الغرب الإسلامي؛ حيث يعد هذا الشرح أقدم وأمتن شرح لكتاب التمهيد لما يتضمنه من تقريرات علمية في الكلام والأصول وعلم مقارنة الأديان، ولا يعلم لكتاب تمهيد الباقلاني ( رأس الأشعرية في المشرق بعد مؤسسه)، شرح عند المتقدمين غير هذا الشرح النفيس الذي يحتوي كنوزًا معرفية عميقة تنوعت بين الدرسين الكلامي والأصولي وعلم مقارنة الأديان الذي يعد فرعًا من فروع علم الكلام الإسلامي.
وقد كان هذا الكتاب من أهم استمدادات الإمام ابن العربي المالكي المعافري (543هــ) دفين مدينة فاس، في كتابه (الوصول إلى معرفة الأصول)، وهما كتابان مهمان في حقل علم الكلام الإسلامي في الغرب الإسلامي، يوضحان طبيعة الدرس الكلامي في هذه الحقبة من تاريخ الإسلام.
كما أن هذا الكتاب ألحق فيه المحقق مجموعةً من الرسائل والمسائل التي أملاها أبو القاسم الديباجي في الأصلين، وأهمها رسالة التكليف بما لا يطاق؛ حيث أجاب عن الإشكال الواقع في هذه المسألة بين من يجوز التكليف بما لا يطاق وبين من يمنعه من الأئمة، مع بيان أدلة ومنزع كل مدرسة عقدية في اختيارها المذهبي حول هذه المسألة.