قصة مأثورة للفاروق عمر رضي الله عنه حين دخل في نقاش حازم مع أحد ملوك الغساسنة وهو جبلة بن الأيهم، بعد حادثة لطمه لرجل من عوام بني فزارة أثناء الطواف بالبيت، ما أغضب الفزاري حتى اشتكاه إلى الخليفة العادل عمر، فبعث اليه وسأله: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟

قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى وأدركتُ حقي بيدي !

قال عمر: أيُّ حقّ يا ابن أيهم؟

يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه المفاهيم لا محل لها عنده، يُقهر المستضعف أو يُظلم.. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة، والكل سواسية أمام شرع الله.

حديث الفاروق لم يعجب جبلة وكان صدمة أولى له. هذا الذي عاش ملكاً قبل الإسلام، ويريد أن يكون كذلك بعد الإسلام ملكاً يعامل الآخرين كالعبيد كما كان في جاهليته. ثم كانت الصدمة الثانية حين أصدر عمر حكماً للرجل الفزاري أن يقتص من الملك، حسب قانون العين بالعين والسن بالسن.. يلطمه الرجل ويهشم أنفه.

قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟

هو سوقة وأنا صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني.

قال عمر: «عالمٌ نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعـزٌّ الناس بالعبد بالصعلوك، تساوى».

لم يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر.

لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى. ولم يفهم أن الارتداد عن الدين يستوجب حداً شرعياً إن هو أقدم عليه.. فما كان من جبلة إلا أن طلب من عمر أن يمهله إلى الغد. حتى إذا انتصف الليل هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل الروم، مرتداً عن دينه !

فلما أصبح الناس، طلبه الفاروق، فعلم أنه فر إلى حيث إمبراطور الروم. لكن عمر لم يهتم به ولا مسألة ارتداده عن الإسلام، حتى وإن كان ملكاً من ملوك العرب، واحتمالية ارتداده عن الدين أن تؤثر على ردة ألوف من قومه معه.

الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدرك ويوقن تمام اليقين أنه في فترة تأسيس وترسيخ قواعد العدالة في دولة فتية، وإن أي تهاون في ذلك أو تأجيل هدم قيم الجاهلية غير المتوافقة مع الدين الجديد، ومنها تعطيل العدالة لصالح كبراء وعلية القوم وإضاعة حقوق ضعاف المسلمين، إنما يعني بناء الدولة على أسس هشة غير صلبة، أو أشبه بتأسيس بنيان على جرف هار يوشك أن ينهار بالبنيان في أي لحظة.

الشاهد من الحديث أن ما قام به الفاروق وهو يسير على درب حبيبه المصطفى وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، كان يريد أن يرسّخ في الأذهان وإلى يوم الدين، معنى أن يعيش الناس أحراراً آمنين مطمئنين، لا يظلمون ولا يُظلمون، وأنه لا ذات مصونة أمام القضاء أو الشرع. الكل أمام الشرع سواسية.

لا يوجد أي سبب يدعو للتفاضل بين الناس في مسألة العدالة. لا منصب، ولا مال، ولا جاه، ولا حسب أو نسب. وهذا يفسر لك لماذا يخاف كثيرون أن يحكم الإسلام كما جاء به محمد ، سواء كان الخائفون من أمة محمد أو من هم خارجها..