هل تعلم أن هناك حقائق أساسية في الدين الإسلامي لا تحتاج إلى دليل لإثباتها لشيوعها ووضوحها، تُعرف بمصطلح “ما علم من الدين بالضرورة”. هذا المفهوم الفقهي يتناول قضايا جوهرية في الإيمان والتدين مثل الصلاة، الصيام لا يُعذر المسلم بجهلها إلا في ظروف خاصة. الغريب أن هذا المصطلح الفقهي ليس حديثًا؛ بل استُخدم منذ قرون في كتب الفقه الأربعة الكبرى، لتحديد ضوابط أساسية للعقيدة والتشريع.

 من أجل تعميق الفهم، نتعرف من خلال هذا المقال كيفية تناول الكتب الفقهية عبارة “ما علم من الدين بالضرورة”. 

ماذا يعني “ما علم من الدين بالضرورة” ؟

من المصطلحات الشرعية عبارة: “ما علم من الدين بالضرورة” وما على شاكلتها من عبارات مشابهة. وتطلق على قضايا الدين الإيمانية والتدين العملية في الإسلام التي يعرفها عامة المسلمين قبل خاصتهم، بل ويعرفها غير المسلم الذمي الذي يعيش بين المسلمين لتواترها وشهرتها، ولأنها تتعلق بلب الإسلام وجوهره الواضح. جدير بالذكر أن كلمة “ضرورة” مصطلح منطقي استعاره الفقهاء واستعملوه واستفادوا منه ووظفوه في السياق الفقهي والأصولي. إذ العلم في فن المنطق إما تصور أو تصديق، وكل منهما إما ضروري (ويطلق عليه أيضا: بدهي) أو نظري؛ الأخير هو ما احتاج دليلا وبرهنة واستدلالا لخَفاءٍ فيه، والضروري أو البدهي هو ما لم يحتج إلى دليل لشيوعه ووضوحه. ويدخل فيه النسبية أحيانا بهذا.

“فما علم من الدين بالضرورة” بمعنى ما علم بداهة في الدين، أو ما يجب على كل مسلم معرفته، لأن سرّ إسلامه يكمن في معرفة هذه الأصول، وإلا لكان مسلما بالاسم أو الميلاد فحسب.

7 أوجه في النصوص الفقهية

عبارة: “ما علم من الدين بالضرورة” استعملتها كل الكتب الفقهية على اختلاف مذاهبها الأربعة، بحيث أصبحت لها دلالة، وأمثلة ومستلزمات، وارتبطت بجملة قضايا فقهية. أجد أن من المهم استحضاره في هذا العصر ونحن نتحدث عن القدر اليسير الذي يجب أن يتعلمه المسلم. وهذا الموضوع مهم لواضعي مناهج التربية الإسلامية، والمؤلفين، والمهتمين بأقل ما يجب أن يعرفه المسلم. وسيكون منهجي هنا استنباط قواعد عامة، أذكرها وأدعمها بنصوص كلام الفقهاء التي وردت فيها العبارة “ما علم من الدين بالضرورة”.

من وجوه استعمال عبارة “ما علم من الدين بالضرورة” في الكتب الفقهية وما يمكن الاستفادة منه في هذا العصر ما يأتي:

أولا: “ما عرف من الدين بالضرورة” ضابطُ ما يجب على كل مسلم معرفته

يجب على المسلم أن يتعلم ما يحقق له الإيمان –العلم- بالله، كما يجب عليه أن يعرف أحكام دينه، أي ما كان معلوما من الدين بالضرورة فيما يظهر، كما قال صاحب حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، من فقهاء المالكية (1).

ومن أهم ما يدخل فيما يجب على المسلم معرفته من أمور الدين هو معرفة العقيدة التي هي أصول الدين. جاء في حاشية العدوي من كتب المالكية أن إنكار: “ما عُلِمَ من الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَاَلَّذِي في الْقُرْآنِ وَأَمَّا جَحْدُ شَيْءٍ لم يُعْلَمْ ضَرُورَةً فَهُوَ ليس بِكُفْرٍ كما هو مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ (2).

ثانيا: الصلاة وباقي أركان الإسلام مما علم من الدين بالضروة

جاء في الثمر الداني من كتب المالكية: “أما معرفة الأوقات فهي فرض عين على كل مكلف أمكنه ذلك –بخلاف المعذور كالبصير وغيره-، وهي مما علم وجوبه من الدين بالضرورة فجاحدها مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل وكذلك جاحد باقي أركان الإسلام التي هي الشهادتان والزكاة والصوم والحج”. (3).

والجحود هو المكفر لا الترك، ورد في الذخيرة من مصادر المالكية: “من حجد وجوب صلاة من الخمس أو ركوعها أو سجودها كفر لأنه معلوم من الدين بالضرورة وكل من جحد ما علم من الدين بالضرورة فهو كافر في الصلاة أو غيرها وإن اعترف بالوجوب ولم يصل فليس بكافر خلافا لابن حنبل”. (4).

جاء في شرح زاد المستنقع لحمد بن عبد الله الحمد من كتب الحنابلة: ” وقد أجمعت الأمة على فرضيتها ، وأن منكر وجوبها كافر خارج عن الإسلام ؛ لأن فرضيتها معلومة من الدين بالضرورة. والقاعدة : أن ما علم من الدين ضرورة كفرضية الصلاة والزكاة والحج ونحوها من الأحكام الشرعية – أن – إنكارها كفر بالله ؛ لأنه تكذيب لدلالة الكتاب والسنة.” (5).

ويؤكده قول الشنقيطي في شرحه لزاد المستنقع من كتب الحنابلة: ” الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة يقتضي الكفر، فمن أنكر فرضية الصلاة أو فرضية الزكاة فإنه يعتبر كافراً بإجماع المسلمين، وهذا يسميه العلماء: إنكار المعلوم من الدين بالضرورة” (6).

ثالثا: ما علم من الدين بالضرورة لبّ الدين وجوهر التدين وهو مذهب كل الفقهاء الأربعة

جاء في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني من كتب المالكية: ” الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وتحريم نحو الخمر والسرقة مما يستحيل فيه التقليد لاستواء العوام والخواص فيه.” (7).

ويؤكده ما جاء في الفواكه الداني أيضا من كتب المالكية: “الاجتهاد بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني فلا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات وكونها خمسا ومن هذا يعلم أن معرفة الحكم الشرعي من دليله القطعي لا تسمى اجتهادا.” (8).

رابعا: السدل في الصلاة مما علم جوازه من الدين بالضرورة

ولعل من المفارقة اعتبار المالكية أن السدل في الصلاة مما علم جوازه من الدين بالضرورة، وذكر ابن عليش تفاصيل شرح ذلك في فتاويه وهو يستدل على السدل: “سَدْلَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ فَعَلَهُ النَّبِيُّ وَأَمَرَ بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِيهَا وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ مُقَلِّدِيهِمْ حَتَّى صَارَ كَالْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ وَآخِرُ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ .

 أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ { كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ } وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْوَضْعِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْدُلُونَ وَإِلَّا كَانَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ عَبَثٌ مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا السَّدْلَ ، وَلَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا لِرُؤْيَتِهِمْ فِعْلَ الرَّسُولِ إيَّاهُ وَأَمَرَهُمْ بِهِ بِقَوْلِهِ {صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي} .

 وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ آخِرَ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَهُوَ اسْتِمْرَارُ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا أَعْرِفُهُ يَعْنِي الْوَضْعَ فِي الْفَرِيضَةِ إذْ لَا يَجُوزُ جَهْلُهُمْ بِآخِرِ حَالَيْ الرَّسُولِ وَلَا مُخَالَفَتِهِ لِمُلَازَمَتِهِمْ” (9). ويعني هذا الكلام أن الفقهاء لا يمنعون جوازه، لكن كما هو معلوم أن غير المالكية يرون سنية القبض، رغم الجواز، وهكذا ينبغي فهم كلامه، فلا تعارض.

خامسا: ليس كل قطعي الدلالة ولا كل ما تواتر داخل في: “ما علم من الدين بالضرورة”.

جاء في حاشية ابن عابدين من كتب الحنفية : “اعلم أن من القواعد القطعية في العقائد الشرعية أن قتل الأنبياء أو طعنهم في الأشياء كفر بإجماع العلماء فمن قتل نبيا أو قتله نبي فهو أشقى الأشقياء. وأما قتل العلماء والأولياء وسبهم فليس بكفر إلا إذا كان على وجه الاستحلال أو الاستخفاف .. ” (10)

بل ليس كل من أنكر فرضا صار كافرا، إنما الإنكار المصاحب للجحود، أما الإنكار المبني على اجتهاد وتأويل فلا يكفر به. جاء في البحر الرائق من المذهب الحنفي قوله وهو في صدد الحديث عن القدر المجزئ من مسح الرأس: ” وَلَيْسَ إكْفَارُ جَاحِدِ الْفَرْضِ لَازِمًا له وَإِنَّمَا هو حُكْمُ الْفَرْضِ الْقَطْعِيِّ الْمَعْلُومِ من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ … لِأَنَّ الْجَاحِدَ من لَا يَكُونُ مُؤَوِّلًا وَمُوجِبُ الْأَقَلِّ أو الِاسْتِيعَابِ مُؤَوِّلٌ يَعْتَمِدُ شُبْهَةً قَوِيَّةً وَقُوَّةُ الشُّبْهَةِ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ من الْجَانِبَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ لم يُكَفَّرُوا بِمَا مَنَعُوا مِمَّا دَلَّ عليه الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ في نَظَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِتَأْوِيلِهِمْ.” (11).

سادسا: الخلاف في مسائل “ماعلم من الدين بالضرورة” غير مقبول وليس بمسوغ

من أهمية هذه القاعدة أنها ليس محلا للخلاف، بل هي تضبط الخلاف المقبول، وتبين معيار التسامح في الخلاف بين الفقهاء. جاء في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني من كتب المالكية، “الحكم التكليفي للاختلاف بحسب أنواعه: أمور الدين التي يمكن أن يقع فيها الخلاف إما أصول الدين أو فروعه وكل منهما إما أن يثبت بالأدلة القاطعة أو لا فهي أربعة أنواع:

  • النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة كوجود الله تعالى ووحدانيته وملائكته وكتبه ورسالة محمد والبعث بعد الموت ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف من أصاب الحق فيها فهو مصيب ومن أخطأه فهو كافر.
  • النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين مثل مسألة رؤية الله في الآخرة وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فقيل يكفر المخالف ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم وشرط عدم التكفير أن يكون المخالف مصدقا بما جاء به الرسول والتكذيب المكفر أن ينفي ما أخبر به الرسول ويزعم أن ما قاله كذب محض أراد به صرف الناس عن شيء يريده كذا قال الغزالي.
  • النوع الثالث: الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس وحرمة الزنا فهذا ليس موضعا للخلاف ومن خالف فيه فقد كفر
  • النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها فهذه الخلاف فيها واقع في الامة ويعذر المخالف فيها لخفاء الأدلة أو تعارضها أو الاختلاف في ثبوتها وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا في المسألة خلاف.” (12)

سابعا: الخلاف فيما لم يعرف من الدين بالضرورة سائغ ولا ينكر على المجتهد فيها قوله

جاء في إعانة الطالبين من فقه الشافعية أن: “محل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون في المجمع عليه. وهو صفة لكل من واجب ومن حرام. والمجمع عليه منهما هو ما علم وجوبه بالنسبة للأول وتحريمه بالنسبة للثاني من الدين بالضرورة.

والأول كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، والثاني كالزنا واللواط وشرب الخمر. وخرج بالمجمع عليه المختلف فيه منهما فليس القيام به –أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من فروض الكفاية، فلا يأمر الشافعي الحنفي بالبسملة في الفاتحة كما أنه لا ينهى المالكي عن استعمال الماء القليل الواقع فيه نجاسة لم تغيره ولا يرد حد الشافعي حنفيا شرب نبيذا يري إباحته لضعف أدلته. (13)

خاتمة

أخيرا هذه بعض المسائل المتعلقة بما علم من الدين بالضرورة، وهو باب جميل لطيف فيه الكثير من النكت الفقهية والضوابط الشرعية والأصولية ويتجلى فيها الكثير من مقاصد الشريعة. ويمكن العمل على جمع المسائل المتفرعة فيه بتصنيف قائم على الاستقراء والسبر والتقسيم. يبقى هل هذه المسائل المذكورة لا زال مما علم من الدين بالضرورة في المجتمعات الإسلامية ونحن في عصر المعايير العالمية في التعليم وفي عصر التكنولوجيا والعولمة، وما مدى حضورها في مقررات التربية الإسلامية في المدارس وبرامج كليات الشريعة والدراسات الإسلامية، وكيف يتعلق الجديد في المسألة من حيث الإضافة العلمية والبحث العلمي، وهل لو جهل مسلم ما هذه المسائل في هذا العصر وهو في دولة عربية وإسلامية يكون معذورا؟!