مما تقرر في علوم الحديث أنه لا يسوغ بحث أو تحقيق في مختلف الحديث أو مشكل الحديث إلا بعد التحقق من ثبوته، فثبوت صحة الخبر وقبوله شرط لدخوله في مسمى المختلف أو المشكل، وهذا من القواعد المقررة عند أهل الشأن.
وإن مشكل الحديث أعم من مختلف الحديث في رأي بعض علماء الحديث، وذلك أن المختلف من الحديث دائرته بين الروايات أو الأحاديث التي تعارضت بعضها بعضا ظاهرا وفق نظر الناظر لا في حقيقة الأمر، وأما مشكل الحديث فيتسع ظن التضاد فيه غير أنه لا ينحصر وجوده في الأحاديث النبوية فحسب، بل قد يكون سبب الإشكال ظن التضاد بين حديث وآية أو إجماع أو قياس أو قاعدة من القواعد الدينية أو غير ذلك من الأدلة الشرعية أو العقلية.
مشكل الحديث اختبار
إن السنة النبوية توجد منها ما هي محكمات ومتشابهات تماما مثل ما يوجد في آي القرآن الكريم ، والله سبحانه قادر على أن يجعل جميع النصوص الدينية من الواضحات لا لبس فيها، ولكنه سبحانه لحكمة أرادها أبى ذلك؛ لاختبار الناس كما اختبرهم في أصل الإيمان، ولإظهار مكانة أهل العلم وفضلهم على من سواهم وبيان طريقهم المثلى في التعامل مع النصوص، وفي مقابل هؤلاء بيان وكشف أهل الزيغ والهوى ومآربهم تحذيرا للمسلم من وقوع في فتنة الزيغ.
ومشكل الحديث من مواطن الامتحان والابتلاء للناس، كما جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثْتك لأبْتَليَك، وأبتلي بك” .
قال الشيخ المعلمي” وجود النصوص التي يُستشكل ظاهرها لم يقع في الكتاب والسنة عفوًا، وإنما هو أمر مقصود شرعًا؛ ليبلو الله تعالى ما في النفوس، ويمتحن ما في الصدور، وييسر للعلماء أبوابًا من الجهاد يرفعهم الله بها درجات”
وقد خاض الكلام في مشكل الحديث صنفان من الناس من حيث الإجمال: أحدهما استباح لنفسه التحكم فيه بمحض العقل، واستعمل الصنف الآخر مسالك التعامل في دفع التعارض بين النصوص الشرعية. وبناء عليه: فثمة مسلكان في التعامل مع مشكل الحديث:
المسلك الأول: مسلك حكم العقل – حيث زلت أقدام أقوام وطوائف أجنبيين في العلم الشرعي فضلا عن باب مشكل الحديث وأشباهه، تسللوا إلى غير فنهم وأتوا البيوت من ظهورها، فجانبوا سبيل العلماء واعتقدوا الزيغ صوابا وهوت بهم الأفهام والتخرصات إلى هوة الاعتقاد بحقيقة التضاد والتناقض بين روايات أو أحاديث – لم يتبين المقصد منها – مع غيرها من الأدلة، ومن ثم شككوا في السنن المروية وطعنوا في النقلة بلا برهان، ولم يتهموا عقولهم الحاكمة، ولم يعطوا القوس باريها، بأن يرجعوا فيما أشكل عليهم إلى أهل العلم بالحديث والفقه حتى يصدروا عنهم علما وفقها وسلوكا.
من نتائج وآثار هذا المسلك:
1- تأسيس القول بعدم الاحتجاج بحديث الآحاد في الغيبيات والعلميات
2- الجنوح إلى تقديم العقل على النقل
3- توهين مكانة السنة ورواتها في نفوس بعض العوام
4- إسقاط بعض السنن الصحيحة
ولخطورة هذا المسلك الدخيل نجد العلماء من قديم الزمان اشتد نكيرهم على السائرين عليه، ومن ذلكم:
– قول ابن قتيبة: “وقد تدبرت مقالة أهل الكلام، فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف
على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم بالتأويل، ومعاني
الكتاب والحديث وما أُودِعَاهُ من لطائف الحكمة ، وغرائب اللغة، لا يُدْرَك بالطفرة
والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية، ولو ردوا المشكل منهما إلى
أهل العلم بهما لوضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج، ولكن يمنع من ذلك طلب
الرياسة، وحب الاتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات، والناس أسراب طير يتبع
بعضها بعضًا”
وفيهم يقول الخطابي: ” جماعة من الجهال ونفرًا من الملحدين طعنوا في أحاديث رسول الله ﷺ، وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث… يريدون بذلك[أي مشكل الحديث] توهين الحديث، والإزراء به، وتصغير شأنه، وضعف أمر حملته ورواته”
قال ابن القيم “فصلوات الله وسلامه على من يصدّق كلامه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام، لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام، والواجب على كل مؤمن أن يَكِلَ ما أشكل عليه إلى أصدق قائل، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم”
ومن هنا يجب على من يروم الحق والسعادة فيما يلتبس عليه شيء من أمر دينه أن يلزم غَرْزَ العلماء المعتبرين، ثم حقيق بعلمائنا المعاصرين ألا يآلو جهدا في بذل النصح من عدم التأثر بسنن أهل الزيغ، لأنها لم تزل موروثة ومرَوّجة بين المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من أتباع المدرسة العقلانية العصرية بشتى الأشكال والقوالب، وليكونوا لهم بمرصاد على كل حال.
المسلك الثاني:مسلك أئمة الدين الربَّانيِّين – من هدي أهل الرسوخ في العلم والعمل: عدم الاستقلال بعقولهم أو الإعجاب بذكائهم وآراءهم، وإنما دأبهم وسمتهم فيما يشتبه عليهم من نصوص الوحيين إظهار الافتقار إلى الله والاستعانة به والاستمداد منه على الوصول للحق عبر البحث والمطالعة المستمرة.
ومن كلام بعضهم أن: “من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل”.
واللجوء إلى الله تعالى بالصدق في العلم والفهم والعمل هو الذي جعل قلوب العلماء مستعدة لاستقبال نور العلم وأن تكون أهلا لتنال الفتح الرباني.
وكان بعضُ السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. وكان مكحول يقول: لاحول ولا قوة إلا بالله. وكان مالك يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان شيخ الإسلام يقول: ربما طالعتُ على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني!
لا تَعْرِضَنَّ بذكرنا في ذكرهم ♦♦♦ ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقْعَدِ!
نتائج وآثار هذا المسلك
1- وجوب تعظيم نصوص الوحيين، وضرورة الأخذ بالسنة الصحيحة آحادية كانت أو متواترة.
2- تقرير بطلان دعوى التناقض الحقيقى بين الأحاديث، وأنه مستحيل وجود نصين صحيحين متناقضين في شريعة الله لعباده، وليس من مقاصد الشارع في خطابه التشكيك والتناقض.
3-تقرير مبدأ إعمال جميع الأدلة أولى من إهمال بعضها حفظا للسنة النبوية من الضياع والقدح
4- تأسيس المنهجية الصحيحة والسليمة في التعامل مع النصوص، كما يتضح من مسالك رفع الإشكال في مختلف الحديث، فيبدأ بالجمع أولا، لاحتمال أن يكون بين الأحاديث عموم وخصوص، أو إطلاق وتقييد ونحوهما، ثم النسخ إذا تعذر الجمع، فينظر في التاريخ بحثا عن المتأخر من المتقدم وتكون العبرة للمتأخر فيكون ناسخا، ثم الترجيح في حالة عدم تحقق النسخ، فيرجح أحد الحديثين على الآخر بنظر مؤيد بدليل، وإلا يتعين المصير إلى التوقف حتى يتبين الحق منهما.
وترى تلك المنهجية والقواعد والمسالك منتشرة في كتاب اختلاف الحديث للإمام الشافعي، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وشرح مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي، ومشكلات الأحاديث النبوية وبيانها لعبد الله بن علي القصيمي النجدي ، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا المجال قديما وحديثا.
ثم ترى مرة أخرى أن من المحن تأتي المنح وأن العلم يتقدم في الإثبات لا في النفي والإنكار كما يقال، فوجود مشكلات الحديث ومختلفه من دواعي إعمال الفكر والتدبر وفتح للاجتهاد في الاستنباط والنظر والمقارنة بين الأدلة على ضوء قواعد الشريعة، ولذا لا يخوض في مشكل الحديث إلا من لطف ذهنه واستقام فهمه وجمع بين علمى الحديث والفقه وشابت لحيته ورأسه في ضبط صغار العلم وكباره.
ودع عنك الأغرار الذين لا يفقهون في الدين حق الفقه، وينثرون الشبهات حول الأحاديث الصحيحة عبرَ الوسائل المختلفة دون فهم وتدبر وإنما بما تمليه عليهم العقول والأهواء والأوضاع العصرية، ومن استمع إلى الصغار والأغرار عسى أن يصاب بشبه التى إذا تمكَّنت من القلْب ورانت فتكت به، فدونك وصية الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل أكابرهم فإذا أتاهم من قبل أصاغرهم هلكوا». قيل لابن المبارك: من الأصاغر؟ قال: «الذين يقولون برأيهم، فأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير»