طيلة تدريسي لهذا الموضوع أو خلال الدورات التي اعقدها في هذا الموضوع، كثيرا ما أثار الطلاب او المتدربون موضوع التنبؤات الواردة في النصوص الدينية ، وقد تناقشت طويلا في هذا الموضوع مع أساتذة من كليات الشريعة في الدول العربية، وقد ارسلت لي إحدى الجامعات العربية رسالة دكتوراة عن التنبؤات في الكتب الدينية (القرآن والتوراة بشكل رئيسي). لتقييمها….
وفي سياق هذا الموضوع أود التوقف عند بعض الملاحظات التالية لإثراء المناقشة:
أولا:
بعد أن قرأت كتاب The world Bible الذي حرره Robert O.Ballau عام 1944 وتمت إعادة طباعته 57 مرة، ( وهو كتاب ضخم احتاج مني ثلاثة شهور وبضعة أيام لقراءاته بتمعن)،وقد تناول الكتاب كلا من الديانة الهندوسية (بكل تفرعاتها) والبوذية،والزرادشتية واليهودية والإسلام والمسيحية والكونفوشية والطاوية، وقد قدم عرضا تاريخيا لكل دين، وحدد سمات كل منها على انفراد، ثم وضع أهم النصوص الاصلية والمحورية لكل دين مترجمة للانجليزية.
وكم كانت دهشتي بوجود قدر كاف من التنبؤات في كل واحد من هذه الأديان ، بل إن Prigogine الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977 يقول بأنه أصيب بالذهول عندما عرف خلال زيارة له لليابان أن لاوتسي(صاحب الديانة الطاوية) إكتشف(وبدون مختبر) بدقة المبادئ التي نال على اساسها بريجوجين جائزة نوبل ،رغم أن لاوتسي عاش قبل بريجوجين بحوالي الفين وثلاثمائة سنة، وهو ما يسميه الفلاسفة بالمعرفة الحدسية، ويشير بريجوجين ان لاوتسي كان مذهلا في تحديد هذه المبادئ.
ويمكنني ذكر العشرات من نماذج التنبؤ الصحيحة والدقيقة الواردة في الكتب الدينية، ويحتوي القرآن على نماذج منها لا تحتاج لتفصيل لأنها متداولة ومعروفة ، وفي اليونان كان كهنة معبد دلفي يمارسون التنبؤ للحكام فيها، وهو ما دفع أحد علماء الرياضيات لتسمية الطريقة التي وضعها في التنبؤ باسم تقنية دلفي Delphi Technique …الخ
وقد جمعت حوالي 83 تنبؤا من هذه النصوص الدينية، بعضها واضح تماما، وبعضها ملتبس في معاني مفرداته، أي يحتمل التأويل بشكل يجعله يتطابق مع وقائع لاحقة، أو يجعله يبعد كثيرا عن أي دلالة تنبؤية..الخ.
ثانيا:
لكن المشكلة ليست في صدق التنبؤات الدينية او عدم صدقها، بل في منهجيتها ، فلو أردنا أن نتعلم التنبؤ من هذه النماذج فهل يمكن استخلاص الخطوات الإجرائية بشكل منظم لنصل للنتيجة الصحيحة ونتعلم كيف نتنبأ..؟ فإذا تعاملنا مع هذه التنبؤات كدلالة إعجاز يكون النقاش قد اتجه اتجاها مختلفا تماما واصبح موضوعا ايمانيا ، اما إذا اردنا توظيف الجانب الإجرائي سنجد أنفسنا في مواجهة اشكالية الكشف عن كيف نتنبأ استنادا لهذه التنبؤات الدينية، أي لو اردنا أن نسأل كيف نعرف أن دولة معينة ستنتصر بعد بضع سنين على غرار مثال انتصار الروم الوارد في القرآن؟ هل هناك إمكانية لتحويل هذا التنبؤ إلى خطوات نعلمها لطلابنا وليس الوقوف مدهوشين فقط من صدق التنبؤ؟ أو ما هي الخطوات التي اتبعها النبي يوسف لمعرفة أن هناك سنوات وفرة تليها فترة مماثلة من سنوات عجاف؟ ليس المهم النبوءة بل خطوات وضعها لنتعلم منها…وهنا محور المناقشة العلمية فيما أزعم.
ثالثا:
إن مهمة الدراسات المستقبلية هي اكتشاف طرق أو تقنيات نتعلمها فتتحسن قدرتنا على التخطيط المستقبلي ونتمكن من تقليص فرص المفاجأة لنتدخل مسبقا لدفع الأمور في الاتجاه الذي يحقق لنا مصالحنا…ولا تزعم الدراسات المستقبلية يقينية نتائجها، ولا تغرق في وصف المشهد التفصيلي، بل هي معنية بالاتجاهات، وهو الامر الذي حققت فيه تطورا مذهلا منذ اعتمادها في منتصف التسينات من القرن الماضي كفرع علمي متخصص. وهنا يصبح التساؤل –بعيدا عن البعد الايماني والمنظور الميتافيريقي او الالهام الصوفي او الحدسي او التلباثي …الخ – هو ما هي الخطوات الاجرائية المنظمة والكمية والكيفية للتنبؤ ؟ وهنا تكمن المسالة ؟
أخيرا..
ورد في مقدمة الكتاب المشار له اعلاه النص التالي:
” وقف أحد القساوسة في مؤتمر ديني في مدينة بوسطن الأمريكية عام 1898 وتحدث عن نصوص مسيحية من الإنجيل قائلا..أين يمكن أن تعثروا على نصوص بهذه العبقرية، انبرى له المفكر الأمريكي Ralph Waldo Emerson بحسه الأدبي وعمق معرفته وقال : The gentleman’s remark proves only how narrowly he has read.