احتفلت أغلب الدول الإسلامية بعيد الفطر لعام 1445 هـ في يوم الأربعاء العاشر من أبريل لعام 2024 م، إلا أن جمهورية النيجر وجمهورية مالي سبقتا الجميع بيوم، فجاء عيد الفطر يوم الثلاثاء التاسع من أبريل، بينما تأخر العيد في بروناي وبنغلاديش إلى يوم الخميس. فهل وحدة المسلمين في المناسبات الدينية، مثل بداية رمضان وعيد الفطر، مطلب شرعي؟ أم لا بأس شرعًا من التنوع والتعدد في ذلك؟

لعل السبب في هذا التباين هو أن العيد مرتبط برؤية هلال شوال، أو إكمال رمضان ثلاثين يومًا، ناهيك عن أن بداية شهر رمضان كذلك مرتبطة برؤية الهلال.. فقد ترى دولة الهلال قبل الأخرى بناءً على الموقع الجغرافي ووفقًا لفوارق التوقيت.

قد ينزعج بعض المسلمين من هذه الظاهرة، وقد يجدون في هذا التنوع مأخذًا في حق وحدة المسلمين في المناسبات الدينية، مثل بداية رمضان وعيد الفطر. وبالتالي، يحسبون أن ذلك منقصة في حق المسلمين وتخلفًا عن الركب، إذ كيف يمكن أن نكون في عصر العلم والنهضة ولا يزال تقويم المناسبات الدينية محل إشكال وموضع اختلاف.

وقد تزداد حدة هذه الإشكالية بأمرين اثنين:

  1. استغراب الرجل الغربي من هذه الظاهرة في عصر العلم وادعاء المسلمين الوحدة.
  2. حكم مراكز أبحاث الفلك باستحالة الرؤية يوم 29 من رمضان وليلة الثلاثين.

فهل فعلاً عدم توحيد الدول الإسلامية في بدء الصوم وبدء العيد يعتبر منقصة؟

وحدة المسلمين في المناسبات الدينية : بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي

الشرع والنص هو أول من يجيب على هذا السؤال، لأن الموضوع شرعي وديني، وليس عقليا مجردا، أو رغبة، بل وليس موضوعا من موضوعات العلم المجرد أو التجريبي أو حتى السياسي. نعم، قد نستأنس بهذه الأمور، لكن الأصل هو الجواب الشرعي القائم على نص الكتاب والسنة.

وعليه أقول، لا خلاف بين العلماء في أن بداية رمضان وبداية العيد مرتبطة برؤية الهلال، والأصل هو الرؤية البصرية بلا خلاف. ودليله ما علم من الدين بالضرورة: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”. ووسيلته: نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب، الشهر هكذا (29) وهكذا (30). فإذا شهد شاهدان عدلان عند إمام عدل أو قاضٍ معتبر، فقد تحقق المقصد، وبخاصة لو وافق هذه الشهادة العلم التجريبي والحساب الفلكي. وحتى لو خالفها فالعبرة بقول الشهود وبخاصة لو تكررت الشهادة في مدن مختلفة عند أئمة مختلفين، فيفترض بالمجلس الإسلامي أو الأوقاف أو الدولة الإعلان وفق شهادة الشهود بناءً على هذا الأصل المبني على هذا الدليل المذكور.

وعليه، لو أدى تطبيق هذا الأمر الشرعي إلى تعدد المناسبات الدينية ووقت بدء الصيام أو العيد فلا إشكال، وبخاصة لو قلنا بعدم توحيد المطالع خلافًا للجمهور وموافقةً لمجلس هيئة كبار العلماء في المملكة وفق ما سيأتي.

التقديس في إثبات المناسبات الدينية بين العلم والإيمان

في عصر النبوة، وزمن السلف الصالح، لم يكن هناك وسائل متعددة لمعرفة بدء الشهر ونهايته، فلا مناص من اعتبار الوسيلة الوحيدة المعروفة، وهي الرؤية البصرية ليلة الثلاثين، إن تعذر فيكمل الناس الصوم ثلاثين. في عصرنا هذا تطور العلم بما في ذلك علم الحساب والفلك. ولا خلاف بين العلماء في الاستفادة من معطيات هذه العلوم في معرفة بدء الشهر ونهايته، ويستعان بها في المناسبات الدينية ومعرفة بداية رمضان والعيد. ولا خلاف في العمل بعلم الفلك والحساب الفلكي إذا وافق الأصل المعروف والوسيلة التقليدية المعروفة في التراث، وهي الرؤية البصرية. لكن الإشكال هو:  ماذا يقدم إذا تضارب خبر الرؤية البصرية، مع خبر معطيات علم الحساب الفلكي؟

    هل يمكن إلغاء الرؤية البصرية التقليدية والاعتماد على الحساب الفلكي باعتباره الوسيلة المعاصرة لتطبيق ما به يتم إثبات الرؤية ويتحقق صوموا لرؤيته وفق معطيات علم الفلك والحساب؟

الجواب يبين لنا ماذا نقدس، -وإن لم نشعر بذلك-، وفق أحد الأمرين الآتيين:

   هل نقدس العلم التجريبي ونعتقد أنه تطور لدرجة استحالة الخطأ في معطياته؟ وبالتالي يرد أي خبر يخالف الحساب والعلم الفلكي. وعليه تكون الأمور الآتية مبررة:

  1. لا داعي للبحث عن الهلال إذا حكم العلم التجريبي باستحالة الرؤية!
  2. هناك داعٍ للبحث عن الهلال، لكن الأمر شكلي (أو تعبدي ظاهري) أو لتعليم الأجيال القادمة، أو لاحترام شعيرة تقليدية، لكن البحث شكلي لا معنى له حقيقة لأن الهلال لن يُرى لما ثبت في علم الفلك.
  3. كل من زعم أنه رأى الهلال بصرياً في أي منطقة من مناطق الكرة الأرضية فهو واهم إن لم نقل هو كاذب، وقد يكون قد رأى نجماً أو كوكباً..
  4. يفترض رد شهادة كل من شهد برؤية الهلال بصرياً..

        ولا شك أن التقديس للعلم التجريبي هنا واضح، وإن ارتبط هذا التقديس بتقديم الدين ولمصلحة الدين والتطور.

  أم نبقي على أصل الرؤية البصرية ولا نقدس العلم التجريبي؟ وذلك أن كل من قال بخلاف ما ذكر أعلاه فلا شك أن نسبة تقديس علم الفلك والحساب يقل عنده، ولا يرى إشكالاً بالعمل بشهادة الشهود وقبوله وتأويل معطيات علم الفلك، لأن عكس ذلك قد يكون تألياً على الله -عياذاً بالله-. وبالتالي: يعمل كل من لم يقدس العلم التجريبي بالرؤية البصرية لما تتعارض مع معطيات علم الفلك والحساب. ويكون الأصل عنده هو الرؤية البصرية بناء على المعروف في التراث، ولا يرى بأساً في عدم العمل بمعطيات علم الفلك في حال تضاربها مع الحساب.

وبخاصة لو استحضرنا حقيقة أنه يحدث أحياناً إن لم نقل كثيراً، ما يأتي:

  • التضارب بين علم الطقس وبين الواقع المعاين.
  • الخطأ في تحديد وقت وضع الحمل.
  • قد يجيء الجنين خلافاً لما ذكرته تصاوير السونار لسبب أو لآخر.

اختلاف المطالع في عصر العولمة

ورد في الصحيح أن كريب رضي الله عنه صام بالشام يوم الجمعة لما ثبت من رؤية الهلال. ولما وصل المدينة وجد أن أهل المدينة صاموا يوم السبت، ولم يصوموا الجمعة. مما يعني أن أهل كل بلد صام لرؤيته وفق ظاهر حديث صوموا لرؤيته (طبعاً مع تعذر التواصل يومئذ). فيفهم من هذا أولاً أنه ليس إشكالاً أن تتعدد المناسبات الدينية في بداية الصوم والفطر في الدول الإسلامية إذا عمل كل بالنص.

يجد المتبع أن فقهاء المسلمين بنوا على هذا الحديث مسألة فقهية عرفت بـ “اختلاف المطالع، أو اتفاق المطالع”.

تساءل فقهاء المسلمين قديماً: هل يجب أن تصوم وتفطر جميع الدول الإسلامية برؤية هلال أول دولة إسلامية، أم إن كل دولة مخاطبة برؤيتها الخاصة؟

  •  ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع؛ لأن الخطاب عام لجميع المسلمين في: “صوموا لرؤيته..” (رواه مسلم)
  • وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. لأن كل مخاطب بنفسه!

يُذكر أن الشيخ ابن باز رجح قول الجمهور، بينما رجح أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة القول الثاني. ولا شك أن القول الثاني هو الأنسب في عصر العولمة لو استحضرنا بعد المسافة وفرق التوقيت بين أستراليا والسعودية، أو بين بلاد المالايو والجزيرة العربية مثلاً.

فاختلاف المطالع وحديث كريب يبين أنه لا إشكال شرعاً في تعدد الصوم والعيد بين بلاد المسلمين، على أنه يصعب بالحساب الفلكي كذلك توحيد الأمر، في حال قلنا به، كما هو الشأن في الاحتفال بالمناسبات الدينية هذا العام، حيث تعددت بدايته بين الدول كما رأينا في مقدمة المقال رغم إعلان الفلك باستحالة الرؤية.

التحديات في توحيد المناسبات الدينية

بقي التفكير في مسألة يصعب أن تخطر بالبال لدى الحديث عن توحيد المناسبات الدينية في بداية الصوم والفطر بين الدول الإسلامية أو لدى الحديث عن اختلاف المطالع. وهي مسألة هل تلزم الدول العربية الإسلامية الصوم برؤية الدول الإسلامية غير العربية في حال رجحنا قول الجمهور ورأي شيخ ابن باز؛ فهل تصوم المملكة وبلاد الشام والمغرب العربي مثلاً، وتفطر برؤية إندونيسيا أو ماليزيا أو الباكستان أو بنغلاديش أو أوزبكستان أو أفغانستان أو كازاخستان أو أذربيجان أو غيرها من الدول ذات الأغلبية المسلمة التي تسبق الجزيرة العربية في دخول وقت المغرب في نفس اليوم؟! لنفكر معاً في جواب ذلك، ولنحفر التراث الإسلامي للخروج بقول السلف في ذلك.

أخيراً، لعلي أختم بالاقتباس الآتي من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته: “ولا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ لأنه وإن صح الحساب أو الرصد، فلسنا مكلفين شرعاً إلا بالرؤية العادية.” وأكد ذلك لاحقاً أيضاً بقوله: “ولا يثبت الهلال بقول منجم أي حاسب يحسب سير القمر، لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال، لا بوجوده إن فرض صحة قوله، فالعمل بالمراصد الفلكية وإن كانت صحيحة لا يجوز، ولا يطلب شرعاً.”

ويقول أيضاً: “ولا يجب الصوم – كما تقدم – بالحساب والنجوم ولو كثرت إصابتها، لعدم استناده لما يعول عليه شرعاً..”. وقد أكد مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية الآتي: “نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب، وما ورد في الكتاب والسنة، واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك، فقرروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية؛ لقوله : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته الحديث. وقوله : لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه الحديث وما في معنى ذلك من الأدلة.”