د.سندس عادل العبيد

السعادة مطلب إنسانيّ وضرورة روحيّة، يبحث عنها الكبير والصغير، المسلم والكافر، ولا يختلف اثنان على ضرورة وجودها وأهميتها؛ فهي الحياة بمعانيها، وفي عصرنا الحاضر تنوع العارضون لها في مناهج عدة، ومنهم أصحاب المناهج المزعومة كدعاة الطاقة، وكمن يستدعي الجمال من نفسه، حتى وصل بعضهم إلى تقديس النفس ورفعها إلى منازل عالية، وإعطائها إمكانات خرافية خياليّة.

والباحثون عن السعادة كثر، والمتكلمون فيها أكثر، أينما تسر وفي أي مجال تقرأ، تجد كلمة السعادة ترافقك. تطور العصر، وتطورت الوسائل كلّها، وزادت الرفاهية وظن بعضهم أنّها السعادة، وحينما فقدوها زاد إلحاحهم في طلبها، وزاد البحث عنها؛ فلا يمرّ عليّ يوم حتى أرى، أو أسمع، أو أقرأ قولًا، أو عبارة عن السعادة.

كنز كبير

وبحكم تخصصي وتجولي مع الأحاديث النّبويّة، وجدت كنزًا كبيرًا يحتاج إلى إظهار، كنزًا بين أيدينا، إلّا أنّنا نحتاج إلى التأمل والتمعّن فيه، وخلال بحثي في الموضوع، وجدت كتبًا شرعيّة مباركة، فيها علم كبير وفوائد جمّة، إلّا أنّني أردت أن أسلط الضوء على سنة نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم في دراسة علمية، مع دراسة للأحاديث وترتيبها وتبويبها بما يسهل على كل قارئ الاستفادة منها، والتعرّف إلى المنهج النبوي في السعادة الحقيقية.

تعريف السعادة

ومع ضرورة السعادة وأهميتها بالنسبة للمرء، إلّا أنه قد اختُلِفَ في تعريفها اختلافا كبيرًا؛ فالفلاسفة فيما بينهم اختلفوا وتنوعوا في معانيها، وكذلك التربويون، ومثلهم الأدباء، وتنوع الشرعيون في تفسيرها، ومع ذلك فهم يتفقون في جوانب معينة، لكني خلال بحثي لم أجد دراسة حديثيّة تجمع لنا المنهج النبوي في السعادة، ووجدت دراسة تجمع السعادة في القرآن الكريم؛ مما شجعني على إظهار منهج النبي صلى الله عليه وسلم في السعادة الحقيقية.

السعادة في السّنّة النّبويّة

وعلى الرغم من شهرة موضوع (السعادة في السّنّة النّبويّة)، إلا أن الدراسات فيه قليلة؛ فلا توجد دراسة علميّة متخصّصة، شملت هذا الموضوع بمختلف جوانبه وأبعاده، ولأهميّة هذا الموضوع وقلّة الدراسات التخصصية فيه، وحاجة المسلمين لمعرفة المزيد عنه، قدمت أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: (السعادة في السّنّة النّبويّة -دراسة موضوعية)، وبعد تخرجي من الجامعة، رأيت مراجعة الدراسة، وتقديمها للمجتمع بحلة جديدة بعنوان: (سيكولوجية السعادة في السنة النبوية)، وقد اجتهدت في دراسة السعادة -علم النفس الإيجابي- من مصادر نفسية عديدة، حتى تكونت لدي رؤية نفسية قارنتها مع السعادة النبوية، وها أنا ذا أنشرها في سلسلة مقالات عبر مجلة (الفرقان)، لعل الله ينفع بها.

مفهوم السعادة  في اللغة

مصدر كلمة السعادة (سَعَدَ)، والسِّينُ وَالْعَيْنُ وَالدَّالُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى خَيْرٍ وَسُرُورٍ، خِلَافَ النَّحْسِ؛ فَالسَّعْدُ الْيُمْنُ فِي الْأَمْرِ، وَالسَّعْدَانُ نَبَاتٌ مِنْ أَفْضَلِ الْمَرْعَى، يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ: «مَرْعَى وَلَا كَالسَّعْدَانِ»، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ قَالُوا لِسَاعِدِ الإنسان سَاعِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أُمُورِهِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سَاعَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ، إِذَا عَاوَنَهُ، كَأَنَّهُ ضَمَّ سَاعِدَهُ إلى سَاعِدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُسَاعَدَةُ الْمُعَاوَنَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وعلى هذا؛ فإنّ أصل استخدام كلمة (سعد) في اللغة يدور على معنيين: الأول: الدلالة على الخير والسرور، والثاني: الدلالة على المعاونة.

استعمال الكلمة في اللغة

تأتي كلمة سعد في اللغة بأكثر من معنى، ومن أهم المعاني التي وقفت عليها في كتب اللغة:

– اليُمْن: السَّعْد هو اليُمْن، وَهُوَ نَقِيضُ النَّحْس، والسُّعودة: خِلَافُ النُّحُوسَةِ، وَالسَّعَادَةِ: خِلَافُ الشَّقَاوَةِ.

البركة: من معاني السعد البركة؛ فقولنا سَعَدَ اليَوْمُ: أي كانَ مُبارِكًا.

– المعاونة: الإِسْعاد: الْمَعُونَةُ، والمُساعَدة: المُعاونة، واستَسْعد الرجلُ بِرُؤْيَةِ فُلَانٍ أَي عَدَّهُ سَعْدًا، وسعْدَيك من قَوْلِهِ لَبَّيك وَسَعْدَيْكَ، أَي إِسعادًا لَكَ بَعْدَ إِسعادٍ، قال الأزهري: رُوي عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول فِي افْتِتَاح الصَّلَاة: «لبَّيك وسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، والشرّ لَيْسَ إِلَيْك»، قال -الأزهري-: عَن ابْن السّكيت فِي قَوْله: «لبَّيك وَسَعْديك»، تَأْوِيله إلبابًا بعد إلباب، أَي لُزُوما لطاعتك بعد لُزُوم، وإسعادًا لأمرك بعد إسعاد، وقال الأزهري: وَأَخْبرنِي الْمُنْذِرِيّ عَن أَحْمد بن يحيى أَنه قَالَ: سَعْدَيك أَي مساعدة لَك، ثمَّ مساعدة وإسعادًا لأمرك بعد إسعاد، وأصل الإسعاد والمساعدة مُتَابعَة العَبْد أَمر ربّه.

ومنها الرضا والفرح والراحة، سعِد الشَّخصُ أحسّ بالرِّضا والفرح والارتياح.

ومنها السلامة، سَعِدَ الرجل من باب سلِم فهو سَعيدٌ. ومنها التوفيق، إِذا قيل: أسعد الله العبدَ وسَعَده؛ فَمَعْنَاه وفَّقه الله لما يرضيه عَنه، فيَسْعد بذلك سَعَادَة.

أهمية السعادة عند الفلاسفة

إنّ السعادة من المباحث المهمة في علم الفلسفة؛ فقلما تجد فيلسوفًا ولا مرجعًا فلسفيًّا، إلا وقد تطرق لها وعرّفها وخاض في طرقها؛ لما لها من أهمية كبرى للفرد والمجتمع، ولقد تعدّدت رؤى الفلاسفة في تحقيقها، لكنهم اتفقوا على ركائز معيّنة تؤدي إلى السعادة.

حقيقة السعادة عند الفلاسفة

للفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة؛ فمنهم من يقول: إن السعادة هي الاستمتاع بالأهواء، ومنهم من يقول: إنها في اتباع الفضيلة، ومنهم من يقول: إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية، ومنهم من يقول: إنها في العمل والجهد، ومنهم من يوحّد الخير الأعلى والسعادة، ويجعل اللذة شرطًا ضروريًّا للسعادة لا شرطا كافيًا.

رؤية مميزة

أما علماء المسلمين فكانت لهم رؤية مميزة في مفهوم السعادة، ارتبطت بسعادة المرء في الدارة الآخرة، وفيما يلي بيان لآراء أشهر العلماء القدامى في مفهوم السعادة:

الدعوة إلى الرضا

أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185هـ/796م -260هـ/873م)، كانت رؤيته هي الدعوة إلى الرضا في كلّ الأحوال، من أجل السعادة والفرح والسرور؛ فمن أراد أن يكون سعيدًا فليكن قنوعًا راضيًا، يأخذ من مطالب البدن بالقدر الذي يحتاج إليه، وفي حدود ما يتوفر له، ولا يتألم لما فاته من متاع الدنيا؛ لأن أمور الدنيا أتفه من أن نحزن عليها أو نتألم لفقدها، ويلاحظ بروز جانب الرضا والقناعة في كلّ الأحوال في مفهوم السعادة عند الكندي، وهذا جانب مهم في سعادة المرء دعت إليه السّنّة النّبويّة.

الفضائل مفاتيح السعادة

أما أبو نصر محمد الفارابي (260 هـ/874-339 هـ/950م)، فقد جعل السعادة ذات طابع عقلي تأملي، لا طابع حسي مادي، وأن تحقيقها متوقف على تحقيق الفضائل كلها، وإذا كان الناس متفاوتين في درجات فضائلهم؛ فسعادة كلّ واحد فيهم بقدر درجة فضيلته، وقد قدم الفارابي تصوّرًا لنظرية السعادة غير مسبوق من فلاسفة الإسلام، جعل فيه الأخلاق مبنية على الفضيلة؛ فالسعيد هو الإنسان الفاضل، والفضائل مفاتيح السعادة، وبالابتعاد عن الأعمال القبيحة والشهوات تتحقق السعادة، وأن المعقولات تحدد ملامح الطريق إلى السعادة، فهي تدفعه بالتأكيد إلى التأمل والروية، وبذلك تتحقق السعادة عن طريق العقل والحكمة والتأمل، وهو هنا يدعو إلى التزام القيم، والاعتدال في العقل والحكمة والتأمل، وهذا في السّنّة النّبويّة يتمثل في صحة الاعتقاد، وتحقيق الإيمان والإسلام مع تطبيق القيم الإسلامية.

سعادة الآخرة

أما أبو علي ابن مسكويه (320هـ -421هـ) فيرى أنّ سعادة الإنسان في تحصيل الملذات المادية والمعنوية معًا، والسعادة مهما كان مستواها أو نوعها، فهي سعادة ناقصة، لا تخلو من الآلام والحسرات، أما سعادة الآخرة فهي أرقى السعادات وليس بعدها سعادة، ونجد أنه قد برزت عند ابن مسكويه ثقافته العربية الإسلامية البارزة في تأكيده على ضرورة التمسك بالشريعة الحقة، والوقوف على ما جاء به الوحي من فضائل وخيرات.

إشباع الحاجات الحسية والنفسية

 أما أبو حامد الغزالي (450هـ -505هـ)؛ فيرى أنّ السعادة في تحصيل الملذّات الحسيّة المرتبطة بإشباع حاجات الجسم، التي أوجدها الله لتنمية الجسم وحمايته، وحفظ النوع، واستمرار النسل، وتحصيل الحاجات النفسيّة المعنويّة، وهي أرقى من الملذّات الحسيّة، ويحصل عليها الإنسان عن طريق إشباع حاجاته النفسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، التي تبعث على الصلاح والتقوى والطاعة.

مفهوم السعادة وحدودها في السنة النبوية

إنّ السعادة من المفاهيم التي أكدتها السّنّة النبوية، وهناك أحاديث عدة تتطرق لسعادة العبد صراحة أو استنباطا، وعند بحثي في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وجدت ثلاث طرائق للوصول إلى مفهوم السعادة وحدودها في السّنّة النبوية، بطريق جمعة الأحاديث التي تحتوي لفظ السعادة صراحة، أو مرادفات السعادة في السّنّة النبوية، أو السياق الدال على السعادة في السّنّة النبوية، وبهذه الطرائق يستطيع الباحث جمع مكونات ومؤشرات السعادة في السّنّة النبوية ومن ثم الخروج بتعريف جامع مانع لها.

ألفاظ السعادة في السّنّة النبوية

وردت أحاديث عدة في السّنّة النبوية تحمل لفظ السعادة أو مشتقاته أو مرادفاته، منها ما هو ضعيف، وما هو مكرر بالمعنى، لذلك اقتصرت على الأحاديث المقبولة الجامعة في هذا الباب دون تكرار، وبيانها فيما يلي:

لفظ السعادة

إن السعادة في السّنّة النبوية لا تقتصر على لفظ أو ألفاظ، بل على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهنا محاولة لتتبع هديه -صلى الله عليه وسلم- من كل الوجوه للوصول إلى السعادة الحقيقية، وقد جاء لفظ السعادة في السّنّة النبوية في عشرين حديثا تقريبا، وبعد حذف المكرر والضعيف والاقتصار على الأحاديث الدالة على السعادة أسجل هذه الفوائد:

أثر الإيمان في تحقيق السعادة

قال أَبو هُرَيْرَة  رضي الله عنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ألَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ»، وقوله -صلى الله عليه وسلم- «أسعد» تحمل معنى أنَّ كلًّا من الكافر الذي لم ينطق بالشهادة، والمنافق الذي يظنّ بلسانه دون قلبه يكون سعيدًا، والجواب بأن أفعل هنا ليست على بابها بل بمعنى سعيد الناس كقوله -تعالى-: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (الفرقان: 24)، ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد تحصل له سعادةٌ بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه -صلى الله عليه وسلم- يشفع للخلق في إراحتهم من هول الموقف، وهذه سعادة عامة للخلق، ويشفع في بعض الكفار بتخفيف العذاب، كما صحّ في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها، بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنّة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة، وأنّ أسعدهم بها المؤمن المخلص.

الإيمان أقوى أسباب السعادة

فدل الحديث على أن الذي ينال شفاعة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة هو المؤمن المخلص، الذي حقق الإيمان قولا وعملا وعقيدة، واطمأنت بها نفسه وسكنت، وهو السعيد الذي حصل له الفوز ببركة هذا الإيمان، ودل الحديث أيضًا أن الإيمان من أقوى أسباب السعادة ومؤشراتها، التي فيها نجاة الفرد وصلاحه في الدارين، والإيمان يجعل لحياة الفرد معنى، وينقل الفرد من حياة الضياع والتخبط إلى حياة الإنجازات والأهداف والإيجابية، وبالإيمان يمتلئ قلب العبد مشاعر إيجابية، وبه يستطيع العبد ضبط انفعالاته وقيادة نفسه إلى الجوانب الإيجابية.

أمر الإيمان عجيب

إن أمر الإيمان عجيب؛ فما إن يمتلئ قلب العبد بحب الله -سبحانه-، ويعرف عظمة الخالق الذي بيده كل شيء، وله كل صفات الكمال والعظمة، حتى تسكن روح العبد، وتركن إلى خالقها، وتنقاد إليه بتصديق جازم ونفس مطيعة مطمئنة، وحينها يعلم العبد حقيقة الدنيا وضآلتها، فيتوكل على الله حق التوكل، ويجتهد بالطاعات والأعمال الصالحة التي تشبع الحاجات المعنوية التي تؤدي به إلى الرضا الروحي الشامل، فاللهم ارزقنا إيمانا صادقا مخلصا، وارزقنا سعادة لا نشقى بعدها أبدا.

أثر الرضا بالقضاء والقدر في تحقيق السعادة

قال عَلِي رضي الله عنه : كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فِي جِنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ؛ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَة»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} (الليل: 5- 6) الْآيَةَ.

فوائد متعددة

وهذا الحديث فيه من الفوائد الكثيرة والجوانب العديدة، وهو أصل في الرضا بالقضاء والقدر، والإيمان بالقضاء والقدر من أهم القضايا التي تؤدي إلى سعادة الإنسان والمجتمع بأكمله، فمتى آمن الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه سكنت نفسه وسعدت ورضي بما قدر له، دون أن تكون الدنيا أكبر همه، ومن الأحاديث التي تؤكد هذه العقيدة: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»، أي: على غير الإيمان بالقضاء والقدر، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»، أي: هو شقي أو سعيد، والمراد أنه يكتب لكل أحد إمّا السعادة وإمّا الشقاوة ولا يكتبهما لواحد معًا، وهذا يؤكد أنّ طريق السعادة الحقيقية واحد، وهو الهداية والاستقامة على دين الله -سبحانه- للفوز بسعادة الدارين.

طريق الهداية والاستقامة

فالنبي -صلى الله عليه وسلم – قصر الأمر بين حالين إما سعيد أو شقي؛ لأن طريق الهداية والاستقامة دليل السعادة، وطريق العصيان والكفر دليل الشقاء، ولو قال قائل: إن الكافر يسعد في الدنيا ويتمتع بأنواع الملذات، فكيف نحصر السعادة على الهداية وعلى المسلمين دون غيرهم؟، هنا نبين له أن السعادة الحقيقية أرقى من تحقيق الملذات المادية، أو النجاح في الحياة الاجتماعية فقط التي يمكن أن يتحصل عليها أي أحد؛ فالسعادة الحقيقية تحمل معاني سامية، ترقى بالعبد بمستويات الرضا، ونعيم الروح، وبأنواع المشاعر الإيجابية، تمتد به ابتداء من الإيمان بالله -تعالى- وتحقيقه قولا وعملا، ظاهرًا وباطنا في الحياة الدنيا، ثم تنتهي فيه للوصول إلى دار السعداء -دار القرار في جنة الخلد.

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ

وفي تفسير قوله -تعالى-: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105)، قال السعدي -رحمه الله-: فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء هم: المؤمنون المتقون. وقال في تفسير قوله -تعالى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} (هود: 108)، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ثم أكد ذلك بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللّذة العالية، فإنّه دائم مستمرّ، غير منقطع في وقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.

طريق السعادة الحقيقية

وفي كلامه -رحمه الله- تأكيد أن طريق السعادة الحقيقية واحد وهو الهداية، وهو الذي يوصل للسعادة الأخروية في الجنة- دار النعيم المقيم، ولم يرد لفظ السعادة في القرآن الكريم إلا في هذين الموضعين: الأول في تحديد أصل السعادة وهو الإيمان، وأصل الشقاء وهو الكفر والعصيان، والموضع الثاني في بيان عاقبة السعداء وهي الجنة خالدين فيها.

إثبات القضاء والقدر

 وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، يدل على إثبات القضاء والقدر، وعلم الله بأعمال العباد قبل وقوعها، وهو ما ترجم له البخاري في صحيحه، قال الحافظ ابن حجر: «وهذا الحديث أصل لأهل السّنّة في أنّ السعادة والشقاء بتقدير الله القديم»، وقال أيضًا: «واستدلّ به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه؛ لأنّ العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر.

العمل الصالح

وجاء عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيعْرَفُ أهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُل يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أوْ لِمَا يُسَّرُ لَهُ»، أي فإن العمل يسوقه إلى ما كتب له في الأزل من سعادة أو شقاء، فإذا عمل الأعمال الصالحة فليُسَرَّ بذلك، ويرجو أن يكون من أهلها؛ لأنّ العمل الصالح علامة على أن العبد قد كتبت له السعادة كما يدل عليه الحديث.

والرضا بالقضاء والقدر من أهم مؤشرات السعادة؛ فالعبد حينما يؤمن بأن أمر الله كله خير، وأن الله رزقه الإرادة، لكن بعلمه الكامل أنه -سبحانه- يعلم ما سيقع وما سيكون؛ فسوف تسكن نفسه وتطمئن، ويحقق الرضا المنشود

الذي يعد المكون الرئيس للسعادة

ألفاظ السعادة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم

ما زال الحديث موصولاً عن ألفاظ السعادة في السنة النبوية، وقلنا إن السعادة ذكرت بالاسم نفسه في أحاديث عدة في السّنّة النبوية، تحمل لفظ السعادة أو مشتقاته أو مرادفاته، منها ما هو ضعيف، وما هو مكرر بالمعنى، لذلك اقتصرت على الأحاديث المقبولة الجامعة في هذا الباب دون تكرار.

أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ

قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوء»، هذا الحديث من جوامع كلمه – صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه جمع بين الإشباع النفسي والمادي للفرد، ومعناه أنّ حصول هذه الأمور للعبد من أمارات سعادته، وفقدانها من شقاوته، فمن سعادة ابن آدم: الزوجة الصالحة، وهي التي تسره إذا نظر، وتحفظه إن غاب، وتطيعه إن أمر، والمسكن الواسع كذلك، والجار الصالح؛ لما في ذلك من الألفة والأخوة، والمركب الهنيء السريع المريح وهو في الماضي الدابة المريحة، أمّا الآن فتنوعت المركبات، وهذه الأشياء من سعادة الدنيا، وقد تكون من سعادة الدين أيضًا؛ فإنّ من رزق هذه الأمور طاب عيشه وكملت لذته، فقد تعينه على أمور دينه فتكون سعادة في الدين والدنيا، وقد لا فتكون سعادة دنيوية فقط.

سعادة عظيمة

والإنسان يدرك أنه بهذه الأمور يرزق سعادة عظيمة، فالزوجة الصالحة مكسب وأي مكسب! تريح زوجها وتعينه، وتحسن تربية أبنائه، وتحسن عشرته وتصفح عن عثرته، والمسكن الواسع أفق ممتد للقلب، وراحة روحيّة وجسديّة، وفيه الفرح والسرور، والجار الصالح أخ معين وناصح قريب، والمركب الهنيء يسد حاجة المرء ويوصل له كل بعيد، وفي اجتماع هذه الأمور سعادة عظيمة يدرك العبد فيها حكمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من جمعهم معًا.

التوسط والاعتدال

 وسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – تعلمنا التوسط والاعتدال، وتعلمنا الاستعداد للآخرة مع عدم نسيان حظ الدنيا، وهذا الحديث فيه بيان توسط الإسلام واعتداله، وأنه يشمل إشباع الحاجات الروحية والجسدية معا، وأن الإسلام دين السعادة والحياة والسرور.

إشباع الجانب الإيماني

وفي الحديث بيان أن السعادة في إشباع الجانب الإيماني، كالمتعلق بالعلاقات الاجتماعية كالأسرة والجيرة والأصدقاء التي تضفي لحياة الفرد المساندة والدعم والمتعة والسرور، وفي إشباع الحاجات المادية، كالزواج، أو المسكن الواسع أو المركب الهنيء، وهذه الأمور كلها فيها سد للحاجات الحسية والتمتع بالنعيم والملذات المباحة بالقدر والكم المناسب ضمن قيد ضبط النفس، وهذه الأمور من مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية.

أثر اجتناب الفتن في تحقيق السعادة

 قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا»، مَعْنى الفِتْنَةِ فِي كَلَام الْعَرَب الابْتَلاءُ والامْتِحَانُ وَأَصلهَا مأخوذٌ من قَوْلك: فَتَنْتُ الفِضّةَ والذَّهَبَ إِذا أذبتهما بالنَّار ليتميز الرَّدِيء من الجَيِّد، والفتنة: ما يتبيّن به حال الإنسان من الخير والشرّ، يقال: فتنت الذهب بالنار، إذا أحرقته بها؛ لتعلم أنه خالص أو مشوب.

يخبرنا – صلى الله عليه وسلم – أنّ الإنسان السعيد الذي بعد عن الفتن ووفّق للزوم بيته، وكرّر الجملة ثلاثًا للمبالغة والتأكيد، ويمكن أن يكون التكرار باعتبار أوّل الفتن وآخرها، ومن ابتلي وامتحن بالفتن فصبر على ظلم الناس له، وتحمّل أذاهم ولم يدفع عن نفسه ولم يحاربهم، فهو السعيد الذي حاز السعادة الحقة، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «فواهًا» معناه: التلهُّف، وقد يُوضَع موضعَ الإعجاب بالشيء والاستطابة له، وهو المراد هنا؛ أي: ما أحسنَ وأطيبَ صَبْرَ مَن صَبَرَ عليها! وقد يَرِدُ بمعنى: التوجُّع، وقيل: معناه: فطُوبَى له.

من أهم مؤشرات السعادة

والصبر من أهم مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية التي يحتاجها المؤمن في كل أحواله، ففيه يضبط المؤمن نفسه، ويبتعد عن العناء النفسي، وسيأتي الحديث عنه في مباحث القيم، والفتنة في الدين نوعان -كما ذكر العلماء-: فتنة الشبهات، وفتنة الشهوات.

فتنة الشبهات

وأصلها من تقديم الرأي على الشرع، وهي تأتي من ضعف البصيرة، وقلّة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، وفي هذا قال الله -تعالى-: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 23)، وهذه الفتنة مآلها إلى الكفروالنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.

تجريد الاتباع

ولا يُنجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في أدق الدين وجلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، لا يتلقى إلّا عنه، ولا يأخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكلّ ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عمّا سواه، ووزنه بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله، وإن خالفه ردّه، فهذا الذى ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.

فتنة الشهوات

تأتي من تقديم الهوى على العقل، وقد جمع -سبحانه- بين ذكر الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (التوبة: 69)، أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال: {وخضتم كالذي خاضوا} فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات.

وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، وإذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما: الهدى، والرحمة.

الرضا

الرضا مصدر رَضِيَ، أي طيّب النفس، قانع بما لديه، وهو ضد السخط، ويكاد يتفق الفلاسفة وعلماء النفس أن السعادة هي الشعور بالرضا، وأن الرضا هو المكون الأساس للسعادة، ومن الأحاديث التي تحمل معنى الرضا، ما روي عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»، حسنه الألباني. وسيأتي شرح هذا الحديث.

والشعور بالرضا يكون في مجالات الحياة كلها، فيرضى الإنسان بحياته كما هي، من أجل صحته النفسية وسعادته، وبهذا يكون أقرب لفظ للسعادة من الألفاظ النظيرة هو الرضا، لما تحمله السعادة من مشاعر الرضا الكبيرة، فإن كان الأمر خيرًا فخيرًا، وإن كان مالا تطيب به النفس؛ فالرضا يمسح كل حزن؛ ويرقى بالعبد لمنازل الصالحين المقربين، فاللهم اجعلنا من السعداء وارزقنا رضاك والجنة.

السرور

 السرور فرح وحبور، والسرور ارتياح ولذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه أو اندفاع ضَررٍ، والسرور من أكثر المشاعر الإيجابية المتعلقة بالسعادة؛ لما فيه من انفعالات وجدانية تحصل للسعيد، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «منْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، رواه البخاري. ومعنى الحديث: أي من أفرحه أن يبسط له في رزقه ويبارك له فيه ، وينسأ أي يؤخر في أثره، وأثر الشيء هو ما يدل على وجوده ويتبعه، والمراد به هاهنا الأجل، وسمي به؛ لأنه يتبع العمر، فمن سره ذلك فليصل رحمه.

والصلة: العطف والحنان والرحمة، وصلة الله لعباده رحمته لهم وعطفه بإحسانه، ونعمه عليهم، أو صلته له بأهل ملكوته، والرفيق الأعلى، وقربه منهم -جلّ اسمه- بعظيم منزلته عنده، وشرح صدره لمعرفته.

واختلفوا في الرحم، فقيل: كل ذي رحم محرم. وقيل: وارث. وقيل: هو القريب، سواء كان محرما أم غيره، ووصل الرحم تشريك ذوي القربى في الخيرات، وهو قد يكون بالمال وبالخدمة وبالزيارة ونحوها.

وإن قيل: أليس قد فرغ من الأجل والرزق؟ فالجواب من خمسة أوجه:

أحدها: أن يكون المراد بالزيادة توسعة الرزق وصحة البدن، فإن الغنى يسمى حياة، والفقر موتا.

الثاني: أن يكتب أجل العبد مائة سنة، ويجعل تزكيته تعمير ثمانين سنة، فإذا وصل رحمه زاده الله في تزكيته فعاش عشرين سنة أخرى.

الثالث: أن هذا التأخير في الأصل مما قد فرغ منه لكنه علق الإنعام به بصلة الرحم، فكأنه كتب أن فلانا يبقى خمسين سنة، فإن وصل رحمه بقي ستين سنة.

الرابع: أن تكون هذه الزيادة في المكتوب، والمكتوب غير المعلوم فما علمه الله -تعالى- من نهاية العمر لا يتغير، وما كتبه قد يمحى ويثبت.

الخامس: أن زيادة الأجل تكون بالبركة فيه وتوفيق صاحبه لفعل الخيرات وبلوغ الأغراض، فنال في قصر العمر ما يناله غيره في طويله.

وخلاصة ذلك كله أن الصلة والبر من أسباب السرور وسعة الرزق والبركة في العمر.

الأمان

الأمن هو عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف، وهو من عناصر السعادة المهمة التي ركز عليها علماء النفس، وأحد جوانب الرضا التي يشعر بها الإنسان، وارتباط الأمن بالسعادة ارتباط وثيق لما له من تأثير على الشعور بالفرح والسرور، ومن الأحاديث التي ورد فيها لفظ الأمان: ما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، حسنه الألباني بمجموع طرقه. والأمان من النعم الكبيرة التي دلنا عليها النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفيها سعادة الفرد والمجتمع، وهو من المؤشرات المهمة في تحديد السعادة.

البشارة بالخير

البُشْرى خبر سارّ ومُفرِح لا يعْلَمه المُخْبَر به، وهي خير وسرور وحسن، قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 97).

تعد السعادة انعكاسًا لمعدلات تكرار الانفعالات السارة، والبشرى أحد الأمور التي تؤثر على انفعال الإنسان؛ فيشعر بالسعادة، والبشرى لها أحوال كثيرة منها ما يكون في الدنيا، ومنها ما يكون في الآخرة.

ومن الأحاديث التي جاء فيها تبشير المؤمنين، قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ردا على سؤال أبي ذر: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ»، رواه مسلم.

حصول البركة

البَرَكَة نماء وخير ونعمة إلهيَّة، وهي زيادة، وسعادة، وقول عبارة: «على بركة الله وببركة الله» هي عبارة تقال تيمّنًا بالخير، وتحمل البركة معانيَ كثيرة تؤدي للسعادة، ويكفي أنها نعمة إلهيّة تصيب العبد بما فيها من الخير والزيادة، والإنسان إذا عمل الصالحات يشعر ببركة هذه الأعمال الفضيلة، والفضائل هي مفاتيح السعادة كما قرر ذلك العلماء، وتعد البركة من الجانب المعرفي الذي يدركه السعيد في حياته من خلال ما يحصل له من توفيق ومعاونة وزيادة.

ومن الأحاديث التي تحمل معنى البركة: حديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»، رواه مسلم. قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ، هنا يقرر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن قراءة القرآن الكريم تؤدي إلى البركة التي فيها الخير والسعادة، ولا سيما المواظبة على تلاوة سور البقرة وآل عمران والتدبر في معانيها والعمل بما فيها فإنه بركة، أي زيادة ونماء ومنفعة عظيمة، والعبد يشعر ببركة القرآن والأعمال الصالحة في حياته، وما يناله من هذه البركة من توفيق وخير وطمأنينة وزيادة.

وفي هذا الحديث إثبات أن قراءة القرآن من مؤشرات السعادة الضرورية، التي تؤثر على شعور العبد وانفعالاته، ففي قراءة القرآن يجد العبد حلاوة ولذة وانشراح صدرٍ.

البحبوحة ورغد العيش

البُحْبوحَة سعةُ العَيْش ولينُه، وهي نعمةٌ وافرة، والبحبحة والتبحبح التمكن في الحلول والمقام، والبحبوحة من الملذات المادية التي تؤدي للسعادة، وورد لفظ بحبوحة مرة واحدة في السّنّة النبوية، في حديث يقررها في الآخرة جزاءً لمن التزم جماعة المسلمين وصفهم، أي من حافظ على مجتمعه، وسعى للصف الواحد، وأن يكون فردًا صالحًا على نهج النبي – صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فذلك الذي له سعة العيش والنعم الوافرة في الجنة.

وجاءت هذه المعاني فيما رواه ابن عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم- فِينَا فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ، أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَم الْمُؤْمِنُ»، صححه الألباني. والمراد بالجماعة كما ذكر العلماء: السواد الأعظم وما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين والسلف، فمن أراد سعة العيش والنعيم في الجنة فعليه بجماعة المسلمين، بتحقيق مبدأ التعاون والإخاء، المبدأ الذي يصنع المجتمع المسلم السعيد.

وفي هذا الحديث تأكيد على تأثير الجانب الاجتماعي في تحقيق سعادة العبد، فالانتماء للجماعة مصدر من مصادر السعادة التي تؤثر إيجابا على انفعالاته وشعوره، وهو مؤشر مهم جدا، وفيه بيان ارتباط السرور والسعادة بالطاعات والخيرات، وهي مؤشرات مهمة أيضا.

البهجة

البَهْجَة: الفرح والسرور والْحُسْنُ، وابتهج القلبُ: أي امتلأ بالبهجة والسرور، والبهجة من حالات الانفعال التي تندرج تحت الجانب النفس حركي، الذي يعبر به السعيد عن سعادته، سواء بالكلام أم الأفعال أم تعبيرات الوجه، وورد لفظ البهجة مرّة واحدة في السّنّة النّبويّة في حديث آخر أهل النار دخولا للجنة، في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الجَنَّةِ، رَأَى بَهْجَتَهَا»، أي حسنها ونضارتها، والبهجة في هذا الحديث تعبير عما في الجنة من السعادة والفرح والحبور، وفي الحديث إشارة إلى أن من كمال السعادة والسرور والابتهاج الفوز بالجنة (دار السعداء).

التوفيق

التوفيق مصدر وفَّقَ، وهو سدّ طريق الشّرّ وتسهيل طريق الخير، وقول: وفقت أمرك، أي صادفته موافقا وهو من التوفيق كما يقال رشدت أمرك، والوفق: من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، ووفقه أي ألهمه، وفهمه، ويتعلق التوفيق بالجانب المعرفي من السعادة فيما يدركه السعيد من متعة ونجاح وتوفيق، ومن وفق للخير وسهلت أموره، فلا ريب أن ذلك يولد عنده مشاعر السعادة والفرح والاطمئنان، وقد أكد العلماء أن السعادة في حصول الخيرات.

وقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ»، وهذا حديث عظيم فيه أن تسهيل العمل الصالح للإنسان خير ومنفعة، وفيه تأكيد أن الأعمال الصالحة مؤشر قوي للشعور بالسعادة.

الحلاوة

الحلو: نقيض المر، والحلاوة ضد المرارة، والحلو كل ما في طعمه حلاوة، والبناء للمبالغة في الأمر، والحُلْوُ ما تستحْليه العين، وقال ابن فارس:”حَلَوَ، الْحَاءُ وَاللَّامُ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَلٌّ، ثَلَاثَةُ أُصُولٍ: فَالْأَوَّلُ طِيبُ الشَّيْءِ فِي مَيْلٍ مِنَ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي تَحْسِينُ الشَّيْءِ، وَالثَّالِثُ – وَهُوَ مَهْمُوزٌ – تَنْحِيَةُ الشَّيْءِ”.

والحلاوة من الملذات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسعادة، ولها تأثير وجداني على العبد، وفي هذا جاء قول الرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.

هذا حديث عظيم وأصل من أصول الدين، ومعنى حلاوة الإيمان أي استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك الرسول، وإنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل، وفي الحديث من السعادة القدر الأكبر؛ فمن أراد التلذذ بحلاوة الإيمان والشعور بالسعادة الحقيقية عليه بثلاث خصال تضمن له السعادة بإذن الله، وهي في مقدمة مؤشرات السعادة:

– أن يكون الله -سبحانه وتعالى-، ورسوله – صلى الله عليه وسلم – أحب شيء في نفسه.

– أن يحب لله، وفي الله، فتكون حياته كلها لله.

– وأن يستشعر نعمة الإيمان، فيكره العودة للكفر كما يكره الوقوع في النار.

محبة الله ورسوله

وذلك أنه لا تتضح محبة الله ورسوله حقيقة، والحب للآخر في الله وكراهة الرجوع إلى الكفر، إلا لمن قوى بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط دمه ولحمه، وهذا هو الذي وجد حلاوته، والحب في الله من ثمرات الحب لله.

 ومعنى حب العبد لله: استقامته في طاعته، والتزامه أوامره ونواهيه في كل شيء ولهذا قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب، فيحب ما أحب ويكره ما كره، وأما المحبة للرسول فيصح منه الميل؛ إذ ميل الإنسان لما يوافقه إما لأنه يستلذه ويستحسنه كالمستلذات بالحواس الظاهرة أو يستلذه بحاسة عقله من المعاني الباطنة الجميلة والأخلاق الرفيعة، أو ميله لمن يحسن إليه وينعم عليه، ويدفع المضار والمكاره عنه، فقد جُبلت النفوس على حب من أحسن إليها، والإنسان إذا رضا أمرا واستحسنه سهل عليه أمره، ولم يشقَّ عليه شيء منه، فكذلك المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان، سهلت عليه طاعات ربه ولذت له، ولم يشق عليه معاناتها.

الخير

 الخير أصله من العطف والميل، ثم يحمل عليه، وهو خلاف الشر، والخير: حَسَنٌ لذاته أو لما يحقّقه من نفع وصلاح أو سعادة، اتفق الفلاسفة أن الحصول على الخير سعادة، وأن اتباع طريق الفضيلة والخير سعادة كما تقدم؛ فالإنسان إذا حصل له النفع فلا ريب أنه يشعر بالسعادة لما يدركه من النفع الحاصل له، وكذلك إذا نفع غيره فهو أيضا يشعر بالسعادة لما يترتب عن ذلك النفع من شعور غيره بالسعادة مما ينعكس على شعوره وانفعاله، وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ. قَالَ: قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا «فهذا الإنسان الذي امتدحه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بما حصل له من التجاوز عنه يوم القيامة والحصول على السعادة الأخروية، لم يكن له خير وسبب لهذه السعادة إلا أنه كان يخالط الناس، أي يصبر على أذاهم ويتعايش معهم، فهو هين سهل لين، وكان كذلك موسرا فيتجاوز عن المعسر، وجزاء لهذه الأعمال الخيرة تجاوز الله عنه وفاز في الآخرة، ومخالطة الناس بذكاء وجداني ومرونة من مؤشرات تحقيق النجاح في الحياة الاجتماعية، والفعل الخيّر مؤشر قوي للسعادة الحقيقية.

الراحة

الراحة: هي راحة البال بما تشمله من طمأنينة النَّفس، والخلوّ من الهم، ومن معاني الراحة أيضًا الهدوء النفسي، والانشراح، والتسلية، والخفة، وكل هذه المشاعر التي تشملها الراحة، هي مشاعر إيجابية وانفعالات سارة، تؤدي للسعادة، وقال رَسُول اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ يَا بِلَالُ، فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»، فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة وما فيها من مناجاة وتعبد لله -تعالى- سبب للراحة، لما فيها من تلبية حاجات النفس بتقربها من خالقها وصلتها به -سبحانه-، والصلاة صلة بين العبد وخالقه، الذي يعلم بأموره صغيرها وكبيرها، والذي يملك -سبحانه- الأمر كله.

أساس السعادة ومصدرها

فالإنسان إذا استشعر أن هذه الصلاة التي يكررها في اليوم هي أساس ومصدر لسعادته، سيتعلق قلبه بها وستكون هي المستراح له من هم الدنيا ومشاغلها؛ لأن فيها يذكر ربه ويثني عليه بما هو أهله، ويتقرب ويتذلل إليه، ويخبر ربه -تبارك وتعالى- عما جرى له في يومه، ويسأله العافية في الدنيا والآخرة، ويتذلل له في سجوده وركوعه وخشوعه، وبهذه الحركات والسكنات والأذكار مشاعر إيجابية تضفي على قلب العبد الراحة والسكون؛ فالإنسان بطبعه يحب الأقوى منه ويلجأ إليه، وإذا تقرب إليه أحس بالفرح والسرور، والإنسان كذلك يحتاج أن يملأ قلبه بحبٍ يجعله مرتاحًا ومطمئنًا، ويحتاج أن يفضفض عن همومه، وأفضل من يسمع العبد ويعينه هو الله -سبحانه وتعالى-، لذلك كانت الصلاة قرة عين المحبين، وراحة للسعداء المقربين، والعبد إذا لم يعمر قلبه بمحبة الرب المحبوب الأعظم تاهت روحه، وصارت جائعة تبحث عن حاجتها المفقودة.

رَوِّحُوا الْقُلُوبَ تَعِي الذِّكْرَ

وروي في الأثر قول قَسَامَة بْنِ زُهَيْرٍ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ تَعِي الذِّكْرَ»، أي أريحوها بعض الأوقات من مكابدة العبادات بمباح لا عقاب فيه ولا ثواب، فإن هذه الاستراحة بالمباح تنشط العبد للعبادة؛ فالإسلام دين الوسطية والاعتدال واليسر، نعم تحتاج النفس بعض الاستراحات بالمباحات حتى ترجع للطاعة بهمة عالية، ونفس تواقة، لكن في هذا الزمن -والله المستعان- صار بعض الناس يظن أن هذه الاستراحات هي أصل سعادته، وفاضل وقته لأداء الفرائض، ومن كانت هذه حاله فلن يهنأ بالسكينة والطمأنينة والانشراح، ولن يذوق طعم السعادة الحقيقية.

الفرح

والفرح يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْحُزْنِ، ويأتي بمعنى الْإِثْقَالُ، وهو هنا بمعنى السرور والبهجة والسعادة، والفرح من حالات الانفعال الوجداني الذي يظهر فيما يشعر به السعيد من متعة وفرح وسرور، وهي حالات إيجابية تؤثر على انفعال الفرد وسعادته.

ومن الأحاديث التي حملت معنى الفرح قول أَنَسٍ – رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»، فيفرح المؤمن أشد الفرح بمعية النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنة والنجاة من النار، والدرجات متفاوتة، لذلك المراد (المعية في الجنة)، من أحب النبي  صلى الله عليه وسلم  بإخلاص، فيرجو أن يكون في دار الثواب لا العقاب.

لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»، والصيام من الأعمال الصالحة التي تربي نفس الإنسان، وتقودها للصلاح، والإنسان إذا وفق لهذه العبادة العظيمة فإن الله وعده بالفرح العظيم.

وتحصل للصائم فرحتان، الأولى: «فرحة عند فطره»، وذلك إما سروره بالأكل والشرب؛ فإن نفس الإنسان تفرح بهما بعد الجوع والعطش، وإما سروره بما وُفِّقَ له من إتمام الصوم الموعود عليه الثواب الجزيل، والثانية: «وفرحة عند لقاء ربه» يوم القيامة، وإعطائه جزاءَ صومه، يفرح فرحاً لا يبلغ أحد كنهه.

الفرح بالشرع

والفرح بالشرع مقرون بتمام العبادات، كفرحة العيدين، وفرحة الصوم، والعبد يشعر بذلك كإنجاز حققه، وعلم النفس يؤكد هذا، فإنجاز الأهداف وتحقيق الطموح، والإنجاز بأنواعه فرحة وسعادة تملأ القلب؛ لذلك علماء النفس يؤكدون أن من مؤشرات السعادة الإنجاز وتحقيق الأهداف، وهذا الأمر متحقق في السّنّة النبوية سلفا؛ فقد دعا إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – في أقواله وأفعاله وتقريراته، فدعانا – صلى الله عليه وسلم – للعمل والخير والطاعة والإنجاز لنحظى بسعادة الدنيا والآخرة، ولتمتلئ حياتنا رضا وطمأنينة.

قرة عين

القُرَّة: مفرد، والمصدر قَرَّ، ومنه قُرَّة العَيْن: وهي ما يصادف المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه، وقول: هو قرَّة عين أمّه: أي سرورها وسكونها، وأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَعْطَاهُ حَتَّى تَقَرَّ فَلَا تَطْمَحَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَيُقَالُ: حَتَّى تَبْرُدَ وَلَاتَسْخَنَ فَلِلسُّرُورِ دَمْعَةٌ بَارِدَةٌ وَلِلْحُزْنِ دَمْعَةٌ حَارَّةٌ، وقرة العين من الانفعالات الإيجابية التي تؤدي للسعادة.

ومن الأحاديث التي حملت هذا المعنى: قوله – صلى الله عليه وسلم : “حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ”.

معنى قرة عينه

 ومعنى قرة عينه أي بَرَدَتْ وانقطع بُكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دَمعَةً باردةً، وللحُزْن دمعةً حارّةً، وقيل: هو من القَرَار، أي رأت ما كانت مُتَشَوِّفَةً إليه، فقَرَّت ونامت، وقيل: أعطاه حتى تَقَرَّ عينه، فلا تطمح إلى من فوقه، وقيل: أقرّ اللهُ عينَهُ: أنام الله عينَهُ، والمعنى صادف سُرُوراً يُذهبُ سهَرَه فينام، وتقر عينه بالصلاة أي تقرّ بتلذذه بطاعة مولاه -سبحانه وتعالى-، ودوام ذكره، وكمال محبّته، والأنس به، فالصلاة قرة للعين تسكن فيها النفس وتسعد، يشعر بذلك من حققها بأركانها وشروطها وبخضوعها، ويشعر بذلك القريب من الله -تعالى-، ومتى كان العبد قريبا من الله متعلقا قلبه به -سبحانه-، كانت الصلاة قرة عين له، وبها يشعر بالسكينة والسرور والاطمئنان، وهذا الشعور رزق من الله -تعالى- يرزق به الصادقين المخلصين من عباده المؤمنين.

اللّذة

اللذّة: طِيب طعم الشَّيء، وهي المتعة والشعور بالارتياح العميق الذي يُناقض الألم والبشاعة، وهي تأتي بمعنى إدراك الملائم المُشْتَهَى كالنور عند البصر وطعم الحَلاوة عند حاسّة الذَّوق «ما أجمل لذَّة النُّور بعد الظَّلام!

واللذة والملذات من الأمور التي قررها الفلاسفة وعلماء النفس في مفهوم السعادة، وهي تنقسم إلى ملذات حسية وملذات معنوية، والملذات المعنوية أرقى من الملذات الحسية المادية.

يَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي

ومن الأحاديث التي حملت هذا المعنى: قوله – صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللهُ: إِلَّا الصِّيَامَ، فَهُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ الشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ»، والفرق بين السعادة واللّذة أنّ السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأنّ رضا النفس بها تام، في حين أنّ اللّذة حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأنّ رضا النفس بها مؤقت، ومن شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تمامًا ودائمًا.

واللذة الحسية من سعادة الدنيا المشروع للعبد التمتع بها ضمن إطار المباحات، واللذة المعنوية تكون في القلب من خلال معرفة ربه واستقرار الإيمان في قلبه فيتلذذ بعبادته، وفي اللذة المعنوية يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بخلاف الملذات المادية المؤقتة.

النعيم

المصدر نَعِمَ، والنُّونُ وَالْعَيْنُ وَالْمِيمُ فُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وعَلَى كَثْرَتِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى تَرَفُّهٍ وَطِيبِ عَيْشٍ وَصَلَاحٍ، والنعيم: هو حسن الحال وراحة البال، وما يُتلذّذ به المرء من الصَّحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب، والنعيم من الأمور الإيجابية التي تحصل للفرد، وبها يشعر بالسعادة وتحصل له الانفعالات الوجدانية والمعرفية.

ومن الأحاديث التي حملت هذا المعنى: « أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، خرج على الصحابة وعليه أثر غسل، وهو طيب النفس، فظنوا أنه ألم بأهله، فقالوا: يا رسول الله، نراك طيب النفس! قال: أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلهِ، ثم ذِكْرِ الْغِنَى، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ»، وطيب النفس من النعيم؛ لأنه من روح اليقين على القلب وهو النور الوارد الذي قد أشرق، فأراح القلب والنفس من الظلمة والضيق.

 لا بأس بالغنى، أي أن الغنى مظنة خطر إلا أنه لا خطر فيه ولا بأس لمن اتقى الله فيه، فيبذله في وجوهه ويشكر نعمة الله فيه، وصحة البدن لمن اتقى الله خير من الغنى؛ فإن صحة البدن قوة على الدين وهي أشد إعانة على التقوى من الغنى، وإذا انضم الغنى إلى الصحة وإلى التقوى، كان ذلك من تمام النعمة كلها في الدارين، وطيب النفس بانشراح الخاطر والقناعة بما أعطي، من النعيم العاجل للعبد، فإن القلب إذا استنار وزالت عنه ظلمة الشهوات والشبهات أدرك النعم حقيقة.

مفهوم شمولي

وأخيرًا فمفهوم السعادة مفهوم شمولي، يجمع خيري الدنيا والآخرة، وهو مفهوم عميق يحمل في طياته معاني راقية، وهو شعور دائم يحظى الإنسان به؛ لما فيه من مشاعر الرضا والقناعة، التي تمسح كل حزن وترقى بالعبد لمنازل الصالحين المقربين، فاللهم اجعلنا من السعداء وارزقنا رضاك والجنة.

الزيادة

 الأصل في الزيادة الفضل، وهي نموّ وارتفاع وكثرة وعطاء وتحصيل، والزيادة تدخل بمفهوم السعادة بما يدركه السعيد من نفع ونمو وكثرة تحصل له، ومن الأحاديث التي ورد فيها هذا اللفظ: حديث أَبي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا»، وفي هذا الحديث بيان أن الصبر على المظلمة، والإنفاق على الناس يزيد العبد زيادة معنوية برفع شأنه، وزيادة مادية التي تتمثل في البركة بماله.

السكينة

السكينة: طمأنينة وهدوء واستقرار وراحة بال، ومن معاني السكينة المهابة والوقار، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} (سورة الفتح: 4)، والسكينة من المشاعر الإيجابية التي تحصل للعبد، وهي نوع من الانفعالات الإيجابية التي يحياها العبد، وتجعله ينظر إلى الحياة بنظرة مشرقة متفائلة، لسكون نفسه وتعلقها بخالقها، وعلمه أن أمره كله بيد الله، فيستقر الإيمان في قلبه، وتظهر السكينة والوقار على جوارحه.

السكينة والرحمة والغفران

 وقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

وفي هذا الحديث بيان أن السكينة والراحة والرحمة والغفران والقبول، يكون جزاء لمن اجتمع على ذكر الله -تعالى-، وهذا يؤكد للمسلم أن ذكر الله -تعالى- من أعظم أسباب السعادة في الداريين، ففي الدنيا تسكن روح العبد وتطمئن لذكره -سبحانه-، وفي الآخرة تفوز بالجنة بما نالته من الأجر والمثوبة من ذكر الله في الدنيا.

السلام

المصدر سَلِمَ والسِّينُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ مُعْظَمُ بَابِهِ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، والسَّلامة والغنامة: أي البراءة والعافية والرزق، ومعاني السلام كثيرة، وهو يحمل مشاعر إيجابية متنوعة، تحصل للفرد ولأسرته ومجتمعه بأكمله، وتظهر مشاعر السلام فيما يدركه السعيد من نفع له وتوفيق وعافية واستقرار وأمان، وكلها انفعالات إيجابية، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا»، وهنا يؤكد – صلى الله عليه وسلم – على السلام بمعانيه، ولا يقتصر على السلام التحية، بل السلام بمعنى الأمان والسلامة من كل مكروه، ونفع الناس والتعاون معهم، وتحقيق مبدأ الإخاء، والمجتمع الإسلامي، حتى تتحقق السعادة للأفراد والمجتمع بوصفها نتيجة لذلك السلام.

الطمأنينة

الطمأنينة: سكون النفس، وعدم القلق، وقد ذكر علماء النفس أن من معاني السعادة الطمأنينة، وهي شعور إيجابي يحقق الصحة النفسية للفرد، وقال الرَسُول اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ»، وهنا يؤكد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن طريق الخير، والأعمال الصالحة مما تطمئن إليه النفس فيعرف الإنسان من راحة نفسه وسكونها أنه خير وصلاح، بخلاف الشر فانه يؤثر سلبًا على النفس ويجعلها في تذبذب وشك، وفي ضيق واضطراب، فيعرف الإنسان أنه طريق الشقاء.

الطيب، والطوبى

الطيب: الحسن والزكاة، طاب العيش حسن وزكا، والطوبى مؤنث أطيب، وهي غبطة وسعادة، وخيرٌ دائم، طُوبَى لك: لك الحظّ والعَيْش الطَّيِّب، وطُوبَى لكم: كونوا سُعداءَ جدًّا، والطُوبَى فُعْلَى من الطِّيبِ، وهي العيشُ الطيّب والخير والحسن، وطُوبَى اسمُ شجرةٍ فِي الجنَّة، الطيب من المشاعر الإيجابية التي تدخل في السعادة، وتؤثر على انفعال الفرد الإيجابي.

طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إلى الْإِسْلَامِ

ومن الأحاديث التي وردت بهذا المعنى: قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إلى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بِهِ»، طوبى لمن هدي للاستقامة في الدين، فإنه قد فاز بالحظ الذي يربح به في الدارين، وبالقناعة يفوز المرء بالأجر؛ لعلمه بأن الله -تعالى- عالم بالأصلح له خبير بأحواله؛ ولأنه يريح قلبه ويتفرغ لعبادة مولاه، فإن من زاد ماله زادت أشغاله وذهبت عنه عافيته.

والكفاف: ما كف به المرء عن الناس، وأغنى به نفسه، أي قدر كفايته لا يشغله ولا يطغيه، فقليل يكفيك خير من كثير يطغيك، والطوبى: الخير والعيش الهنيء، وهي إحدى مظاهر السعادة في السّنّة النبوية، ومن الطرائق للوصول إليها: الاستقامة في دين الله -تعالى-، والقناعة، والكفاف في الرزق.

وظائف الطاعة

قال القسطلاني: «فأصبح لما وفق له من وظائف الطاعة التي تسرع به إلى مقام الزلفى وترقيه إلى السعادة العظمى»، وصلاة الصبح أمرها عجيب، إذا ابتدأ العبد يومه بها أحس ببركتها، وبتسهيل أموره وبطيب نفسه وانشراح قلبه ونشاط بدنه، فالله -سبحانه- وعد ووعده الحق، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، والعبد كلما كثرت أعماله الصالحة زادت سعادته وراحته، وطيب النفس من مظاهر السعادة التي يحظى بها المؤمن الحق، ومن المؤشرات المستفادة من الحديث: المحافظة على الصلاة، والوضوء والذكر.

الفأل

الفأل قوْل أو فِعْل يُستبشر به، وضدّه شُؤْم، وهو ما يتفاءل به، والفأل والتفاؤل من التفكير الإيجابي الذي يدعو إليه علم النفس، فهو شعور يُعلم الفرد العيش بنظرة إيجابية، وأكثر ما يطلق عليه في المنهج النبوي حسن الظن، وهو من أهم مكونات السعادة في علم النفس، ويعد التفكير الإيجابي في السّنّة النبوية من المؤشرات المهمة لتحقيق السعادة الحقيقة، وقال ابْن عَبَّاس – رضي الله عنه – يصف النبي – صلى الله عليه وسلم  -: «كَانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَتَفَاءَلُ، وَيُعْجِبُهُ الِاسْمُ الْحَسَنُ»، وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ»، كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا سمع كلمة حسنة حملها على معنى يوافق، ولا يتشاءم، وكان يحب الاسم الحسن؛ لأن محبة الحسن من كل شيء من طباع ذوي الكمال، وقد كان يحول الاسم القبيح إلى الحسن، ليس من باب التشاؤم، ولكن لأن القبيح مكروه غير محبوب، وهذه الأمور من التفكير الإيجابي، وهو من أكبر أبواب السعادة، وأكثرها تأثيرا على انفعال الإنسان.

مؤشرات السعادة في السنة النبوية

إنّ السعادة كلمة قليلة الحروف كبيرة المعاني، ويبذل الناس في طلبها كلّ غالٍ، ويبحثون عنها في كل المجالات والطرق، ونجد الكثير-بل الأكثر- تعب في البحث عنها، وآخرون ظنّوها حلمًا أو كلمات على ورق، والحقيقة أنّ منهجها واضح في الإسلام، وأنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – دلّنا عليها، وكان منهجه – صلى الله عليه وسلم – منهج السلام والطمأنينة والسكينة، ومن اتبعه فاز بسعادة الدّارين. فماهي مؤشرات السعادة في السنة النبوية؟

سنبين منهجه – صلى الله عليه وسلم – في تحقيق سعادة الدّارين، السعادة التي تضفي على حياة العبد الفرح والسرور، والبشرى والانشراح، فهي سعادة حقيقة فاز بها كثير من العباد، على رأسهم النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم بإحسان.

الطريق الأمثل للسعادة

ففي اتباع منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة كلها الطريق الأمثل والسبيل الأوحد للشعور بالسعادة الحقيقية، وهذا الاتباع يؤدي إلى النضج الانفعالي والوجداني والاجتماعي والسلوكي، وإلى توافق الإنسان مع نفسه ومع العالم من حوله، ويزوده بالقدرة على تحمل مسؤوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات وابتلاءات، ومن ثم يتقبل العبد واقع حياته، ويحظى بمشاعر الرضا والطمأنينة والسرور، وفي هذا المنهج النبوي يحقق العبد ذاته، ويستغل قدراته وإمكاناته إلى أقصى حد ممكن، وتكون شخصيته متكاملة سوية، وسلوكه مستقيما منضبطا، ويعيش في سلام ضمن حدود الشرع وتعاليمه.

مؤشرات ومعايير

وللاستدلال على مؤشرات السعادة في السنة النبوية وسعادة الأفراد واتباعهم لمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة، هناك مؤشرات تشمل عوامل عدة ومعايير مستنبطة من السّنّة النبوية، وتتعلق سعادة العبد بمدى التزامه بهذه المؤشرات ومدى تأثيرها على سلوكه وانفعالاته، ويمكن تلخيص مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية إلى خمسة مؤشرات عامة، وهذه المؤشرات تشمل علاقة العبد بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين والمجتمع، وفيها بيان لدوافع العبد وحاجاته ورغباته، وفيها ضبط لانفعالاته وعواطفه وسلوكياته، وبالتزامها يستطيع العبد أن يَهنأ بحياة سعيدة طيبة.

تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين وأركانه

إن للإنسان دوافع نفسية وروحية لا ترتبط بسد حاجاته البدنية كالدوافع الفسيولوجية، ولا تتعلق بحفظ الذات وبقاء النوع، وإنما هي تسد حاجات نفسية وروحية، وهي حاجات أساسية للإنسان؛ لأن إشباعها يحقق له الحياة الآمنة المطمئنة السعيدة، والحرمان منها يؤدي إلى الحرمان من الأمن النفسي، وإلى الشقاء والقلق، والإنسان لديه استعداد فطري لمعرفة الله -تعالى- والإيمان به، قال -تعالى-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في بيان هذه الفطرة السوية: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، فالإنسان يولد ومعه هذا الاستعداد الفطري، الذي يحتاج إلى ما يظهره وينميه من تعليم وتوجيه وإرشاد، وهو ما يمثل الناحية البيئة المكتسبة التي تؤثر على أساس الفطرة السوية، وبهذا يتأكد أن تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين وأركانه من أهم الدوافع التي تؤثر على سلوك الإنسان، وتسد حاجة ضرورية في حياته، ويؤثر دافع العبودية لله -تعالى- على سلوك الإنسان الحركي واللفظي، وعلى نشاطه العقلي المعرفي، وعلى نشاطه الوجداني والانفعالي.

تحقيق الإيمان بالله -تعالى

لا يخفى على أحد أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على العبد في الدنيا والآخرة، بل إن الخير كله متوقف على تحقيق الإيمان الصحيح، فهو أجلّ المطالب وأنبل الأهداف والمقاصد، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشدائد والشرور، ويحظى بالسعادة والحبور، وينال ثواب الآخرة والنعيم المقيم والسرور، والخير الدائم الذي لا يحول ولا يزول، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النحل: 97).

الإيمان شرط في صحة الأعمال

وفي قوله -تعالى-: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بيان أن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، ولا تسمى الأعمال صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتضٍ لها؛ فإنّ التصديق الجازم مثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، ومن جمع بين الإيمان والعمل الصالح كانت له البشرى والحياة الطيبة؛ فقد علق الله -سبحانه- الحياة الطيبة السعيدة بتحقيق الإيمان في قوله -سبحانه-: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهذه الحياة الطيبة تحصل له بطمأنينة قلبه وسكون نفسه وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقًا حلالًا طيّبًا من حيث لا يحتسب، ويحصل له في الآخرة أحسن الجزاء من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويكون العبد بذلك قد فاز بالحياة الطيبة السعيدة في الدارين.

حديث عظيم

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، وقال – صلى الله عليه وسلم – في بيان أركان الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه»، وفي بيان الإحسان قال – صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وهذا حديث عظيم مشتمل على السعادة كلها، وعلى خيري الدنيا والآخرة، وفيه تحديد المعنى من الحياة، والغاية من الوجود، وفيه بيان حيوية المسلم ونشاطه في استغلال أوقاته في الأمر الذي وجد له، وفيه ضبط المسلم لنفسه وتهذيبها بالالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي، وفيه بيان للعلاج النفسي لكل أنواع العناء النفسي، فالإيمان الصادق أول علاج وأفضل سبيل للاطمئنان والسكينة، والصيام والحج من أقوى العلاجات وأكثرها فعالية في تدريب النفس وضبطها وكبح شهواتها في إطار الشرع، وفي الصيام والحج تعليق الفرح بالطاعة، وتعليق لأعياد المسلمين بعد تمام الطاعة؛ لأن الفرح الحقيقي مرتبط ارتباطا وثيقا بالطاعة وإنجازها.

وفي الحديث تربية للعبد على التسليم والرضا المصاحب لقوة الإيمان، ويقود العبد للسعادة في الدارين، وفيه دعوة للإحسان بأنواعه، فهو حديث مشتمل على فوائد عدة، ومن هذه الفوائد أنه مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، والقضاء والقدر، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان.

التصديق بالقواعد الشرعية

والإيمان هو التصديق بالقواعد الشرعية، وهو أصل كل سعادة وسرور، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي: أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى»، ففي الحديث بشرى عظيمة تجعل المؤمن في سكينة وطمأنينة، فمهما أخطأ العبد فإن له ربا كريما يغفر وبقبل التوبة الصادقة، وبذلك لا ينقطع الأمل، ولا تنقطع الحياة والإيجابية في حياة العبد المسلم.

المرتكب لجنس الكبيرة

وفي هذا الحديث دلالة على أن المرتكب لجنس الكبيرة من المسلمين يدخل الجنة، وليس فيه ما ينفي أنه يعذب قبل ذلك، كما أنه ليس في آية {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2) ما ينفي أنه قد يدخل الجنة بعد التعذيب على معصية الزنا، وهذا الحديث فيه بشرى من الله -تعالى- أن المؤمنين الذين حققوا شروط كلمة التوحيد يدخلون الجنة دار السعداء بفضل من الله ونعمته.

أثر الإيمان في تحقيق السعادة

 عند الحديث عن مؤشرات السعادة في السنة النبوية، نقول أن أول أركان الإيمان ومصدر كل سعادة وخير هو الإيمان بالله -تعالى-، أي الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق والرازق والمحيي والمميت، وأنه المستحق للعبادة دونما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل والخضوع وأنواع العبادات، وأنّ الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص، والعبد إذا آمن بهذه الأمور وحقق الإيمان، عاش في سكينة وطمأنينة، وفي هناء وسرور، فهو يعلم أن الله بيده كل شيء، وأنه الخالق والرازق، والذي له كل صفات العظمة -سبحانه-، وهذا الاعتقاد يجعل العبد يعيش في سلام مع نفسه وفي إيجابية، كونه حدد الهدف من حياته، ويقوده هذا الإيمان أيضا إلى الإيمان بباقي الأركان وإلى تطبيق شرائع الدين، والاستقامة على دين الهداية والسعادة والسلام، والإيمان بالله -تعالى- يشمل أربعة أمور، «الإيمان بوجوده -سبحانه-، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته».

أثر الإيمان بالملائكة في تحقيق السعادة

الايمان بأن لله ملائكة موجودين، وهم خَلق من خلقه، خُلقوا من نور، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلّا الله -عز وجل-، وهم كما وصفهم الله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (سورة الأنبياء: 26)، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بها كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسّنّة، كل ذلك له أُثر نفسي كبير على شخصية المسلم، فهم عباد مكرمون لا يعصون الله أبدا ويفعلون ما يؤمرون، وهم جند الله سخرهم للمؤمنين حفظة ولتثبيت المؤمنين، ولهم وظائف عدة، فعندما يشعر العبد أن الله -سبحانه- سخر الملائكة لمساندة المؤمنين وتثبيتهم تسعد نفسه بهذه الجنود الربانية وهذا الدعم الإلهي.

أثر الإيمان في الكتب السماوية في تحقيق السعادة

الإيمان بالكتب السماوية كلها، والتصديق الجازم بها، أحد جوانب الإيمان بالله -تعالى- وقدرته وحكمته، وتدبيره لأمور العباد، فهي من كلامه -سبحانه- حقيقة، وهي نور وهدى وهي حق منزل من الله، غير مخلوقة، وفيها سعادة العباد في الدارين، والقرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب السماوية السابقة وهو مخصوص من الله بالحفظ من التبديل والتغيير، وهو كلام الله المنزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، ويؤمن العبد به تفصيلًا، فتُصدَّق أخبارُه، وتُمتثل أوامرُه، وتجتنب نواهيه، ويُتعبَّد الله طبقًا لِما جاء فيه وفي سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فهو المعجزة الخالدة التي تُحدِّي بها أهل الفصاحة والبلاغة، ولهذا التصديق بهذه الكتب جملة وبالقرآن تفصيلا الأثر العظيم على العبد، والتأثير الكبير على سلوكه وانفعالاته، وفي ضبط عواطفه، وتزكية دوافعه، مما يسوقه للسعادة الحقيقة.

أثر الإيمان بالرسل -عليهم السلام- في تحقيق السعادة

الحديث عن السعادة في السنة النبوية يقودنا للقول أن الرّسل خير البشر، وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن أركان الإيمان التصديق الجازم بأنّ الله اصطفى رسلًا وأنبياء يهدون الناس إلى الحق ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، واقتضت حكمته -تعالى- أن يرسلهم إلى خلقه مبشّرين ومنذرين، فيجب الإيمان بهم جميعًا على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سمَّى الله منهم على وجه التفصيل، ويجب الإيمان بأنّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أفضلهم وخاتمهم، وأنّ رسالته عامة للثقلين ولا نبي بعده – صلى الله عليه وسلم -، وللإيمان بالرسل الكرام الأثر الكبير على شخصية المسلم واتزانه، فهم القدوة الحسنة وفي سيرهم أروع القيم والفضائل مثل الرضا، والصبر والإنجاز والتواضع، والأمانة، والإحسان، فهم خير البشرية الذين اختارهم الله لرسالاته.

أثر الإيمان باليوم الآخرفي تحقيق السعادة

الإيمان باليوم الآخر عقيدة مهمة، وسبب مهم من أسباب السعادة، فإذا تيقن العبد أن هذه الدنيا دار اختبار، والآخرة دار القرار، سعى في الطاعات، وجاهد نفسه على ملازمة الطاعة والاستقامة، فبمهما يجد العبد سعادة الدّارين، وقد جاء في الحديث الشريف: «فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».

وعندما يعتقد المؤمن أن هناك دارًا آخرة يجازي الله فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويغفر الله ما دون الشرك لمن يشاء، ويقر بكلِّ ما جاء في الكتاب والسّنّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، ويتيقن أن الله جعل الدُّورَ دارين دار الدنيا والدار الآخرة، حينها يتحقق له الرضا النفسي.

أثر الرضا بالقضاء والقدر في تحقيق السعادة

تسكن نفس العبد وتطمئن حينما يصدق بأنّ كلّ خير وشر هو بقضاء الله وقدره، وأنّ الله -تعالى- علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلًا قبل إيجادها ثمّ أوجدها بقدرته، ومشيئته على وِفق ما علمه منها، وأنّه كتبها في اللّوح المحفوظ قبل إحداثها، قال الله -عز وجل-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر: 49)، فالله -تعالى- علم بجميع الكائنات وأزمانها وأحوالها وأفعالها من خير أو شر، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما يصدر من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان وكفر، وأطلع الملائكة على أحوال الإنسان قبل ظهوره إلى هذه الحياة عندما أمر الملك أن يكتب عليه أقداره وهو لا يزال في بطن أمه.

والإيمان بهذه الأركان من أسباب السعادة؛ لأنّ تحقيق الإيمان متوقف على التصديق بكل أركان الإيمان، والمؤمن الحق الذي طلب السعادة ينشرح صدره لتعاليم الدين وقواعده، ويؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- : «بامتثال أمر الله ورسوله تدور السعادة في الدنيا والآخرة.

قال حمزة قاسم: «أفضل الأعمال على الإِطلاق الإِيمان بالله عقيدة وقولًا وعملًا؛ لأنّه أساس كل خير ومصدر كلّ سعادة، وشرط في قبول جميع الأعمال الشرعية، وصحتها شرعًا».

ويلحظ القارئ تكرار التأكيد على الإيمان عند شراح الحديث النبوي وهو ما يؤكد ويدل دلالة واضحة أنه لا سعادة دون إيمان، ولا إيمان دون سعادة، فمن آمن حق الإيمان تحصل له السعادة ولا ريب في ذلك.

السعادة من ثمرات تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين

تحدثنا في المقال السابق عن مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية، وقلنا: إنها خمسة مؤشرات عامة، تضم مؤشرات تفصيلية عدة، وهي: تحقيق الإيمان، وتطبيق شرائع الدين وأركانه، والتزام القيم الأخلاقية، وتحقيق النجاح في العلاقات الاجتماعية، والإنتاجية، والأنشطة والأهداف والاهتمامات، وأخيرًا ضبط النفس وتطويرها. واليوم نتناول تحقيق الإيمان، وتطبيق شرائع الدين وأركانه.

تحقيق الإيمان بالله تعالى

لا يخفى على أحد أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على العبد في الدنيا والآخرة، بل إن الخير كله متوقف على تحقيق الإيمان الصحيح، فهو أجلّ المطالب وأنبل الأهداف والمقاصد، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشدائد والشرور، ويحظى بالسعادة والحبور، وينال ثواب الآخرة والنعيم المقيم والسرور، والخير الدائم الذي لا يحول ولا يزول، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (سورة النحل: 97).

الإيمان شرط في صحة الأعمال

في قوله -تعالى- {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بيان أن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، ولا تسمى الأعمال صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتضٍ لها؛ فإنّ التصديق الجازم مثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، ومن جمع بين الإيمان والعمل الصالح كانت له البشرى والحياة الطيبة، فقد علق الله -سبحانه- الحياة الطيبة السعيدة بتحقيق الإيمان في قوله سبحانه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهذه الحياة الطيبة تحصل له بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقًا حلالًا طيّبًا من حيث لا يحتسب، ويحصل له في الآخرة أحسن الجزاء من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويكون العبد بذلك قد فاز بالحياة الطيبة السعيدة في الدارين.

السعادة الكاملة

وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”، وقال – صلى الله عليه وسلم – في بيان أركان الإيمان: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)، وفي بيان الإحسان قال – صلى الله عليه وسلم : “أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”.

وهذا حديث عظيم مشتمل على السعادة كلها، وعلى خيري الدنيا والآخرة، وفيه تحديد المعنى من الحياة، والغاية من الوجود، وفيه بيان حيوية المسلم ونشاطه في استغلال أوقاته في الأمر الذي وجد له، وفيه ضبط المسلم لنفسه وتهذيبها بالالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي، وفيه بيان للعلاج النفسي لكل أنواع العناء النفسي، فالإيمان الصادق أول علاج وأفضل سبيل للاطمئنان والسكينة، والصيام والحج من أقوى العلاجات وأكثرها فعالية في تدريب النفس وضبطها وكبح شهواتها بإطار الشرع، وفي الصيام والحج تعليق الفرح بالطاعة، وتعليق لأعياد المسلمين بعد تمام الطاعة؛ لأن الفرح الحقيقي مرتبط ارتباطا وثيقا بالطاعة وانجازها.

أثر الإيمان بالله في تحقيق السعادة

وأول أركان الإيمان ومصدر كل سعادة وخير هو الإيمان بالله -تعالى-، أي الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق والرازق والمحيي والمميت، وأنه المستحق للعبادة دونما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل والخضوع وأنواع العبادات جميعها، وأنّ الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص. والإيمان بالله -تعالى- يشمل أربعة أمور: الإيمان بوجوده -سبحانه-، الإيمان بربوبيته، الإيمان بألوهيته، الإيمان بأسمائه وصفاته.

أثر الإيمان بالملائكة في تحقيق السعادة

والايمان بأن لله ملائكة موجودين، خَلق من خلقه، خُلقوا من نور، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلّا الله -عزَّ وجلَّ-، وهم كما وصفهم الله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} (سورة الأنبياء: 26)، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بها كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسّنّة، هذا الإيمان له الأُثر النفسي الكبير على شخصية المسلم، فهم عباد مكرمون لا يعصون الله أبدا ويفعلون ما يؤمرون، وهم جند الله سخرهم للمؤمنين حفظة ولتثبيت المؤمنين، ولهم وظائف عدة، فعندما يشعر العبد أن الله -سبحانه- سخر الملائكة لمساندة المؤمنين وتثبيتهم تسعد نفسه بهذه الجنود الربانية وهذا الدعم الإلهي.

أثر الإيمان بالكتب السماوية في تحقيق السعادة

الإيمان بالكتب السماوية كلها، والتصديق الجازم بها، أحد جوانب الإيمان بالله -تعالى- وقدرته وحكمته، وتدبيره لأمور العباد، فهي من كلامه -سبحانه- حقيقة، وهي نور وهدى وهي حق منزل من الله، غير مخلوقة، وفيها سعادة العباد في الدارين، والقرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب السماوية السابقة وهو مخصوص من الله بالحفظ من التبديل والتغيير، وهو كلام الله المنزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويؤمن العبد به تفصيلًا، فتُصدَّق أخبارُه، وتُمتثل أوامرُه، وتجتنب نواهيه، ويُتعبَّد الله طبقًا لِما جاء فيه وفي سنّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فهو المعجزة الخالدة التي تُحدِّي بها أهل الفصاحة والبلاغة، ولهذا التصديق بهذه الكتب جملة وبالقرآن تفصيلا الأثر العظيم على العبد، والتأثير الكبير على سلوكه وانفعالاته، وفي ضبط عواطفه، وتزكية دوافعه، مما يسوقه للسعادة الحقيقة.

أثر الإيمان بالرسل في تحقيق السعادة

الرّسل هم خير البشر، وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن أركان الإيمان التصديق الجازم بأنّ الله اصطفى رسلًا وأنبياء يهدون الناس إلى الحق، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، واقتضت حكمته -تعالى- أن يرسلهم إلى خلقه مبشّرين ومنذرين، فيجب الإيمان بهم جميعًا على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سمَّى الله منهم على وجه التفصيل، ويجب الإيمان بأنّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أفضلهم وخاتمهم، وأنّ رسالته عامة للثقلين ولا نبي بعده – صلى الله عليه وسلم  -، وللإيمان بالرسل الكرام الأثر الكبير على شخصية المسلم واتزانه، فهم القدوة الحسنة، وفي سيرهم أروع القيم والفضائل مثل الرضا، والصبر والإنجاز والتواضع، والأمانة، والإحسان، فهم خير البشرية الذين اختارهم الله لرسالاته.

أثر الإيمان باليوم الآخرفي تحقيق السعادة

الإيمان باليوم الآخر عقيدة مهمة، وسبب مهم من أسباب السعادة، فإذا تيقن العبد أن هذه الدنيا دار اختبار، والآخرة دار القرار، سعى في الطاعات، وجاهد نفسه على ملازمة الطاعة والاستقامة، فبمهما يجد العبد سعادة الدّارين، وقد جاء في الحديث الشريف: «فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ». وعندما يعتقد المؤمن أن هناك دارًا آخرة يجازي الله فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويغفر الله ما دون الشرك لمن يشاء، ويقر بكلِّ ما جاء في الكتاب والسّنّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، ويتيقن أن الله جعل الدُّورَ دارين دار الدنيا والدار الآخرة، حينها يتحقق له الرضا النفسي.

أثر الرضا بالقضاء والقدر في تحقيق السعادة

تسكن نفس العبد وتطمئن حينما يصدق بأنّ كلّ خير وشر هو بقضاء الله وقدره، وأنّ الله -تعالى- علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلًا قبل إيجادها ثمّ أوجدها بقدرته، ومشيئته على وِفق ما علمه منها، وأنّه كتبها في اللّوح المحفوظ قبل إحداثها، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر: 49)، فالله -تعالى- علم بجميع الكائنات وأزمانها وأحوالها وأفعالها من خير أو شر، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما يصدر من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان وكفر، وأطلع الملائكة على أحوال الإنسان قبل ظهوره إلى هذه الحياة عندما أمر الملك أن يكتب عليه أقداره وهو لا يزال في بطن أمه. والإيمان بهذه الأركان من أسباب السعادة؛ لأنّ تحقيق الإيمان متوقف على التصديق بكل أركان الإيمان، والمؤمن الحق الذي طلب السعادة ينشرح صدره لتعاليم الدين وقواعده، ويؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به.

تحقيق الإيمان بكل أركانه من أهم مؤشرات سعادة الفرد في الدنيا والآخرة

بعد عرض أحاديث السعادة في السّنّة النبوية، واستنباط مفهوم السعادة ومكوناتها، يمكن تحديد مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية، وهي كثيرة، ويمكن جمعها في خمسة مؤشرات عامة تضم مؤشرات تفصيلية عدة: تحقيق الإيمان، وتطبيق شرائع الدين وأركانه، والتزام القيم الأخلاقية، وتحقيق النجاح في العلاقات الاجتماعية، والإنتاجية، والأنشطة والأهداف والاهتمامات، وأخيرًا ضبط النفس وتطويرها.

تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين

أصبح من الواضح أن كل نتائج الدراسات تؤكد باستمرار حقيقة أن الناس المتدينين يبدون أكثر سعادة وأكثر رضا في حياتهم من غير المتدينين، وهناك عامل يؤكد الصلة بين الدين والسعادة وهو أن الدين يزرع الأمل في المستقبل ويعطي للحياة معنى، ويعد تحقيق الإيمان بأركانه وتطبيق شرائع الدين وأركانه، من أهم المؤشرات التي تؤثر على مستوى سعادة الفرد، فالإيمان يجعل لحياة العبد معنى وهدفًا ساميُا، ويحدد للعبد المغزى من وجوده، وما يجب عليه القيام به في حياته، فإن العدو الأكبر للسعادة الضياع والملل، فإذا لم يكن للإنسان معنى من وجوده تخبط أيما تخبط، وتكبد الضياع والشقاء، ولا سبيل للبعد عن هذا الشقاء إلا بالإيمان الصادق اعتقادا وقولا وعملا على منهج النبي – صلى الله عليه وسلم -، منهج السعادة الحقيقية.

التزام القيم الأخلاقية

إن القيم والفضائل من الأمور التي يتفق عليها كل عاقل وحكيم، وعلى ضرورة وجودها في حياة الفرد كي يكون سعيدا، لكن في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – عرض للقيم من وجه أكثر تحديدا، وأدق توجيها، بأسهل طريق للوصول إلى الحياة السعيدة.

تحقيق النجاح في العلاقات الاجتماعية

الإنسان بطبعه يحب الألفة والاجتماع، ويحب الود والاهتمام، وهذه الأمور تؤدي به إلى الإشباع الموصل للسعادة، وفي سنة الحبيب – صلى الله عليه وسلم – اهتمام بالجانب الاجتماعي للعبد من كل الجوانب: سواء ما كان مع شريك حياته، أو أبنائه وأسرته، أو أبويه وأقاربه، أو مجتمعه بأكمله، وسيأتي تفصيل ذلك -بإذن الله.

العمل والإنتاجية والأنشطة والأهداف

يعد العمل مرغوبا بوصفه وقاية من الملل، وهو يحقق قدرا كبيرا من الإشباع، وممارسة نشاط أو صنعة أو صقل موهبة، والاستغراق في هواية، وأن يكون للفرد اهتمامات واسعة، وردود أفعال ودية، وإمكانية ملء وقت الفراغ بذكاء، كل هذه مؤشرات تجعل الحياة أكثر سعادة وأكثر حيوية، والفراغ والملل أمور تحارب السعادة، والسّنّة النبوية جاءت بتعاليم تضفي لحياة العبد الحيوية والنشاط، والإحساس بالإنجاز والنجاح؛ حيث الحث على العمل والعمل التطوعي والاهتمامات القيمة، وغيرها من الأمور.

ضبط النفس وتطويرها

أكد علماء النفس على عنصر أساس من عناصر السعادة وهو ضبط النفس، «فيمكن لكل إنسان زيادة مشاعر السعادة وتقليل مشاعر الشقاء بإرادته في مجاهدته لنفسه لكي تكون متفائلة وراضية، وقد ميز الله الإنسان بالعقل، والقدرة على ضبط النفس وتطويرها، وعلمنا الحبيب – صلى الله عليه وسلم – كيف يمكن للعبد أن يضبط نفسه، وكيف له أن يطورها، وتعد قدرة العبد على ضبط نفسه وقيادتها من المؤشرات المؤثرة في سعادته، وتعد الصحة من المكونات المهمة للشعور بالهناء وهي بحق أحد عناصره الموضوعية وترتبط ارتباطا وثيقا بالسعادة.

هذه مجمل مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية التي وقفت عليها، وهذه المؤشرات تؤثر على مستوى سعادة الفرد والمجتمع، فالمجتمع أنا وأنت وعائلتي وعائلتك، ومعارفي ومعارفك، ومتى سرنا جميعا في طريق السعادة تحققت السعادة للمجتمع بأكمله، فالسعادة تبدأ من الفرد أولا، والمناخ والعرق والنوع والطبقة والمال ليس لهم تأثير قوي على السعادة.

قياس السعادة

 تبين في مباحث علم النفس أن السعادة تقاس من خلال سؤال الأشخاص عن سعادتهم باعتبارات عدة، وفي السّنّة النبوية السعادة أمر يختص بين العبد وربه، فلا يمكن قياسه على وجه دقيق، لكن يمكن وضع مقياس تصوري للسعادة؛ بحيث يستطيع الإنسان من خلاله تفقد نفسه ومحاسبتها، مع قيادتها نحو طريق السعادة الحقيقية في اتباع منهج النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبناء على المؤشرات السابقة المستخلصة من السّنّة النبوية، وضعت مقياسا للسعادة في السّنّة النبوية، وبنيت هذا المقياس على اعتبارات ومعايير عدة، ومن خلال تطابق هذه العبارات مع حياة المؤمن يستطيع قياس مدى سعادته، وحظه منها.

 مقياس تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين

– أعتقد اعتقادا جازما بأن الله -سبحانه- هو رب كل شيء، وهو الخالق المستحق للعبادة دونما سواه.

– أعتقد بأن النبي محمدا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بدين الهداية والسعادة الحقيقية.

– أؤمن بما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم.

– أشعر أن الإيمان يملأ قلبي رضا وراحة وطمأنينة.

– أحرص على تطبيق شرائع الإسلام وأركانه.

– أحافظ على صلاتي التي بها راحتي وصلاحي ومناجاة خالقي.

– أحافظ على وردي من القرآن الكريم.

– عند سماع القرآن أو قراءته تطمئن نفسي وتسكن.

– أشعر أن لحياتي معنى لإيماني بالله واتباعي لمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم .

– أعتقد بوجود دار آخرة أحاسب فيها.

مقياس تطبيق القيم الإسلامية

– ألتزم بالقيم الأخلاقية الإسلامية.

– أراقب الله في حياتي كلها.

– أنا راض عن حياتي، راض بقضاء الله، أشعر براحة في كل أموري.

– أحافظ على الأذكار الإسلامية في حياتي.

– أشعر بالرضا عن حياتي، ولدي الهمة لأكون أفضل.

– غالبا ما أجدد نفسي، وأحاسبها، وأقودها للأفضل.

– أعمل جاهدا، لأفوز بالجنة دار السعداء ونعيمها.

– أتوكل على الله في كل أموري، وأستشعر معية الله للمحسنين.

– أحاول تحقيق الإحسان بأنواعه.

– أنا متفائل جدا، وأعلم أن الله مع المؤمنين.

– أشعر بسعادة ورضا لإيماني القوي بالله.

– أحرص على فعل الخيرات، والأعمال الصالحة.

– لدي مبادئ وقيم وأهداف فضيلة أسعى لتحقيقها.

مقياس تحقيق النجاح في الحياة الاجتماعية

– لدي مشاعر ودية اتجاه معظم الناس.

-أحب الخير للناس مثلما أحبه لنفسي.

– يصفني الناس بأنني شخص معطاء.

– أستمتع بتبادل الحديث مع أسرتي وأصدقائي والآخرين.

– أنا سهل في معاملاتي كلها، لين، سمح.

– أعامل الناس كما أحب أن أعامل.

– أساعد الناس، وأنفق من مالي، وأحب خدمة الآخرين.

مقياس الحرص على العمل والإنتاجية

– لدي مصدر دخل يكفيني -بفضل الله.

– أنا فرد منتج، أحب العمل والإنتاجية.

– أحقق أهدافي، وأمارس هواياتي وأنشطتي في الحياة ضمن حدود الشرع.

– دائما ما أكون منشغلا بشيء له قيمة.

مقياس القدرة على ضبط النفس وتطويرها

– الحياة بالنسبة لي طيبة جميلة، وهي سبيلي إلى الجنة.

– عندما أقارن نفسي مع الأقل مني أشعر بالرضا عن حياتي.

– أستطيع إيجاد الوقت المناسب لما أريده.

– أشعر أنني متحكم في أمور حياتي وأديرها بطريقة جيدة.

– أستطيع ضبط نفسي، ولدي إرادة قوية.

دائما ما أرى الأمور بنظرة إيجابية، لإيماني القوي بالله -تعالى.

أساس السعادة والراحة الإيمانية.. الشـعـور بالرضا

بعد عرض الأحاديث الصحيحة التي تحمل لفظ السعادة، والألفاظ المرادفة للسعادة، والسياق الدال على السعادة، وبعد دراستي للسعادة في علم النفس، ودراستي وبحثي في السّنّة النبوية عن كل ما يتعلق بالسعادة، وجدت عناصر للسعادة كثيرة ومتنوعة، تشمل الإنسان وعلاقاته كلها بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وتشمل الجانب الدنيوي والأخروي، والجانب النفسي والجسدي، وتشمل العقيدة والأعمال والقيم والسلوكيات، فالسعادة طريق حياة، وليست مجرد لفظة عادية.

وقد دلت أحاديث السعادة على: ضرورة تحقيق الإيمان بالله -تعالى-، والرضا النفسي، واجتناب الفتن، والتحلي بالقيم، والتوازن بالحاجات المعنوية والجسدية، والتفاؤل والعمل الصالح، ودلت مرادفات السعادة في السّنّة: على ضرورة تحقيق الأمان بأنواعه، وعلى التفكير الإيجابي، وعلى ضرورة وجود انفعالات إيجابية في حياة الفرد ليكون سعيدًا، وعلى السلامة في كل الأمور، والرضا، والبشرى، والفرح والسرور، والخير والتوفيق والبركة والنعيم وغيرها من الأمور الإيجابية التي تحصل للعبد وتحقق له السعادة.

معنى جامع لمفهوم السعادة

ومن خلال هذه المعاني يمكن الوصول إلى معنى جامع لمفهوم السعادة في السّنّة النّبويّة، وفيما يلي محاولة تسجيل تعريف للسعادة، ففي الحقيقة خلال كتابتي للدراسة وجدت إشكاليّة كبرى عند الناس عمومًا في تحديد معنى السعادة، وفي المقابل وجدت إقبالًا كبيرًا منهم للبحث عنها، وقد وجدتها واضحة في منهج النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعلماء الإسلام بيّنوا طريقها من خلال القرآن والسّنّة وتكلّموا عنها، لكن لم يحدّدوها بتعريف خاص، وهنا أحاول تسجيل تعريفٍ لها مستفيدة من منهج النبي – صلى الله عليه وسلم-، ومن كلام العلماء في بيانها فيمكن القول إن السعادة: هي حصول الرضا المصاحب للإيمان بالله -تعالى-، وتطبيق منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة الدنيا، للفوز بالجنة في الآخرة.

الشعور بالرضا أساس السعادة

وقد لخصت مفهوم السعادة بهذا التعريف؛ لأن الشعور بالرضا أساس السعادة والراحة وكل المشاعر الإيجابية، وقد أكد على ذلك علماء النفس، وهذا الرضا لا يحصل للعبد إلا إذا صاحب ذلك إيمان قوي واتباع لمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في كل الأمور، وبالإيمان واتباع منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – يجمع العبد الدين والخير كله في الدنيا والأخرة، وعلى العبد الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في التوسط والأخذ بالحاجات الروحية والجسدية حتى يملأ حياته بالنشاط والحيوية، والمؤمن الحق يعلم أن الدار داران، وأن السعادة سعادتان، فلا تقف سعادته على حصول الرضا والطمأنينة في الدنيا، وإنما تمتد للآخرة بالفوز بالجنة ونعيمها الشامل لأنواع الملذات وأطيبها.

الرضا المؤدي للطمأنينة والسكينة

أساس السعادة الرضا، فالإنسان يشعر بذلك في نفسه حينما يكون راضيًا عن أموره كلّها ما يسرّه وما يسوؤه، فهو هنا حاز الرضا التام لقربه من خالقه ومعرفته أنّ الله لن يضيّعه؛ لأنّه -سبحانه- أرحم بنا من أمهاتنا، فكل ما قدره الله علينا هو خير لنا، وهنا يحقق العبد قيمًا تعبديّة وإيمانيّة، كالتوكّل والصبر والإخلاص وحسن الظن بالله -تعالى-، وعندما يصل العبد إلى هذه الدرجة من الرضا يسكن قلبه ويمتلئ طمأنينة وانشراحًا وحبورًا، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».

فالإنسان الذي يوجه نفسه نحو غايتها التي خلقت من أجلها يحظى بالرضا والسكينة، كما جاء في قوله -عز وجل-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (الذاريات: 56) فدافع العبودية يؤثر على انفعال العبد وعلى سلوكه، وهذا ما تعجب منه – صلى الله عليه وسلم- في الحديث، والمؤمن الذي يتمتع بهذه الخصوصية، يعلم أن أمره كله خير في حالة السراء والضراء، وهو دائر في إدارة انفعاله بين الشكر لله -تعالى-، إقرارًا بفضله فيملك نفسه عند الفرح والسرور، ولا يغتر بنفسه ولا يفتخر بقدراته على الآخرين، وكذلك يصبر في حالة الضراء فيتكيف مع الحزن والاكتئاب؛ لأن أمره إلى خير بالأجر والثواب من عند الله -تعالى-، وهذا ما يوصله لدرجة الرضا النفسي والسكينة والطمأنينة.

الإيمان بالله -تعالى

وهذا الرضا لا يأتي من فراغ، بل من قوة الإيمان التي يحققها العبد، عقيدة وقولا وعملا، فيحقق العبد الإيمان بأركانه ويطبق شرائع الدين وأركانه، ويستقيم على هذا الطريق، ونتيجة لهذا الإيمان القوي يكون قريبا من الله -تعالى-، وأيّ سعادة بعد سعادة العبد بقربه من الله -عز وجل-؟ فمن أحبّه الله نشر محبته في الأرض، ورزقه من حيث لا يحتسب، وقربه إليه -سبحانه-، وهذه منزلة عالية إذا وصل العبد إليها وصل قلبه إلى أعلى درجات الرضا والسعادة، والعبد إذا تعلق قلبه بالخالق العظيم، والرب المالك، والإله الواحد الذي بيده كل شيء، فهو هنا يزداد عزة وقوة بخالقه، ألا ترى الموظف يفرح بقربه من المدير؟، والمحب يفرح بقرب حبيبه؟ ولله المثل الأعلى -سبحانه وعز وجل.

فالله -سبحانه- مدبر الكون، وبيده كل شيء، وهو الأول والآخر، والخالق والرازق والحافظ والرحمن الرحيم، والقادر الجبار القهار، وهو الغني -سبحانه-، له كل صفات الكمال التي تستدعي حبه والتعلق به -سبحانه وتعالى-، وإذا استشعر العبد ذلك، وخضع لله -سبحانه-، وحقق الإيمان قولا وعملا، فإنه هنا يركن إلى مالك عظيم، وإله عليم، وهذا الشعور الذي يتكون في قلبه من التعلق بالله -تعالى- يعطيه قوة وانشراحا وطمأنينة، ينتج عنها فرح وسرور بالمحبوب الأعظم الرب- تبارك وتعالى-، ولا يحصل للعبد هذا القرب إلا بالاستقامة على الدين، والطاعة، والرضا بكل أقدار الله، والسير على نهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة، فمن أراد راحة القلب، وطمأنينة الروح، فعلية بمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم -، والاستقامة في الدين تشمل تحقيق الإيمان، وتطبيق أركان الإسلام وشرائع الدين، والالتزام بالقيم الإسلاميّة، ومعاهدة العبد لإيمانه بالتوبة والمحاسبة، فيستقيم للمرء بهذا دينه ودنياه، ويصل إلى السعادة الحقيقية في دخول الجنة يوم القيامة.

كلمة طيبة

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ» كلمة طيبة، هي أصل سعادة العبد ونجاته، وفي تحقيق شروطها كل الفرح والسرور، والرضا والطمأنينة، وفيها النجاة من النار والخلود في الجنات والنعيم المقيم، عندما يقولها العبد موقنا بها عاملا بمقتضاها يشعر بانشراح كبير، وراحة عظيمة، ويشعر بالإيجابية والتفاؤل، لما لهذه الكلمة من التأثير العظيم على نشاط العبد الذهني والوجداني، وعلى سلوكه وانفعالاته، إن شأن الإيمان عظيم، وهو أصل كل السعادات والهنا، وجزم – صلى الله عليه وسلم – أن من حقق الإيمان وجد الحلاوة والسعادة: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

اتباع منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في كل جوانب الحياة في الدنيا

قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: «إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم ».

خير منهج منهجه وأحسن هدي هديه – صلى الله عليه وسلم -، فيه الحكمة والطمأنينة والهداية والتوسط، فمن أراد السعادة عليه باتباع منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في كل شيء، وقد حاولت جاهدة تتبع منهجه – صلى الله عليه وسلم – وتتبع جوانب السعادة في الحياة وأفردت لها فصلًا كاملًا، وقد جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – برسالة عالمية، تشمل الفرد وأسرته ومجتمعه، والسعادة الحقيقيّة تكون بتتبع العبد منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجوانب والاعتبارات كلّها حتى يحظى بسعادة متكاملة.

الفوز بالجنة في الآخرة

قال رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُم، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ»، فالدنيا ممر والآخرة مستقر، الدنيا طريق الآخرة، وسعادة الدنيا موصلة للجنة دار السعادة، فمن أراد الخلود في دار السعداء مع النبيين والصديقين والشهداء والأبرار فعليه بمنهج السعادة الحق، ليصل إلى الدار الباقية وينعم فيها أيّما نعيم.

قال القسطلاني في قوله -تعالى-: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} (سورة يونس: 9) «أي يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة فجعل تجري من تحتهم الأنهار بيانًا له وتفسيرًا؛ لأنّ التمسّك بسبب السعادة كالوصول إليها»، وقال الزمخشري في تفسير قوله -تعالى-: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} (هود: 105) «والشقي الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه».، وهذا تقرير واضح أن السعادة الحقيقية هي التي توصل العبد إلى الجنة دار السعداء، التي فيها النعيم المقيم.

السعادة من ثمرات تطبيق شرائع الدين وأركانه

جاء في الحديث الشريف أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه، بني الإسلام على خمس دعائم، شهادة أن لا إله إلاّ الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة أي المداومة عليها، والمراد الإتيان بها بشروطها وأركانها، وإيتاء الزكاة أي إعطائها مستحقيها بإخراج جزء من المال على وجه مخصوص، والحج إلى بيت الله الحرام، وصوم شهر رمضان.

سعادة الدنيا والآخرة

بيّن الحديث أنّ أركان الإسلام التي فيها سعادة الدنيا والآخرة خمس، على العبد أن يحرص على أدائها كما علّمنا إياها الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين، وعليه اعتماده، وقد جمع أركانه في لفظ بليغ وجيز.

دعائم بنيان الإسلام خمس

قال ابن رجب: والمقصودُ تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيانُ من دونها، وبقيةُ خصالِ الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء، نقص البنيانُ وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك، بخلاف نقضِ هذه الدعائم الخمس؛ فإنَّ الإسلام يزولُ بفقدها جميعِها بغير إشكالٍ، وكذلك يزولُ بفقدِ الشهادتين، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله.

كلمة السعادة الحقيقية

مفهوم الشَّهادَة : أي الخَبرُ القاطعُ، والشهادة هنا بمعنى: الإقرار بكلمة التوحيد، (وهي قولنا: لا إله إلا الله) وتسمّى العبارة (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) الشهادتين، فإنّ معنى الشهادة هنا هو الإعلام والبيان لأمر قد علم والإقرار والاعتراف به، وسمّي النطق بالشهادتين بالتشهّد، وهو صيغة (تفعّل) من الشهادة، والشَّهادتان عَلَمُ الإسلام، وبهما يصيرُ الإنسان مسلمًا، وهما أصل كل سعادة، وبهما يبتدأ العبد بتحقيق منهج السعادة الحقيقية، والشهادتان مِنْ خصالِ الإسلامِ بغير نزاعٍ، وليسَ المرادُ الإتيان بلفظهما دونَ التَّصديق بهما، فعُلِمَ أنَّ التّصديقَ بهما داخلٌ في الإسلام.

 بشرى للمسلمين

قال أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه -: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، وَمَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَبَشِّرُوا مَنْ وَرَاءَكُمْ، أَنَّهُ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – نُبَشِّرُ النَّاسَ، فَاسْتَقْبَلَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَجَعَ بِنَا إلى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَتَّكِلَ النَّاسُ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم » صححه الألباني، في الحديث بشرى للعباد أنّ من حقّق الشهادتين بصدق دخل الجنة دار السعداء، وقد قيّد الحديث تحقيقها بصدق بخلاف القول فقط.

 سبب لدخول الجنة

وقال الرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا» رواه البخاري، وهذا حديث آخر فيه بشرى للمسلمين أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة إمّا قبل دخوله النار أو بعده بفضل الله ورحمته، واقتصر الحديث على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ولم يذكر إثبات الرسالة؛ لأنّ نفي الإشراك يستدعي إثباتها للزوم أنّ من كذّب رسل الله فقد كذّب الله ومن كذّب الله فهو كافر، والمراد من لقي الله موحّدًا بسائر ما يجب الإيمان به، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أخاف أن يتّكلوا» أي أخاف اتكالهم على مجرد التوحيد.

 الصلاة طمأنينة القلب

الصلاة صلة بين العبد وربه، يجد العبد فيها لذة وراحة، ويشعر بقرب من الرحمن وانشراح إن أدّاها أداءً صحيحًا بشروطها وأركانها وواجباتها، مع تحقيق الخشوع والطمأنينة حتى يحظى بسعادة الدّارين.

وللصلاة تأثير كبير وفعال في علاج الإنسان من الهم والقلق، وبث الهدوء والسكينة في النفس، فوقوف الإنسان أمام ربه في خشوع واستسلام وفي تجرد كامل عن مشاغل الحياة ومشكلاتها، يبعث الهدوء والاطمئنان، ويقضي على القلق وتوتر الأعصاب الذي أحدثته ضغوط الحياة، وقد كان هذا هديه – صلى الله عليه وسلم – مع الصلاة حتى سماها راحة كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ يَا بِلَالُ، فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ». صححه العلامة الألباني

 المحافظة على الصلاة

قال عبد الله بن مسعود: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ – صلى الله عليه وسلم – سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مَنْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفّ». رواه مسلم

في هذا الأثر بيان أنّ المحافظة على الصلاة سبب للسرور والسعادة الحقيقية للعبد حينما يلقى الله -تعالى-؛ حيث إنّ الصلاة صلة بين العبد وربه في الدنيا؛ فإذا أدّاها العبد صحيحة الأركان، حاضر القلب ومطمئن الجوارح، كانت له راحة وسكنا من هموم الدنيا، وقرّبته من الله -تعالى-، وجلبت له كل خير ورزق، وإذا صلحت صلاته صلحت حياته وسعد، ومن ثمّ فاز بالنعيم الأبدي في الآخرة.

 الزكاة طهرة للأموال والأبدان

الزكاة تطهير لمال العبد وبدنه، وفيها تدريب للعبد على العطاء والرحمة والإحساس بالآخرين، وفي وجوبها حكمة عظيمة، ومن أدّاها حصلت له السعادة والطمأنينة والبركة في الرزق والحياة، والزكاة طهرة لقلب العبد، تعلمه أن سعادته بإسعاد الآخرين، فمتى حرص العبد على إسعاد غيره، تحققت له السعادة، وصفات الرحمة والتعاون والعطاء صفات راقية ترقى بالعبد من دناءة الدنيا إلى نعيم القلب وراحته وسعادته، وهذا أمر مجرّب ومشاهد في الحياة، فمن أسعد غيره حصلت له الراحة والسرور.

قال أَبو أُمَامَة: «سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي أُمَامَةَ: مُنْذُ كَمْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – هَذَا الْحَدِيثَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً».صححه الألباني

وسياق هذا الحديث يدلّ على أن سعادة المرء وفوزه بالجنّة معلق بتقوى الله، وأداء هذه الأركان، ولا يدل الحصر عليها فقط، فهناك أمور أخرى لم تذكر في الحديث، إنّما جاء الحديث في ذكر بعض الأعمال التي يترتب عليها الجزاء بدخول الجنة دار القرار.

الحجّ عبادة عظيمة وتربية ربانية

الحج من أكثر العبادات التي تجعل روح العبد ترفرف سعادة وحبورًا؛ فهو في بيت الله الحرام، يؤدي عبادات جليلة فيها تعظيم للرب- سبحانه-، وفيها تأكيد عقيدة المسلم، وفيها توبة للعبد، ومشاركة مع المسلمين، ففي الحج أعمال كثيرة تؤدّي إلى السعادة الحقيقية، فقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» متفق عليه، وجاء هنا لفظ الإيمان نكرة ليشعر بالتعظيم والتفخيم، أي التصديق المقارن بالإخلاص المتبع للأعمال الصالحة، والمبرور من البر، وهو هنا بمعنى المقبول أو لم يخالطه إثم أو لا رياء فيه أو لا تقع فيه معصية.

الصبر على تحمل المشاق

والحج يعلم الناس الصبر على تحمل المشاق، ويدربه على جهاد النفس والتحكم في شهواتها وأهوائها، ويعالج الحج الكبر والزهو والعجب بالنفس، والتعالي على الناس، ويقوي رابط المحبة والأخوة الإسلامية، ويبث مشاعر السكينة والطمأنينة والسرور والانشراح والسعادة، وقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «الْحَجَّةُ الْمَبْرُورَةُ لَيْسَ لَهَا جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» صححه الألباني، الإنسان حينما يؤدّي الحج أو العمرة يشعر بسعادة تشع قلبه، ونور وبركة وتزكية، فلا عجب أن تكون زيارة البيت الحرام سببًا أصيلًا لسعادة المرء.

الصيام دربة للعبد على ضبط النفس

من فضائل الصوم إصلاح الغريزة، وترويضها على الوقوف عند حدود الشرع والعقل، والالتزام بمنهج الدين وتقوية الإِرادة، وسدّ مداخل الشيطان، وفيه تربية للنفس، وإحساس بالآخرين، ما يؤدّي إلى تحقيق السعادة النفسيّة في الدنيا بضبط النفس ومجاهدتها، والنجاة من النار في الآخرة والوصول لدار السعداء جزاء للأعمال الصالحة.

فضيلة الصيام

وفي فضيلة الصيام قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» متفق عليه، ومعنى الصوم جنّة أنه يستر من الآثام أو من النار، أو من جميع ذلك، ومن مزاياه مضاعفة حسنات الصائمين بغير حساب، وهو معنى «وأنا أجزي به» أي أضاعف الثواب عليه بلا حدود؛ لأنّ الاستثناء يدلّ على أنّ مضاعفة أجر الصيام لا حدّ له.

وللصيام فوائد عدة: فهو يقوي الإرادة، وينمي القدرة على التحكم في شهوات النفس وأهوائها، وفيه تدريب للإنسان على تحمل الحرمان والصبر عليه، وفي ذلك إعداد له لتحمل ما يمكن أن يتعرض له في الحياة من أنواع الحرمان المختلفة.