تناولنا في الجزء الأولمن هذه المقالة مسارات مفهوم الترف في القرآن الكريم ومآلاته المعرفية والاجتماعية في ضوء نظرة الوحي الكلية لهذه السنة الجارية في التاريخ البشري، ومواضع هذه السنة ومكانتها في حركة الأمم, ومبدئية التوجيه والإصلاح القرآني للترف، وانتهينا إلى تحديد عام للترف يتوافق مع نظرة الوحي وهو: الغنى غير المسؤول أمام الله وأمام الناس, أو الذي تضيع فيه حقوق الله وحقوق الناس، ونستكمل فيما يلي مكونات مدخل نظرية الترف في القرآن وعلاقتها بهلاك الأمم وفنائها.
يرصد الوحي تاريخًا من واقع الأمم وعلاقتها بالترف، أو على الوجه الصحيح علاقة الترف بهلاك تلك الأمم،ويعلق الوحي على ارتباط “هلاك الأمم” بحالة “الترف” بالمفهوم الذي توصلنا إليه وهو: الغني غير المسؤول أمام الناس وأمام الله أو ما عبرت عنه النبوة “غنًى مُطغيًا” أي مجاوزًا لحدود رعاية الخلق وأصول العمران وطريق الهداية.
بعض تعليقات الوحي على علاقة الترف بهلاك الأمم:
{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}
في هذه الآية [الإسراء : 16] يرصد الوحي نموذج هلاك الأمم في التاريخ تلك التي تجاوزت في حق الإنسان وحق الله على الأرض، والحقيقة أنها لم تكن كل “الأمة” متجاوزة. ولكن كانت هناك فئة أسماها الوحي هنا “مُتْرَفِيهَا” أي رؤساء وكبار هذه الأمة، فغالبًا ما يرتبط الغني الفاحش بسياسة وقيادة الأمم(السلطة الحاكمة) وهو من أمراض المجتمعات والحضارات وسقمها. وأمر الله هنا لهؤلاء “المترفين” لأنهم يمثلون قمة السلطة في أقوامهم وأنه بهدايتهم وامتثالهم طريق العمران والعمل بالتكاليف الإلهية للاستخلاف.وبالانضباط بضوابط القانون الأخلاقي الإلهي سوف ينضبط باقي أفراد الأمة والعكس كذلك صحيح “فالناس على دين ملوكهم” كقاعدة عامة في حالة البشرية على مر التاريخ.
كذلك فإن غياب قوة القانون في تلك الأمم التي تمنع من تجاوز المترفين، ومن غياب الجماعة الاجتماعية وشبكة علاقات قوية يكون في مقدورها الردع بهذا القانون، فإن ذلك يؤهل لهلاك الجميع.
وجاء في معنى “أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا”: أي أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقاب والهلاك.
يقول المراغي في تفسيره[1]: أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال- لما ظهر منها من المعاصي ودنست به نفسها من الآثام – لم نعاجلها بالعقوبة. بل نأمر مترفيها [سادة الأقوام وكبرائهم] بالطاعة…فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاءً وفاقًا لاجتراحهم السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش.. وخص المترفين بالذكر : وذلك لأنهم في عادة الأمم يكونون هم السادة، ويكون العامة تبعًا لهم. وقد يكون: أن الله يفيض عليهم نعمه التي يختبرهم بها…فتبطرهم ويقعون في المعاصي.
و(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) – أيضًا – أي أمرناهم بالطاعة: إعذارًا وإنذارًا وتخويفًا ووعيدًا “ففسقوا” أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا (فحق عليها القول) فوجب عليها الوعيد.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}
يرادف الوحي في آية هود (116) بين الترف والظلم والفساد، فشكل الترف هنا اقترانه بالظلم، والظلم في أقل درجاته، السكوت عن الفساد وفي أعلاها فعل الفساد ومحاربة الصلاح والصالحين. لذلك يحكي الوحي، أن هذه القرون (الأمم) إنما هلكت بأمرين:
– فساد مترفيها وظلمهم.
– وغياب “أُولُو بَقِيَّةٍ” ينهون عن هذا الفساد والظلم: أي ذو بقية من الفهم والعقل والإيمان: يعتبرون مواعظ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون مالهم في الإيمان بالله، وما عليهم في الكفر به… وينهون أهل المعاصي عن معاصيهم. وأهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه[2].
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
يربط الوحي هنا بين حالة هذه الأمم(المؤمنون : 33) (سبأ: 34) والتي ظهر فيها ذلك المرض الاجتماعي “الترف” وبين التكذيب:ولأنهم (أي المترفين – الذين ألهتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها) يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم فوق البشر، فلا يصدقون نبيًا أو رسولًا جاء بوحي أو نبوة من عند الله، ولهذا كانت دعوة تكذيبهم {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} وهم يعلنون منذ المبدأ حتى دون سماع للنبي أنهم بما جاء به يكذبون {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
جاء في تفسير الوسيط[3] (المؤمنون : 33) ما معناه: أي وقال الأغنياء والزعماء من قوم هذا النبي الذين أبطرتهم النعمة التي أنعم الله بها عليهم في الدنيا…ما هذا الذي يدعي النبوة إلا بشر مثلكم والمتأمل هنا: يرى أن الله تعالى : وصف هؤلاء الجاحدين بالغنى والجاه… بيد أنهم أُصلاء في التكذيب باليوم الآخر، وأنهم – فوق ذلك – من المترفين الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات …. ولا شيء يُفسد الفطرة، ويطمس القلوب، ويعمي النفوس والمشاعر عن سماع كلمة الحق…. كالترف والتمرغ في شهوات الحياة.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}
وفي نفس المسار (القصص:58)يسجل الوحي عددًا من القرى في التاريخ بطرت معيشتها. والبطر هو الطغيان والجحود والنكران والخسران، يقول البغوي: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. وهذا يعني أن النعم التي وهبها الله للإنسان, لها قانونها الأخلاقي والاجتماعي الذي إن تم الحيد عنه واختراقه من قِبَل فئة أو جماعة من الناس فإن ذلك إيذانًا بهلاك اجتماعي وفقًا لما يقتضيه اختراق أي قانون أو تجاوزه، ومن ثم ارتكاب محرماته ومحظوراته. وما وضع البشر القوانين إلا للمحافظة على البناء الاجتماعي وضمان سلامته.
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}
وهذا سؤال إلى الله فيه طلب تذوق المشقة (سبأ:18-19) وهو انحراف عن القانون الاجتماعي الذي يوجب أن توظف حالة الرخاء المادي إلى تحسين العمران، وزيادته، وتحقيق مقاصد الله في الخلق، وليس التلاعب بتلك النعمة أو العبث بها أو حتى الجهل بقيمة ما هم فيه.. فإن كل ذلك مُؤدٍّ حتمًا إلى انهيار القانون والبناء الاجتماعي. يقول الطبري: “وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، وجهلهم بمقدار العافية، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة، كما عجل للقائلين {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}فأعطاهم الله ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة”[4].
كانت هذه القرية في رغد من العيش ومن العمل ومن التجارة ومن الأمن حيث كانوا يسيرون إلى الشام في أمان وأمن يتجاورون ويبيعون ويشترون وهي في أمن في أنفسهم وفي أسرهم. وذلك بتيسير الله لهم {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} أي قرى متواصلة فلا يشعرون بوحشة الطريق عند سفرهم. يذكر الطبري: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. وكانت المرأة تضع زنبيلها[5] على رأسها، ثم تمتهن بمغزلها، فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار.
ولكنهم بطروا هذه النعمة التي وهبهم الله إياها دون عمل منهم أو كد أو عناء ولا وراثة ولا كسب يد، فسألوا الله أن يُباعد بين أسفارهم على سبيل الجهل وبطران نعمة سهولة الترحال والسفر.إن العنوان الرئيس لهذا التعليق القرآني يمكن أن نجعله: الجهل بالنعمة والتغافل عن حقيقتها. وهو أيضًا من موارد الهلاك.
{…إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
في هذا التعليق القرآني (الزخرف : 23) يرتبط الترف بغمط الحق، فالمترفون – أيضًا – يغمطون الحق بدعوى الجاهلية والتجهيل بين العوام، كما أنهم يروجون لهذا الباطل الذي يدعونه بدعوى أنه قول قديم يشتركون فيه مع آبائهم وأجدادهم، يقول السعدي: إلا قال مترفوها: أي: مُنعموها، وملأَها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق… أي فإنهم ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول من قال هذه المقالة… وليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض يراد به نصرة ما معهم من الباطل[6].
الدراسات الاستقرائية التاريخية
من المفيد هنا لباحث التاريخ والحضارة أن يلفت نظر الأمة إلى أهم التطبيقات التاريخية التي لم يذكرها القرآن فيما يتعلق بفرضية تلك العلاقة بين الترف وهلاك الأمم أو سقوط الدول كما في حالة الدول والخلافات في الحضارة الإسلامية ومن أشهرها كانت الدولة العباسية ودولة الأندلس، والإفادة هنا تبدو في التعرف على تمظهرات الترف وعلاقته بالانهيار الفكري والصناعي والحضاري لهذه الدول والخلافات الإسلامية مقارنة بنشأتها، وهو ما يفيد في قصدية “الاعتبار” و”المعرفة” و”الوعي” التاريخي للعقل الجمعي المسلم المعاصر.
[1]تفسير المراغي، ج15.
[2] تفسير الطبري، سورة هود:116.
[3] تفسير الوسيط للطنطاوي تفسير: المؤمنون / 33.
[4] الطبري تفسير: سبأ / الآية 19.
[5] الزنبيل: القفه الكبيرة.
[6] تفسير السعدي: الآية 23 الزخرف.