هل يمكن لشخص أن يجمع بين سلاح العلم وميدان الجهاد ليصبح رمزًا يُحتذى في الدفاع عن العقيدة والوطن؟ هكذا كانت مسيرة الشيخ محمد صدقي البورنو، الذي غادرنا – رحمه الله – إلى مثواه الأخير يوم أمس الأربعاء 26 رمضان 1446هـ، الموافق 26 مارس 2025م، محمد صدقي البورنو عالم فذ الذي سطر اسمه في صفحات الفقه الإسلامي والنضال الفلسطيني على حد سواء. وُلِد في قلب غزة، في بيئة تمزج بين الصمود والعلم، فتشرّب منذ صغره قيم التضحية والعمل في سبيل الله، ليصبح فيما بعد منارة علمية تضيء دروب الباحثين عن الحق.

عُرِف الشيخ محمد صدقي البورنو بتفوقه العلمي المبكر، حيث تبوأ المراتب الأولى في دراسته بالأزهر الشريف، ثم واصل مسيرته الأكاديمية بإبداع، فجمع بين تخصصي اللغة العربية والشريعة الإسلامية من دمشق والأزهر، ما أهّله ليكون من أعلام الفقه وأصوله. ولم يقتصر أثره على المجال الأكاديمي فقط، بل كان حاضرًا في ميادين المقاومة، مشاركًا في معارك الدفاع عن فلسطين، ومجسّدًا نموذج العالم المجاهد.

إن إسهامات الشيخ محمد صدقي البورنو العلمية، بما فيها “موسوعة القواعد الفقهية” و”الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية”، لا تزال مرجعًا رصينًا في الجامعات الإسلامية، بينما تستمر بصماته في تأهيل الأجيال القادمة عبر إشرافه على عشرات الرسائل العلمية. فحياته الحافلة بالعطاء والدعوة تركت إرثًا خالدًا يُلهم الباحثين والمصلحين.

من هو الشيخ محمد صدقي البورنو؟

يُعدّ الشيخ محمد صدقي البورنو من أعلام الفقه الإسلامي والعلوم الشرعية في العصر الحديث، فقد جسّد مسيرة حياة حافلة بالتحديات والإنجازات في ميادين العلم والعمل المجاهد. وُلِد في غزة في بداية الثلاثينات من القرن العشرين، وترعرع في كنف بيئة تحمل في طياتها قيم الصمود والتضحية، وهو ما كان له بالغ الأثر في تكوين شخصيته المتفانية في خدمة دينه ووطنه. تميّز بعلمه الواسع وأخلاقه العالية، وامتدت إسهاماته العلمية من مجال أصول الفقه إلى السياسة الشرعية، إضافةً إلى نشاطه في المقاومة والنضال الفلسطيني. ومن خلال مسيرته الأكاديمية الطويلة، ترك بصمة جليلة في عدة دول من بينها مصر والمغرب والسعودية وليبيا، حيث ألّف العديد من الكتب والموسوعات التي تُعد مرجعاً في مختلف فروع العلوم الشرعية.

رجل مسن يرتدي غطاء رأس أبيض ولحية بيضاء، يظهر تعبير جاد. الخلفية غير واضحة، مما يركز الانتباه على ملامح وجهه.
الشيخ محمد صدقي البورنو رحمه الله

وُلد الدكتور أبو الحارث الغزي – كما كان يُلقّب – محمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو، في حي الزيتون الشهير في مدينة غزة، يوم السبت 11 جمادى الآخرة عام 1349هـ، ما يعادل تقريباً 1 نوفمبر 1930م. وترتبط أصوله ببلدة بورنو في مدينة آمِد من ديار بكْر، مما أكسبه جذوراً تاريخية متينة تربطه بالمناطق الفلسطينية العريقة. نشأ في بيئة أسرية محافظة اعتزت بالتراث والقيم الإسلامية، فكانت مرحلة الطفولة والنشأة هي الأساس الذي بنى عليه مستقبلًا مشرقًا في ميادين العلم والعمل.

غزة .. البداية

بدأت رحلة الحياة العلمية للشيخ محمد صدقي البورنو في غزة حيث تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسته المحلية وأتمّها عام 1945م، وهو ما كان له بالغ الأثر في تشكيل شخصيته المتطلعة للعلم. وفي العام الذي تلا ذلك، وبسبب الظروف السياسية والاحتلال، اندلعت حرب فلسطين عام 1948م، فكان لزامًا على شبابه النضال في سبيل تحرير وطنه. انضمّ حينها إلى جيش الإنقاذ – رغم صغر سنّه حينها، إذ كان في السابعة عشرة – وشارك في معركة “الزرّاعة” قرب بَيْسان في شهر فبراير، حيث أصيب جرحًا وتعرّض لأحداثٍ صعبة أثرت في مسيرته الحياتية.

ولم تخلُ تلك الفترة من المحن؛ إذ تم أسره من قبل الجيش الإنجليزي وحُبس في سجن مستشفى الأمن بمدينة حيفا حتى 15 مايو، ثم نقل إلى عدة مراكز علاجية منها مستشفى الأمين ومستشفى جمعية الاتحاد النسائي العربي في نابلس، حيث قضى نحو ثلاثة أشهر حتى برئ من جراحه. بعد هذه التجارب المريرة، توجه إلى رام الله واستقر في منزل قائم مقامها – الحاج عارف العارف – الذي جمعه بقرابة نسبٍ وصلة اجتماعية، قبل أن يُعاد إلى غزة ليتابع حياته العملية في ظل ظروف ما بعد الحرب.

المسار التعليمي والابتعاث

رغم المصاعب التي واجهها في شبابه، لم يتوانَ الشيخ محمد صدقي البورنو عن السعي وراء العلم؛ فقد قرر عام 1954 السفر إلى مصر طلبًا لتحصيل المعرفة. التحاقه بالقسم العام للأزهر الشريف في القاهرة كان بمثابة بداية جديدة لمسيرة علمية متميزة، حيث أتمّ تعليمه الابتدائي والثانوي في الأزهر وحصد الشهادات بتقدير ممتاز وحصوله على المرتبة الأولى. وكان هذا التفوق المبكر دافعًا له لمواصلة دراسته في أرقى الجامعات الإسلامية.

وبعد حدوث الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958م، سار الشيخ محمد صدقي البورنو إلى جامعة الأزهر الشريف والجامعة الشامية بدمشق، حيث انخرط في دراسة كلية اللغة العربية وكلية الشريعة الإسلامية في وقت واحد. وقد تكللت جهوده بالنجاح حيث تخرج عام 1962م حاملًا شهادتين، إذ حصل على إجازة في اللغة العربية وإجازة في الشريعة الإسلامية – وكان الأول على دفعته في جامعة دمشق، مما أظهر تفوقه العلمي وقدرته على اجتياز أصعب المناهج في وقت قياسي.

ولم يكتفِ بالتعليم النظري فحسب، بل سعى أيضًا إلى الارتقاء بمستوى تحصيله العلمي من خلال الدراسات العليا. ففي مطلع السبعينيات، وفي خضم مسيرته التعليمية والعملية، حصل على درجة الماجستير من كلية الشريعة بجامعة الأزهر مع قسم القانون، مما عزز من مكانته كعالم فقيه متمكن. وبعد ذلك عاد إلى مصر ليُكمل مشواره بالحصول على شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، عام 1398هـ/1979م، حيث تخصص في مجال السياسة الشرعية، وكانت أطروحته بعنوان “سياسة عمر بن عبد العزيز الإصلاحية” التي تناولت جوانب الإصلاح في فترة خلافة أحد أعظم الخلفاء الراشدين.

المسيرة التدريسية والمهنية

بدأت خطواته التدريسية بعد تخرجه عام 1962م حين انتقل إلى المملكة المغربية للعمل كمدرس للغة العربية في المرحلة الإعدادية والثانوية، حيث شغل مناصب في مدينتي آسفي والدار البيضاء لمدة ثلاث سنوات حتى عام 1965م. وقد تميز في هذه المرحلة بقدرته على نقل المعارف بلغة عربية فصيحة وأساليب تعليمية حديثة.

ثم حملت مسيرته المهنية بعدًا دوليًا آخر، إذ تعاقد مع عدة معاهد وكليات في المملكة العربية السعودية، حيث تنقل بين عدة مدن ومناطق؛ إذ عمل في جيزان لمدة عامين، ثم في الزلفي لمدة ثلاثة أعوام، وفي بيشة لمدة عام، ولاحقًا في بلجرشي لمدة عام، حتى وصل إلى العام 1973م. هذه الخبرات المتنوعة في السعودية أكسبته خبرة واسعة في نظام التعليم الشرعي، الأمر الذي أهله لاحقًا لتقديم مساهمات علمية هامة في هذا المجال.

ولم تقف مسيرة الشيخ محمد صدقي البورنو عند هذا الحد، فقد انتقل بعدها إلى ليبيا ليستكمل تجربته التدريسية في معهد المعلّمين بمدينة الخمس لمدة أربعة أعوام حتى عام 1977م، حيث كان لعمله في تلك المرحلة أثر واضح في إعداد جيل من المعلمين المؤهلين في العلوم الشرعية واللغة العربية.

العودة إلى السعودية وتأسيس مادة “القواعد الفقهية”

بعد حصوله على الدكتوراه، عاد الشيخ البورنو إلى المملكة العربية السعودية لينضم إلى هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. شغل منصب أستاذ مساعد بكلية الشريعة، حيث قام بتدريس مواد أساسية منها الفقه والحديث وأصول الفقه. كان لهذه الفترة أهمية خاصة في مسيرته العلمية؛ إذ تميز بطرح فكرة تدريس مادة “القواعد الفقهية” وهي مادة لم تكن تُدرّس من قبل في الجامعات السعودية. فقد تولّى إعداد المنهج والمقرّر لهذه المادة، وألف لها كتابه “الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلِّية” الذي أصبح المرجع الأول لهذا التخصص.

بدأ الشيخ محمد صدقي البورنو تدريس المادة لأول مرة في العام 1403هـ/1983م، واستمر في تدريسها بجدارة وكفاءة مما أكسبه شهرة واسعة في الوسط الأكاديمي الإسلامي. ولم يقتصر نشاطه على التدريس فحسب، بل شغل أيضًا منصب الإشراف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث ناقش وأشرف على ما يقرب من عشرين رسالة جامعية، مما يعكس مدى ثقله العلمي وعمق تأثيره على الأجيال الصاعدة.

وفي عام 1406هـ/1986م، تم ترقيته إلى رتبة أستاذ مشارك في الفقه وأصوله، وفي العام التالي انتقل إلى فرع جامعة الإمام بمدينة بُرَيدة بمنطقة القَصِيم، حيث واصل التدريس والإشراف الأكاديمي حتى قدم استقالته في عام 1418هـ/1997م بعد مسيرة تدريسية تجاوزت العشرين عامًا.

إنجازاته العلمية وإسهاماته الأدبية

يُعتبر إنتاج الشيخ محمد صدقي البورنو العلمي واحدًا من أبرز الإنجازات في مجاله، فقد ألّف عددًا من الكتب والمؤلفات التي ساهمت في إرساء أسس العلوم الشرعية والقواعد الفقهية على مستوى عالمي. ولقد ترك الشيخ محمد صدقي البورنو إرثًا علميًا ضخمًا يشمل مئات السطور والمجلدات، ولا سيما من خلال مؤلفاته التي أثرت المكتبة الإسلامية وتركت بصمة واضحة في تاريخ العلوم الشرعية. وتعد “موسوعة القواعد الفقهية” التي تتألف من 13 مجلداً، و”الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية” من أهم أعماله التي لا تزال مرجعًا أساسيًا في تدريس مادة أصول الفقه في الجامعات الإسلامية حول العالم.

رجل مسن يرتدي عمامة بيضاء وعباءة سوداء، يجلس على أريكة مع كتاب مفتوح في يده، يعبر عن التركيز والتفكر. خلفية الصورة تتضمن ستائر بيضاء ونسيج أريكة.
الشيخ محمد صدقي البورنو .. حياة علمية زاخرة

إضافة إلى ذلك، فإن اهتمام الشيخ محمد صدقي البورنو بجمع المخطوطات والكتب النادرة أدى إلى إثراء المكتبات التراثية، حيث أهدا مكتبة ضخمة من الكتب إلى القصر الرئاسي في أنقرة، مما أسهم في حفظ التراث الإسلامي ونقله للأجيال القادمة. ويظهر هذا الجانب من شخصيته حرصه على الحفاظ على الهوية الإسلامية وتوثيق الإرث العلمي للأمة.

من بين أبرز أعماله:

موسوعة القواعد الفقهية

وهي موسوعة شاملة مكونة من 13 مجلداً، تُرتب ألفبائيًا وتغطي مختلف الجوانب النظرية والتطبيقية للقواعد الفقهية، مما جعلها مرجعاً لا يُستغنى عنه للباحثين والطلاب.

الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلِّية

وهو الكتاب الذي قام بتأليفه لتقديم مادة “القواعد الفقهية” في الجامعات السعودية والكويتية وغيرها، وقد استُخدم كمرجع أساسي في تدريس هذه المادة لعقود من الزمن.

الذكر وأثره في دنيا المسلم وآخرته

وهو عمل تناول فيه أثر الذكر في الحياة الدينية والاجتماعية للمسلم، ما يعكس حرصه على الجانب الروحي إلى جانب الجانب العلمي.

الغنية في أصول الفقه

عمل تحقيقي للأمام منصور بن إسحاق السجستاني، حيث قام بتدقيق النصوص وإبراز معانيها بأسلوب معاصر.

قدوة الحكام والمصلحين

عمر بن عبد العزيز: رسالة الدكتوراه التي تناولت سيرة وإصلاحات عمر بن عبد العزيز، وأظهرت قدرته على تحليل الحقائق التاريخية وربطها بالمفاهيم الشرعية.

الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز

تحقيقٌ آخر تناول فيه سيرة هذا الخليفة العادل، مما يبرز اهتمامه بدراسة التاريخ الإسلامي وربطه بالعلوم الشرعية.

الأحاديث الغزية في الجهاد والاستشهاد والنية

وهو من المؤلفات التي تناولت جانب الجهاد والاستشهاد مع التركيز على النية الصالحة والحرص على تأصيلها في الفكر الإسلامي.

كشف الساتر عن غوامض روضة الناظر

شرحٌ مبسط لكتاب ابن قدامة في روضة الأصول، مما يساهم في توضيح المفاهيم الغامضة وتبسيطها للدارسين.

بالإضافة إلى أعماله الأخرى التي لم تُنشر بعد مثل “العماد في الجهاد” و”الرد المفحم على من أجاز إمامة المرأة بالرجل المسلم”، مما يعكس انخراطه في القضايا المعاصرة والحرص على التصدي للآراء التي يخالفها علميًا ودينيًا.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الشيخ البورنو جمع مكتبة تراثية ضخمة شملت مخطوطات وكتباً نادرة في مختلف علوم التراث الإسلامي، وقام بإهدائها إلى مكتبة القصر الرئاسي في أنقرة، مما يعكس حرصه على حفظ الموروث الإسلامي ونقله إلى الأجيال القادمة.

الأسلوب التدريسي والسمات الشخصية

لم يكن الشيخ محمد صدقي البورنو مجرد أستاذ جامعي يُلقّي الدروس، بل كان قدوةً حية في الالتزام والانضباط والتفاني في خدمة العلم. فقد روى عنه تلاميذه تجاربهم مع أسلوبه التدريسي الذي تميّز بالاحترافية والدقة، إذ كان معروفًا بانتظامه في الحضور وعدم تأخره عن الدروس دقيقةً واحدة، كما كان يحترم مواعيد المحاضرات وينهيها في وقتها احترامًا للزملاء والطلاب على حد سواء.

كان الشيخ محمد صدقي البورنو متواضعًا في تعامله مع طلابه، يشجعهم على حب العلم والاطلاع، ويحثهم على الالتزام بالمبادئ العلمية والأخلاقية. ومن الأمثلة الشهيرة على تقواه والتزامه الديني، أنه كان يصوم جميع أيام الأسبوع عدا يوم الجمعة وأيام الأعياد منذ أكثر من خمسين عامًا، كما كان يُطيل القيام والركوع والسجود في صلاته. هذا الجمع بين الصرامة العلمية والورع الديني أكسبه احتراماً وتقديراً واسعًا بين زملائه وتلاميذه.

التكريم والاعتراف بإسهاماته

لم يقتصر تأثير الشيخ محمد صدقي البورنو على الجانب الأكاديمي فقط، بل امتدّ ليشمل الأوساط الدينية والمجتمعية. فقد تم تكريمه في عدة مناسبات على مستوى العالم الإسلامي تقديرًا لإنجازاته العلمية وإسهاماته في خدمة الدين والمسلمين. ففي احتفال جمع فيه طلاب العلم والعلماء بجامع أروسلو بمدينة عنتاب التركية، تم تقديم الثناء له بحضور عدد كبير من العلماء والمثقفين، مما كان بمثابة تتويج لمسيرة طويلة من العمل الدؤوب والعطاء المستمر.

كتاب إحياء علوم الدين، مؤلف أبو حامد الغزالي، يظهر بتصميم جذاب بلون أخضر داكن مع نصوص ذهبية، يمثل أهمية كبيرة في الأدب الإسلامي.

كانت التكريمات تتوالى من مؤسسات تعليمية ودينية مختلفة، حيث اعتبره الكثيرون رمزًا للعلم والتقوى، واستشهد به في العديد من المحافل العلمية التي تهدف إلى تعزيز القيم الإسلامية والحفاظ على التراث الشرعي العريق.

آثاره الخالدة في ميادين البحث والإشراف الأكاديمي

خلال فترة عمله التدريسي التي امتدت لما يقارب العشرين عامًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أشرف الشيخ محمد صدقي البورنو على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. فقد ناقش ما يقرب من عشرين رسالة جامعية تناولت مواضيع متنوعة في علوم الشريعة، مما ساهم في تخريج عدد كبير من العلماء والباحثين الذين يحملون إرثه العلمي في مختلف البلدان.

هذا الدور الإشرافي كان له بالغ الأثر في نشر الفكر الإسلامي الأصيل، حيث تمّ تدريس منهجيات البحث العلمي والأصول الفقهية على أسس متينة، مما ساعد في بناء جيل واعٍ يتمكن من الاستفادة من إرثه العلمي وتحويله إلى مخرجات بحثية تسهم في تطوير العلوم الشرعية.

تأثيره في الحياة الدينية والاجتماعية

لم يكن الشيخ البورنو مجرد عالم أكاديمي جامد، بل كان ناشطًا في تبليغ الدعوة الإسلامية والتصدي للتحديات المعاصرة. فقد كان له إسهامات عدة في ميادين الجهاد والدعوة، خاصةً من خلال مؤلفاته التي تناولت موضوعات الجهاد والاستشهاد والنية، إذ سعَى لتقديم رؤية شرعية متوازنة تدعو إلى الالتزام بتعاليم الإسلام الحقة دون تجاوز حدود الشرع.

كما ساهم في إثراء المكتبة الإسلامية بمؤلفاته ودراساته التي ناقشت قضايا الساعة بطريقة علمية محكمة، مما أكسبه مكانة رفيعة بين العلماء الذين يُعتبرون مرجعاً في الفقه الإسلامي ومبادئه الأساسية.

أثر شخصيته وفضائله الأخلاقية

تميز الشيخ محمد صدقي البورنو بصفات شخصية حميدة جعلت منه قدوة ليس فقط في ميادين العلم والتدريس، بل أيضًا في الحياة اليومية. فقد وُصف بأنه رجل ملتزم بأدق تفاصيل الديانة، ومن أسمى صفاته الصدق والأمانة في التعامل مع الطلاب والزملاء. كان مثالاً في الانضباط والاحترام والاهتمام بمواعيد العمل، إذ لم يكن يتأخر عن محاضراته دقيقة واحدة، وكان يحترم الوقت كأحد أعمدة العمل الأكاديمي والمهني.

هذا الالتزام لم يقتصر على الجانب العملي فحسب، بل امتد إلى الجانب الديني؛ فقد كان يصوم باستمرار على مدار العام مع استثناء يوم الجمعة وأيام الأعياد، وكان يقوم بصلواته بخشوع وتفانٍ كبيرين، مما جعله رمزًا للتقوى في عيون تلاميذه ومجتمعه.

وقد ترك هذا النهج أثرًا كبيرًا على من حوله، إذ أكد العديد من تلاميذه أن أسلوبه العلمي والعملي كان له بالغ الأثر في تشكيل شخصياتهم الأكاديمية والروحية، وساهم في زرع حب العلم والنظام والانضباط لديهم.

لوحة علمية ونضالية خالدة

إن سيرة الشيخ محمد صدقي البورنو تمثل لوحة فنية متكاملة من التضحيات والإنجازات التي جمعت بين النضال في ميادين المقاومة والتحصيل العلمي الرفيع، بين التدريس الأكاديمي والالتزام الديني الصارم. لقد جسّد بمسيرته الحافلة المبادئ الإسلامية الأصيلة، وأثبت أن العلم والعمل لا يتعارضان، بل يتكاملان في سبيل خدمة الدين والأمة. وتبقى أعماله ومؤلفاته مرجعًا خالدًا لكل من يسعى إلى فهم أصول الفقه الإسلامي والعلوم الشرعية بمقاربات علمية رصينة.

يُذكر أن دروس محمد صدقي البورنو وتأثيره ما زالا ينبضان في قلوب من تربوا على يديه، وأن إرثه العلمي سيستمر في إلهام الأجيال القادمة لتحقيق المزيد من الإنجازات في ميادين البحث والتعليم والتجديد الديني. ففي زمن تتسارع فيه التغيرات والتحديات، يظل نموذج الشيخ محمد صدقي البورنو منارةً للإخلاص والتمسك بالقيم والالتزام بالمبادئ التي أرستها دعائم الإسلام الحنيف.

من خلال هذه السيرة الشاملة للشيخ محمد صدقي البورنو نستطيع التأكيد على أن حياة هذا العالم لم تكن مجرد سلسلة من الأحداث التاريخية، بل كانت رحلة بحث دؤوبة عن الحقيقة العلمية والروحية، تخللتها تجارب نضالية ومعارك من أجل الحرية والاستقلال، وانتهت بإرث غني يفخر به كل باحث وكل طالب علم. وعلى الرغم من فراقه، فإن تأثيره سيظل حيًا في الذاكرة الجمعية للأمة الإسلامية، وسيبقى مصدر إلهام لكل من يؤمن بأن العلم والعمل هما سلاح الحق في مواجهة التحديات والشدائد.

وبهذا نختم سيرة الشيخ محمد صدقي البورنو التي تجاوزت خمسة عقود من العطاء المستمر، والتي ستبقى شاهدة على حياة رجل لم يدخر جهدًا في خدمة دينه ووطنه، وسيظل اسمه منارة تضيء دروب الباحثين عن الحق في سماء العلوم الشرعية.

وفاته

في يوم الأربعاء 26 رمضان 1446هـ، الموافق 26 مارس 2025م، وُفِّي الشيخ محمد صدقي البورنو في مدينة غازي عنتاب بتركيا، عن عمر ناهز ستة وتسعين عامًا. رحيل هذا العالم الجليل ترك فراغًا كبيرًا في الوسط العلمي والديني، إلا أن إرثه الغني سيظل شاهداً على مسيرة نضالية وعلمية متميزة.

على الرغم من التحديات والصعوبات التي واجهها طوال مسيرته، ظل الشيخ محمد صدقي البورنو مثالًا للثبات والإخلاص في خدمة العلم والدين. وقد أكمل مسيرته العملية والتعليمية بكل جدارة، تاركًا خلفه إرثًا علميًا كبيرًا ساهم في تشكيل الفكر الإسلامي المعاصر، وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته القيمة ومساهماته البحثية الرائدة.