القلب في الإسلام يُعَدُّ مركز الحياة الروحية والداخلية للإنسان، فهو ليس مجرد عضوٍ، بل هو الوعاء الذي يحتوي على الإيمان والإخلاص، وله تأثيرٌ عميقٌ في جميع أعمال الإنسان. وكل الأعمال التي يقوم بها الشخص تنبع في المقام الأول من قلبه؛ فإن كان قلبه طيِّبًا سليمًا، كانت أعماله كذلك، وإن كان قلبه مريضًا، انعكس ذلك سلبًا على سلوكياته وتصرفاته.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
هذه الآية تُبرِز المكانة العالية للقلب في الإسلام، وتؤكد أن سلامة القلب هي الشرط الأساسي للنجاة والفوز برضا الله.
أهمية القلب في الإسلام
اعلم: أن أشرف ما في الإنسان قلبه؛ فإنَّه العالمُ بالله، العاملُ له، الساعي إليه، وإنما الجوارح أتباعٌ وخدمٌ له، يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد.
وأكثرُ الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، والله يحول بين المرء وقلبه، وذلك بأن يمنعه من معرفته ومراقبته، فمعرفة القلب وصفاته أصلُ الدين، وأساسُ طريق السالكين. [مختصر منهاج القاصدين ص193]
وذلك أن القلب مَلِكُ الجوارح وقائدُها وسائسُها. وهو كما يقول العِزُّ بن عبد السلام:
(مبدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها: القلوب… وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب، ولذلك قال النبي ﷺ: “ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” [رواه البخاري ومسلم]. أي: إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان). [قواعد الأحكام 1/198]
ويقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:
(فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات، واتقاءه للشبهات، بحسب صلاح حركة قلبه؛ فإذا كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍّ للشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات، بحسب اتباع هوى القلب). [جامع العلوم والحِكَم ص144]
منزلة القلب في القرآن والسنة
لقد كرّم القرآن الكريم القلب وجعل له مكانة عظيمة، وأكد ضرورة تطهيره وتزكيته ليكون في حالة من الإيمان واليقين التام. قال الله تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
هذه الآية تدل على أن كل فعل يقوم به المؤمن، سواء أكانت عباداتٍ أو معاملاتٍ، يجب أن يكون خالصًا لله. وقد ذَكَر بعض المفسرين في سبب نزولها أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمر سبحانه رسوله ﷺ ومن معه من المؤمنين ومن بعدهم بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
“أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ” [متفق عليه].
يتعلق بهذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: صلاح العمل مرتبطٌ بصلاح القلب، وفسادُه مرتبطٌ بفساده، يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:(القوم إذا صلحت قلوبُهم فلم يبقَ فيها إرادةٌ لغير الله عز وجل صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه).
ويقول أيضًا:
(ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح). [جامع العلوم والحِكَم]
الفائدة الثانية: يجب على المسلم أن يهتم بصلاح قلبه، فيتفقده دائمًا، ويتجنب ما قد يعرض له من المفسدات، سواء أكانت من الشبهات أم من الشهوات؛ وذلك لأنه إذا صلح القلب تبعته جميع أعضاء البدن. كما ينبغي على الدعاة والمعلمين أن يهتموا بإصلاح قلوب العباد؛ فإنها إذا صلحت استجاب الناس لشريعة الله، ورغبوا فيما عنده.
الفائدة الثالثة: مما يعين على صلاح القلب التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه وكثرة الدعاء؛ يقول الله تعالى –مُخبرًا عن دعاء عباده الراسخين في العلم–:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. وكان من دعاء النبي ﷺ:”اللهم مصرِّف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك” [رواه مسلم].وكان ﷺ يعلِّم أصحابه رضي الله عنهم أن يدعوا بهذا الدعاء:”اللهم إني أسألك… قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا” [رواه أحمد].
أنواع الأعمال القلبية
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله –متحدثًا عن الأعمال القلبية–:
وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل: محبَّة الله ورسوله، والتوكُّل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخَلق باتفاق أئمة الدين.
وأعمال القلوب كثيرةٌ لا تُحصى، فمنها: محبةُ الله تعالى، ومحبةُ رسوله ﷺ المحبةَ الحقيقية التي تُثمر المتابعة والاستقامة، فمن أحبَّ الله تعالى أطاعه؛ كما قال تعالى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
ومن أَجَلِّ أعمال القلوب الإخلاصُ لله تعالى، فهو حقيقةُ الدين، ومفتاحُ دعوة المرسلين. قال تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
قال الفضيل بن عياض: “أحسن العمل: أخلصه وأصوبه”.
وللنيات مدخلٌ عظيمٌ في صلاح القلب واستقامته، كما أن لها دورًا كبيرًا في هلاك العبد وتردِّيه. ولخطورة ما يتعلَّق بالنيات قال بعض السلف:
(وَدِدت أنه لو كان من الفقهاء مَن ليس له شُغلٌ إلا أن يعلِّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويَقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثيرٍ من الناس إلا من تضييع ذلك).
فاحرِص –رحمك الله– على أن تكون أعمالك الصالحة خالصةً لوجه الله، وحذارِ حذارِ أن تضيِّع أعمالك، فتذهب هباءً منثورًا، إن هي عُرِّيَت عن الإخلاص، أو داخلَها شيءٌ من حظوظ الدنيا ورغباتها، من سمعةٍ أو شهرةٍ أو نيلِ منزلةٍ لدى الناس.
أمراض القلوب وأثرها على الأعمال
مثلما هناك قلبٌ سليم، هناك أيضًا قلوبٌ قد تعاني من أمراضٍ روحيةٍ تؤثر على الأعمال التي يقوم بها صاحبها. وهذه الأمراض تُفسِد الأعمال، وتُقَلِّب النوايا، وتزيد من بعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى. ومن أبرز هذه الأمراض:
1- الرياء
الرياء هو أن يؤدي الإنسان عملًا من أجل أن يراه الناس أو ينال إعجابهم. والرياء من أكبر الأمراض القلبية لأنه يفسد النية ويجعل العمل خاليًا من الإخلاص.
قال الغزالي رحمه الله:
(الرياء: طلب المنزلة في قلوب الناس بأن يُريَهم الخصال المحمودة، والمرائي هو العامل).
[فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 11، ص: 344]
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
(الرياء مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها، والسمعة مشتقة من السمع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر). [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 11، ص: 344]
وقال العِز بن عبد السلام رحمه الله:
(الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يُخفي عمله لله، ثم يُحدِّث به الناس). [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 11، ص: 344]
قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
[البقرة: 264].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
(لا تُبطِلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى، كما تبطل صدقة من راءى الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصدُه مدحُ الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليُشْكَر بين الناس، أو يقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}).
[ابن كثير، ج: 2، ص: 463]
وقال سبحانه:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ۖ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}
[النساء: 142].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
(لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون تقية ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة التي لا يُرَون فيها غالبًا؛ كصلاة العشاء في وقت العتمة، وصلاة الصبح في وقت الغَلَس). [تفسير ابن كثير، ج: 4، ص: 318]
وروى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ:
“من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به” [مسلم، حديث: 2986].
قال الخطابي في معنى هذا الحديث:
(من عمل عملًا على غير إخلاص إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جُوزِيَ على ذلك بأن يشهِّره ويفضحه، فيبدو عليه ما كان يُبطِنه ويُسِرُّه من ذلك). [الكبائر للذهبي، ص: 157]
فإن إخلاص العمل لله تعالى عملٌ قلبي، فإذا زال الإخلاص من قلب العبد، فوقع في الشرك أو في النفاق الأكبر، فإن إيمانه يبطل، وإذا وقع في الرياء فإن إيمانه يختل، وعمله الذي خالطه الرياء يكون باطلاً؛ فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي:
“أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي تركتُه وشِركَه”.
فعلى المسلم أن يكون مخلصًا لله رب العالمين في عمله، مبتغيًا وجهَه بذلك، وألا يجعل عمل الآخرة وسيلةً للحصول على متاعٍ زائلٍ في هذه الدنيا الفانية، وأن يدَّخر عمله الصالح ليوم الفقر والحاجة:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
2- الحقد والغل
الحقد داءٌ دفين ليس يحمله
إلَّا جهولٌ مليءُ النفسِ بالعِلَلِ
مالي وللحقدِ يشقيني وأحمِله
إني إذن لغبيٌّ فاقدُ الحِيلِ
الحقد والغل من الكبائر. وقد أورد ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر أنه قرنَ الحقدَ بالغضب والحسد، وقال:
(لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازمٌ وترتبٌ، إذ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، كانت بمنزلة خصلةٍ واحدة، وذمُّ كلٍّ يستلزم ذمَّ الآخر).
فالحقد خصلةٌ قبيحةٌ مذمومةٌ، ودليلنا على قبحها أن الله بيَّن أن من تمام منَّته وفضله على أهل الجنة أن طهَّر قلوبهم من الغل، قال تعالى:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43].
وقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحِجر: 47].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
(إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا).
3- الكِبْر
جاء في غريب القرآن للراغب الأصفهاني [ص: 421]:
(الكِبْر والتكبُّر والاستكبار تتقارب، فالكِبْر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره وأعظم. وأعظمُ التكبر التكبرُ على الله بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة).
التكبُّر صفةٌ ذميمةٌ يتصف بها إبليس وجنوده من أهل الدنيا ممن طمس الله تعالى على قلوبهم. وأول مَن تكبَّر على الله وخلقه هو إبليس اللعين، لمَّا أمره الله تعالى بالسجود لآدم فأبى واستكبر وقال:
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
قال القرطبي رحمه الله:
(قال: أنا خيرٌ منه، قال الفراء: من العرب من يقول “أنا أَخْيَرُ منه” و”أَشَرُّ منه”، وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال. خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ، فضل النار على الطين، وهذا جهلٌ منه، لأن الجواهر متجانسة، فقاس فأخطأ القياس).
ولْيَعلم المسلمُ المتكبِّر أنه مهما بلغ، فهو أضعف من أن يبلغ طول الجبال أو أن يخرق الأرض؛ كما قال الله تعالى:
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18-19].
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره:
(قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}: وهذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح، وقيل: التكبر في المشي، وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي، وقيل: هو البطر والأشر، وقيل: هو النشاط).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
“لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر”، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: “إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر: بَطَر الحق وغَمْط الناس” [رواه مسلم].
بَطَر الحق: رده بعد معرفته.
غمط الناس: احتقارهم.
4- الهوى
الهوى هو ميلانُ النفس إلى ما تستلِذُّه من الشهوات من غيرِ داعيةِ الشرع. وما أكثر الأدلة الشرعية التي تنهى عن اتِّباع الهوى؛ كقوله تعالى:
{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]،
وقوله سبحانه:
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} أي: (مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ} [فاطر: 8]).
ومن تأمَّل المعاصي وجدها تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ﷺ. وقد وصف الله تعالى المشركين باتباع الهوى في مواضع كثيرة من كتابه، وكذا البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يُسمَّى أهلُها “أهل الأهواء”.
والهوى شيءٌ ملازم للإنسان لا يستطيع مفارقته، فلا يُعاقَب عليه إلا عند العمل به، فإذا صَدَّق ذلك بالعمل حوسِب على هواه وعمله. قال النبي ﷺ:
“كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ” [رواه مسلم].
قال ابن تيمية رحمه الله:
(نفس الهوى والشهوة لا يُعاقَب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيُه عبادةً لله وعملًا صالحًا. ومن كانت هذه حاله فله الجزاء الحسن، قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41]).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
(الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما. ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى. فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله فيهم:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]). [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/165]
اتباع الهوى من العلامات الواضحة لأمراض القلوب، فالمُتَّبِع لهواه لا يُجاهد نفسَه فيصبح مريضَ القلب عبدًا لهواه. قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
فطوبى لمن جاهد نفسه ونهاها عن الهوى! وهو كل ما خالف الحق؛ فالجنة هي المأوى، قال الله عز وجل:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
كيفية تطهير القلب
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
(فأفضل الناس من سلك طريق النبي ﷺ وخواص أصحابه في الاجتهاد في الأحوال القلبية؛ فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب، لا بسير الأبدان).
وفيما يلي بعضُ الأمور التي يكون بها صلاح القلب وتطهيره من الأمراض الروحية:
ذكر الله تعالى وقراءة القرآن
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28].
والذِّكر هو غذاء القلب الذي ينقيه ويطهره. وقد قال إبراهيم الخوَّاص:
(الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا). [ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى].
وقال أيضًا:
(دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السَّحَر، ومجالسة الصالحين). [أخرجه أبو نعيم في الحلية 10/327]
مجالسة الصالحين
من أعظم النعم التي يمن الله بها على العبد بعد نعمة الإسلام نعمةُ الجليس الصالح. وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(ما أُعطي العبد بعد الإسلام نعمة خيرًا من أخٍ صالح، فإذا وجد أحدكم وُدًّا من أخيه فليتمسك به). ولذلك فقد أوصانا الله تعالى بصحبة الأخيار ومجالسة الصالحين، فقال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. وقال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:”المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ”.وقد نبَّه رسول الله ﷺ في هذا الحديث إلى أن التغيير في حياة الإنسان نتيجة المصاحبة سيصل إلى تغيير في الدين، وهو أمر خطير كما هو معلوم.ومجالسة الأخيار لها ثمن، قال السلمي رحمه الله:(للمعاشرة ثمن، فيجب أن يطالب صاحبه بثمن معاشرته، وهو صدق المودة، وصفاء المحبة؛ فإن العشرة لا تتم إلا بهما).فليحرص المسلم على الجليس الصالح، قال خيثمة بن عبدالرحمن رحمه الله:(أتيتُ المدينة، فسألت الله أن يُيسر لي جليسًا صالحًا، فيسر لي أبا هريرة، فجلستُ إليه).
القيام بعبادة الجوارح
فكل عبادة من عبادات الجوارح، فللقلب المقام الأول والأكبر فيها. بل إن عبادة الجوارح لا تصح ولا تصلح إلا مقترنة بعبادة القلب من نية وإخلاص، فلا قبول لعبادات الجوارح مهما عظمت إلا بصلاح النية وإخلاصها، إذ يقول ﷺ:”إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى” [متفق عليه].
وعبادات القلوب هي التي تزكي عبادات الجوارح وتطيبها، وهي التي ترفع مقامها وتضاعف عند الله ثوابها. فالصلاة عبادة عظيمة، ظاهرها أعمال الجوارح من قيام وركوع وسجود، وباطنها أعمال القلب من إيمان وإخلاص وخشوع. والصيام عبادة عظيمة، ظاهرها إمساك الجوارح عن المفطرات، وباطنها عبادة القلب من إيمان واحتساب وتقوى، وباقترانهما تُكفَّر عن الصائم السيئات. وقراءة القرآن من أجلِّ القربات، ظاهرها تلاوة باللسان، وباطنها تدبر بالقلب واستجابة وإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
الابتعاد عن المعاصي
إن اجتناب المحرمات والبعد عن المعاصي حياةٌ للقلب ونورٌ للفؤاد وانشراحٌ للصدر، وكلما كان العبد أبعد عن المحرمات كان أطهر لقلبه وأسلم لدينه. وإذا كان النبي ﷺ يقول عن ترك الشبهات التي تتردد بين الحل والحرمة: “فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ [متفق عليه]،
فما بالك بمن يترك المحرمات نفسها؟!ومن تجنب الوقوع في الحرام فهو أَعبَدُ الناس لله، بشهادة رسول الله ﷺ الذي قال لأبي هريرة رضي الله عنه: “اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ” [رواه الترمذي].
يقول المناوي: (أي: من أعبدهم، فإنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض، فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات، فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو وتعظم بركته، فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد).
الصبر والاحتساب
إنَّ مقام الصبر عظيم، وأجره جزيل، ولقد خلق الله عباده ليبلوهم، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]. قال الإمام الطبري رحمه الله:(ليختبركم فينظر أيكم له أيها الناس أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع). [تفسير الطبري 23/505]
قال الحسن رحمه الله: (ابن آدم لا تؤذَ، وإن أُوذيت فاصبر). وإن من الاختبار أن يبتلي الله عبده بالمصائب فيَتَميَّز الصابر من غيره، ولقد ابتلي الأنبياءُ والرسلُ وهم أعظم الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال:”الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ مِن الناس، يُبتلى الرجلُ على حَسَبِ دِينِه، فإن كان في دِينه صلابةٌ زِيدَ في بلائه، وإن كان في دِينه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه. وما يزال البلاءُ بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئةٌ” [أخرجه الإمام أحمد والترمذي].
فاتقوا الله حق التقوى، واجتهدوا في إصلاح قلوبكم، وسلامة صدوركم، وخذوا بالأسباب التي تحيا بها قلوبكم وتلين، قال تعالى:
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
[الزمر: 22].