دائمًا ما يبحث الإنسان عن الدليل القاطع، والبرهان الساطع الناصع؛ كي يطمئن قلبه وفؤاده ويستريح.
ويقلّب عقله ونظره بين الآراء والحجج باحثًا عن الصواب والحق والعدل.
وفي القرارات المصيرية للإنسان يحاول أن يطّرح هواه ورغباته، ويجرد نفسه من أي ميل وهوىً؛ حتى يهتدي للقرار الصائب الحكيم. فإذا تدخلت الأهواء والغرائز والرغبات مال العقل عن قصده، وفقد منطقه الذي ميزه الله به.
وإذا تحكمت النفوس بعللها وأدوائها في العقل، لم يقم العقل بوظيفته في التمييز بين الصواب والخطأ… بين الحق والباطل… بين المنطق واللامنطق… بين ما يضر وما ينفع.
وإذا وقع الإنسان تحت ضغط خارجي فإن العقل يتشوش، ولا يتمكن من أداء وظيفته على الوجه الأمثل. وإذا طغت الأحاسيس والمشاعر يكون العقل مجرد عامل تبرير لهذه المشاعر والأحاسيس.
والقرآن الكريم قد ألقى الضوء على تلك النماذج التي لاحت لها البراهين الساطعة، وقامت عليها الحجج القاطعة، لكنها -ورغم تعقلها- أدارت ظهرها لعقلها، واتبعت هواها ورغبتها، حتى وإن أوردتها المهالك.
فهذا يوسف الصديق عليه السلام ظهرت علامات براءته مما اتهمته به امرأة العزيز، وبدلاً من عقاب المعتدي وردعه، وقع العقاب على البريء.
يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ [يوسف: 35].
“وتلك ﴿الآيَاتِ﴾ كانت: قدَّ القميص من دُبُر، وخمشًا في الوجه، وقَطْعَ أيديهنّ”.. تفسير الطبري، (16/91).
فبدلاً من أن يكون السياق أنهم بعدما رأوا الآيات أكرموه ورفعوه واعتذروا إليه، كانت تلك العقوبة الظالمة.
فهم “ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين؛ وذلك بعدما عرفوا براءته، وظهرت الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته.
فكأنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه، ويبرأ عرضه فيفضحها”. تفسير ابن كثير، (4/387)، و”للحيلولة بينه وبينها”.تفسير القرطبي، (9/186).
وللأسف “إذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من (الوسط الراقي!) قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية!”. الظلال، (4/1987).
فقد ضاعت الأدلة الواضحة وفقدت قيمتها، ولم يعد للعقل مقامًا ومنزلة، وأصبح ظلم الآخرين أقرب وأولى من الاعتراف بالخطأ، وأصبح الخوف على السمعة أكبر من الخوف من ظلم الآخرين.
وإذا عرّجنا على أبينا إبراهيم u وقصته مع قومه لرأينا نفس الإشكال؛ إذ تتضح الحقائق وتظهر، ثم يكون العناد والاسكتبار، وركل الحقائق بالأرجل استهانة واستخفافًا.
فقد أقدم الخليل إبراهيم u على تحطيم الأصنام المعبودة من قِبل قومه، ثم قبضوا عليه، ودارت محاورة بينه وبينهم.
وكانت بداية الحوار أن سألوه: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 62].
فكان جوابه عليهم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 63].
فتحركت عقولهم بعد أن أثارهم كلامه معهم، فزاد في تحطيم المعتقدات الباطلة والتصورات الفاسدة في عقولهم فقال لهم: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95-96].
فأعملوا عقولهم في كلامه ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: 64].
لكنها كانت ومضة لم تلبث أن اختفت، وظلوا في انتكاستهم، ولم يسمعوا صوت العقل والفطرة السليمة، ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: 24].
لقد كان كلامه منطق الفطرة الذي يصرخ في وجههم: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾.. “والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾.. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.
ومع وضوح هذا المنطق وبساطته، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له. واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 97]..
إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقًا سواه عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين” (الظلال).
لقد كان المنطقي بعد كلام الخليل أن يعودوا إلى رشدهم ويتركوا غيهم، لكنهم خاصموا، بل وفجروا في خصومتهم معه، فأقدموا على إحراقه، وأرادوا كيده، فأنجاه الله، وجعلهم الخاسرين.
وفي المقابل نرى نماذج أخرى ذكرها القرآن لما بان لها الدليل واتضح لم تترد لحظة في قبول الإيمان، بل أسلمت نفسها وأمرها لباريها، ولم يضرها سخط الآخرين عليها، وتهديدهم ووعيدهم.
هؤلاء لم يتركوا البينات بعد إذ جاءتهم، ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه: 72].
لقد انفتح للسحرة ما لم ينتفع لفرعون والمصريين الذين حضروا هذا الجمع.
ولعل المصريين كانوا واقعين تحت خوف شديد من فرعون وبطشه، فأحجموا عن الإيمان، أو لعل دعايات فرعون قد تمكنت من عقولهم، فما استطاع العقل أن يتحرر من إسار تصوراته السابقة، لم يعد العقل حرًّا.
أما السحرة فقد انفتحت عقولهم وقلوبهم في وقت واحد، وأذعنت للدليل والحجة والبرهان، ولم تلبس لباس الاستكبار، ولم تركب مركب الجحود، ولم تتسربل بسربال الحسد.
هذه الأدواء إذا أصابت الإنسان جعلت على عقله غشاوة وظُلمة، فلم ينتفع بعقلٍ، ولو جئته بملء الأرض أدلة على صدق بيانك، وصحة طريقك، وسلامة منطقك.
فكم من عالمٍ لم ينفعه علمه؛ إذ انغلق عليه قلبه.
وكم من عاقل لم ينفعه عقله لما انغلق عليه قلبه.
إن أنوار الحجج تحتاج إلى أنوار العقول والأفئدة، فإذا انطفأت الأنوار في العقول والأفئدة كانت اللجاجة والخصومة واللامنطقية في المواقف.