لم يكن مصطلح البيع بالتقسيط معروفًا عند علماء الشريعة والفقه الإسلامي قبل القرن الحالي الذي عُرف وشاع فيه هذا النوع من البيع. ومن البديهي -والأمر كذلك- ألا يكون للمصطلح وجود في كتب الحديث النبوي، وهي أحد المصادر الرئيسية التي يستقي منها الفقه أحكامه.
ولما كان الأمر كذلك اقتضى أن نبين المَواطن، وأن نشير إلى المظانّ التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها في مصادر الحديث والفقه.. ففي كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في المواطن التالية:
أولاً: حديث نهي النبي -ﷺ- عن بيعتين في بيعة.
ثانيًا: حديث نهي النبي -ﷺ- عن صفقتين في صفقة بألفاظ مختلفة.
ثالثًا: الأحاديث التي تتضمن نهي رسول الله -ﷺ- عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع سلف.
فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث أن يبيع الرجل السلعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا.. وهذا المعنى يُعتبر أصل مسألة بيع التقسيط.
أما في كتب الفقه الإسلامي فنجد أصل مسألة بيع التقسيط يرد تحت عنوان “البيوع الفاسدة” أو “البيوع المنهي عنها” في كتب البيوع، أو في باب “بيوع الآجال”.. فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهي عنها البيوع التي ذُكرت آنفا في كتب الحديث، وبيان الفقهاء لمعاني تلك الأحاديث التي تتضمن الصورة التي أسلفت، وهي أن يقول البائع للمشتري: هذه السلعة حالا بكذا، ومؤجلا بكذا، ومن ثم فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستوجب الخطوات التالية:
1- ذِكْر الأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة.
2- إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح.
3- إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند حديثهم عن البيوع المنهي عنها.
4- استخلاص علة تحريم هذه البيوع كما وردت صريحة في عبارات علماء الفقه والحديث؛ مما يعني أن وجود العلة يقتضي المعلول وهو الحرمة، وانتفاءها يقتضي انتفاءه فتكون جائزة.
5- الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن بيع التقسيط جائز على ضوء تلك المقدمات أم غير جائز؟
وبيان الأمور السالفة الذكر بصورة وافية يحتاج إلى بلورتها على النحو التالي:
نص الأحاديث النبوية التي تحكم القضية محل النظر وتخريجها
الحديث الأول: ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: “نهى رسول الله -ﷺ- عن بيعتين في بيعة” (رواه أحمد والترمذي والنسائي).
الحديث الثاني: ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “نهى رسول الله -ﷺ- عن صفقتين في صفقة” (رواه أحمد والهيثمي والطبراني).
الحديث الثالث: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال -ﷺ-: “لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك” (رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي).
معنى الأحاديث النبوية
لما كنت بصدد التماس أصول مسألة البيع بالتقسيط والوقوف على مظانها.. ألفيت ذلك مسوغًا لبيان ما تحمله عبارات العلماء -سواء شراح الحديث النبوي أم مبينو معانيه من الفقهاء- من معانٍ، حتى أتمكن في ضوئها من التعرف على تلك الأصول والمظان.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه في هذا المجال أن لتلك الأحاديث الشريفة معانيَ عديدة بسطتها كتب الحديث والفقه، ولما كان ميدان هذا البحث هو بيع التقسيط فسوف أقتصر على المعنى الوثيق الصلة به منها؛ تحاشيا للإطالة والإطناب، ونظرا لكون تلك المعاني بعيدة أو عديمة الارتباط بموضوع البحث. هذا مع العلم بأن تلك المعاني قد أشارت إليها المصادر التي سأعتمد عليها في القضية موضوع البحث في نفس المكان لمن رغب في الوقوف عليها.
أولاً: معنى هذه الأحاديث عند علماء الأحاديث:
1- حديث نهي رسول الله -ﷺ- عن بيعتين في بيعة:
قال الترمذي في بيان معناه: “وقد فسر بعض ذلك أهل العلم، فقالوا: بيعتان في بيعة أي يقول: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين، فإذا فارقه على إحداهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما. قال الشافعي: ومن معنى نهي النبي -ﷺ- عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته”.
وبهذا المعنى فسره صاحب “معالم السنن”، وصاحب “بذل المجهود”، وصاحب “عون المعبود”، وصاحب “نصب الراية”، وصاحب “سبل السلام”، وصاحب “نيل الأوطار”، وصاحب “فتح العلام”.
وجاء في الموطأ وشرح الزرقاني عليه: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه -أي لزمه- بأحد الثمنين: إن ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله -ﷺ- نهى عن بيعتين في بيعة، وهذا من بيعتين في بيعة؛ فيمنع لذلك.
وقال النسائي: “باب بيعتين في بيعة هو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقدًا، وبمائتي دينار نسيئة”. وبمثله فسره البيهقي والمناوي.
مما تقدم يتبين لنا بجلاء أن أكثر المعاني شيوعًا لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين: أحدهما عاجل، والآخر آجل أكثر منه مقدارا، وهذه الصورة هي الأساس لبيع لتقسيط، وسيتضح ذلك ببيان علتيه.
2- حديث نهي رسول الله -ﷺ- عن صفقتين في صفقة:
إن المتتبع لعبارات شراح الحديث لمعنى صفقتين في صفقة يجد أنها قد اقتصرت على تفسير سماك له، فقد روى أسود عن شريط عن سماك أنه قال: الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنَساء بكذا وكذا وهو بنقد بكذا وكذا.
وهذا المعنى هو الذي أورده أحمد في مسنده مع الفتح الرباني كما نقله صاحب عون المعبود، وصاحب منتقى الأخبار، وصاحب نصب الراية. وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل: إن كان نقدًا فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا.
3- حديث “شرطان في بيع”، “سلف وبيع”، “بيع وشرط”:
أما “شرطان في بيع” فقد قال صاحب المنتقى شرح الموطأ في بيان معناه: أن يقول: بعت هذه السلعة نقدًا بكذا، وبكذا نسيئة، وبمثله فسره النسائي، كما نقل كل من صاحب عون المعبود ونيل الأوطار وتفسير البغوي له بهذا المعنى، وبه فسره الإمام زيد وصاحب فيض القدير.
أما صاحب سبل السلام وصاحب فتح العلام فقد أورد كل منهما تفسيرين: أحدهما المتقدم، والثاني أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا.
أما “سلف وبيع” فقد فسره صاحب فتح العلام بأن يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النَّساء، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة، وبمثله فسره صاحب سبل السلام وصاحب نيل الأوطار، إلا أنه علق على هذا المعنى بقوله: والأولى تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، لا بما هو معروف في بعض المذاهب وغير معروف في غيرها.
مما تقدم من معانٍ أوردتها كتب الحديث لمعنى “بيعتان في بيعة”، “صفقتان في صفقة”، “شرطان في بيع”، يظهر لنا أن نتفق في معنى واحد وهو أن يبيع التاجر سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر.
ثانيًا: معنى الأحاديث النبوية عند علماء الفقه:
وردت عن فقهاء مختلف المذاهب الإسلامية معانٍ للأحاديث الثلاثة المتقدمة، سأحاول فيما يأتي بيانها بالقدر الذي يسمح به المقام.
1- في الفقه الحنفي:
قال صاحب المبسوط: وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا.. وبمثل هذا المعنى فسره صاحب تحفة الفقهاء، وصاحب بدائع الصنائع، وصاحب الفتاوى البزازية، وصاحب حاشية الشلبي على الكنز، وصاحب فتح القدير، كما أن صاحب كتاب “اختلاف الفقهاء” أورد هذا المعنى عن أبي حنيفة وأصحابه.
2- في الفقه المالكي:
جاء في الموطأ: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعته بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل، وقد وجبت عليه بأمر الثمنين أن ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله -ﷺ- قد نهى عن بيعتين في بيعة، وهذان بيعتان في بيعة.
وبمثل هذا المعنى ورد تفسير الحديث في بداية المجتهد والقوانين الفقهية والكافي.
وجاء في مختصر خليل في ذكر البيوع المنهي عنها: وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل.
وقد بينه صاحب “جواهر الإكليل” بقوله: “وكبيعتين في بيعة أي عقد واحد، في الموطأ نهى -ﷺ- عن بيعتين في بيعة، ومحمله عند مالك على صورتين أشار المصنف لإحداهما بقوله (يبيعها) أي مالك السلعة المعينة، بشرط إلزام للمشتري أو للبائع بالشراء، وأنه ليس له تركة على وجه يتردد فيه، ويحصل به الغرر كبيعها (بعشرة) من الدراهم مثلا (نقدًا) أي حالة (أو) بـ (أكثر) منها كعشرين (لأجل) كشهر، ومفهوم بإلزام أنه لو كان بالخيار في الأخذ والترك جاز له ذلك”.
وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الدردير في الشرح الكبير، والدسوقي في حاشية عليه وصاحب التاج والإكليل، وصاحب مواهب الجليل، كما أورد صاحب كتاب اختلاف الفقهاء هذا المعنى عن الإمام مالك.
3- في الفقه الشافعي:
قال الإمام الشافعي فيما رواه المزني في المختصر عنه في معنى بيعتين في بيعة، وهما وجهان: أحدهما: أن يقول بعت هذا العبد بألفٍ نقدًا أو بألفين نسيئة، قد وجب لك بأيهما شئت أنا، أو شئت أنت؛ فهذا بيع الثمن فيه مجهول. وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف، والحديث بهذا المعنى ذكره صاحب المهذب والتنبيه، والنووي في المجموع، والروضة وشارحو المنهاج؛ كصاحب مغني المحتاج، وصاحب نهاية المحتاج، وصاحب المحتاج، وشارحو المنهج؛ كصاحب فتح الوهاب، وحاشية الجرمي سليمان الجمل. وقال الغزال: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف فخذْ بأيهما شئت.
4 – في الفقه الحنبلي:
يقول صاحب المغني: وقد روى أبو هريرة قال: “نهى رسول الله -ﷺ- عن بيعتين في بيعة”، وذلك مثل أن يقول: “بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك… فهذا كله لا يصح “.. وقد رُوي في تفسير “بيعتين في بيعة” وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر… وهو أيضًا باطل”. وبمثل هذا المعنى فسره صاحب الفروع وصاحب حب الإنصاف وصاحب المقنع، وصاحب التنقيح المشبع.
5- تفسير علماء السلف وأصحاب المذاهب الأخرى للأحاديث:
لقد ورد عن علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- ما يفيد أن هذه الأحاديث تعني أن يقول: هو بنقد كذا، وبنسيئة كذا، فقد ورد هذا المعنى عن علي -رضي الله عنه- وابن عباس -رضي الله عنهما- وابن مسعود -رضي الله عنه-، كما نقل مثله عن الأوزاعي، وعطاء والثوري والقاسم بن محمد والشعبي وابن سيرين -رضي الله عنهم أجمعين-.
وبهذا المعنى أيضًا فسره الظاهرية والإباضية والشيعة الزيدية.
مما تقدم من أقوال العلماء في معنى الأحاديث النبوية الشريفة الثلاثة يظهر لنا أن هذه الأحاديث تفيد معنيين:
الأول: وهو أرجحهما، وأكثرهما ورودًا عند العلماء هو أن يقول البائع للمشتري بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا، وبمؤجل بكذا، وهو أصل مسألة بيع التقسيط.
الثاني: أن يقول للمشتري أبيعك كذا على أن تبيعني أو تؤجرني أو تقرضني كذا.
علة التحريم في البيوع المذكورة
من خلال الحديث عن معنى “بيعتين في بيعة” و”صفقتين في صفقة” و”شرطين في بيع” و”بيع وسلف”.. تبين أن هذه الأنواع بمعانيها التي ذكرت منهي عنها بصريح وصحيح السنة النبوية، ولما كانت هذه البيوع تقع في إطار المعاملات المالية فإن البحث عن علة التحريم يعتبر أمرا مقبولا شرعا. ولما كانت القاعدة الشرعية تذهب إلى أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدما، فإن وقوفنا على تلك العلة يوضح لنا في أي الأحوال تكون تلك البيوع في دائرة الحظر -حال وجود العلة-، وفي أي الأحوال تكون في إطار الإباحة -حال انتفاء العلة-، وهذا ما سنحاوله فيما يأتي:
أولاً: علة النهي عند علماء الحديث:
إن المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوي وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة وما إليها من البيوع موضوع البحث مرده إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع.
يقول الترمذي في سننه تعقيبًا على حديث النهي عن بيعتين في بيعة: وفسره بعض أهل العلم بأن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما.
فهذا القول يفيد أن علة النهي هي جهالة المتعاقدين بالثمن؛ إذ يقبض المشتري السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن المعجل أو المؤجل هو الذي تم به البيع، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشتري أي الثمنين يختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة.
وهذه العلة هي التي نص عليها الخطابي والصناعي والشوكاني، وصاحب بذل المجهود وفتح العلام.
ثانيًا: علة النهي عند الفقهاء:
1- في الفقه الحنفي:
قال السرخسي في شأن علة النهي: “وإذا اشترى شيئا إلى أجلين وتفرقا على ذلك لم يجز، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما، وأمضى البيع عليه جاز”، وقال في موضوع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة.. فهو فاسد؛ لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم.. فإن كانا يتراضيان بينهما، ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم، وأتمَّا العقد عليه فهو جائز؛ لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة.
وهذا ظاهر في أن علة النهي عن بيعتين في بيعة وما في معناها هي عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد؛ مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعُلم الثمن صح البيع.
وما ذهب إليه السرخسي هو ما ذهب إليه غيره من فقهاء الحنفية كعلاء الدين السمرقندي وعلاء الدين الكاساني والسلبي في حاشيته على الكنز والكمال بن الهمام.
2- في الفقه المالكي:
ويبين علِّية النهي عندهم ما قاله الدسوقي في هذا الصدد: “وهي أن يبيع السلع بتًّا بعشرة أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشتري على السكوت، ولم يعين أحد الأمرين، ويختار بعد أخذها أحد الثمنين المعجل أو المؤجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع”.
وفي مواهب الجليل على مختصر خليل يقول في بيان العلة: “وكبيعها بالإلزام”؛ أي بالالتزام للمتابعين أو لأحدهما؛ فلا يجوز إلا إذا كان لهما الخيار معًا… ويقول تعقيبا على قول الدردير: “وإنما قال بالإلزام احترازًا مما إذا باع ذلك على خيار لهما أو أحدهما فإن ذلك يجوز”.. يقول: “شرط الجواز أن ينتفي الأمران؛ أعني اللزوم لهما أو لأحدهما”.
ومن خلال هذه العبارات يظهر لنا أن علة النهي عند المالكية تتراوح بين الجهل بالثمن وسد ذريعة الربا، ولذا اشترطوا ألا يكون هناك إلزام للبائع أو المشتري؛ وذلك لاحتمال أن يكون من له الخيار قد وقع في نفسه أن يختار الشراء بالثمن المعجل، وعندها يلزمه ما اختاره. ولما كان شأن الإنسان أن يقع في التردد إذا كان أمامه فرصته للتأمل والاختيار فربما يخطر له أن يختار المؤجل بعد ذلك، فكأنه قد باع ما هو معجل بالمؤجل وبينهما فارق في الثمن، وهو ما يمكن أن يكون ذريعة إلى الربا، وهو ما عناه الإمام مالك بتعليله منع هذا البيع حين قال: “لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن قصد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر التي أجل”.
وهذه العلل أوردها غير من ذكرنا من فقهاء المالكية كالزرقاني وابن جزي والمواق.
3- في الفقه الشافعي:
المتتبع لعبارات فقهاء المذهب يجد أنها تكاد تطبق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هي علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع سواء بطريق الصراحة أو الدلالة.
فأبو إسحاق الشيرازي يقول بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: “فالبيع باطل؛ لأنه لم يعقد على ثمن بعينه”.
ويقول النووي: “… وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نسيئة فيصبح العقد”، وإلى مثل هذا ذهب الشافعي وابن الرفعة والشيخ زكريا الأنصاري والبجيرمي وسليمان الجمل والخطيب الشربيني والرملي وجلال الدين المحلي وغيرهم.
4- في الفقه الحنبلي:
إن علة النهي عن بيعتين في بيعة وغيرها من البيوع التي اعتبرناها أصولا لمسألة البيع بالتقسيط تتمثل عند علماء الحنابلة بالجهل في الثمن وما يصاحبه من غرر أو مقامرة وما إليها.. يقول العبدري في شأن في شأن تلك العلة: “… لم يصح ما لم يتفرقا على أحدهما (الثمن المعجل والمؤجل)، وهو المذهب الذي نص عليه (يعني الإمام أحمد)، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم.
ويقول ابن القيم: “وليس هاهنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد”.
وإلى هذه العلة ذهب ابن قدامة في المغني والمقنع، وابن مفلح المقدسي والبهوتي وغيرهم.
5- العلة عند السلف من الصحابة والتابعين والمذاهب الأخرى وبعض المعاصرين.
لقد ذهب كثير من علماء السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- إلى أن علة النهي عن بيعتين في بيعة وما إليها من البيوع المنهي عنها هي الجهل بالثمن الذي تم عليه العقد -صراحة أو دلالة-. يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: “لا بأس أن يقول للسلعة هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضى”، أي بأحد الثمنين.
ويقول الأوزاعي: “لا بأس بذلك (بيعتين في بيعة)، ولكن لا يفارقه حتى يباتّه بأحد الثمنين”، وإلى مثل هذا ذهب أبو عبيد والثوري والزهري وطاووس وقتادة وسعيد بن المسيب والحكم وحماد.
وبهذا المعنى علله فقهاء الشيعة والإباضية وصاحب الروضة الندية وصاحب كتاب “المعاملات في الإسلام”، و”منهاج المسلم”.
وفي ضوء ما ذكرنا من أقوال علماء المذاهب الفقهية المختلفة في تقصي علة عدم جواز البيعتين في بيعة وما إليها.. ظهر لنا بكل جلاء أن العلة عندهم -على تفاوت عباراتهم- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية.
وعليه فإذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشتري ثمنين: أحدهما عاجل، والآخر آجل أكثر منه؛ فيختار المشتري واحدا منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد فإن هذا البيع يكون جائزًا شرعًا.
حكم البيعتين في بيعة
لقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيع بيعتين في بيعة باطل أو فاسد، ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كطاووس والحكم وحماد، وقد نقلنا عن غير واحد من العلماء قوله: “إن كلامهم محمول على ما إذا جرى بين المتعاقدين بعد العقد ما يدل على الاتفاق على أحد الثمنين؛ كأن يقول المشتري للبائع بعد ذكر الثمنين: اخترت المعجل أو المؤجل، فقال البائع: أجزت أو رضيت”، وحينئذ فلا خلاف بين الجمهور وهذه الطائفة من العلماء في القول بصحة العقد.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت عنوان: “الاعتياض عن الأجل بالمال”: الصورة الأولى: صدور إيجاب مشتمل على صفقتين إحداهما بالنقد، والأخرى بالنسيئة مثل أن يقول: بعتك هذا نقدًا بعشرة، وبالنسيئة بخمسة عشر.
يرى جمهور الفقهاء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح؛ لأن النبي -ﷺ- نهى عن بيعتين في بيعة، وجاء في الشرح الكبير “كذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول فليس يصح كالبيع بالرقم المجهول”، وقد روي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل أنه جرى بينهما بعض ما يجري في العقد؛ فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه، أو قال: قد رضيت، ونحو ذلك؛ فيكون عقدا كافيا؛ فيكون قولهم كقول الجمهور “فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا”.
ما تقدم هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحِل والحرمة والصحة والبطلان، ولما كان هذا البيع حراما باطلا كان واجب الفسخ، ولا يترتب عليه أثره، ولكن لو تفرق البائع والمشتري، وقد قبض المشتري السلعة.. فما هو الأثر المترتب على ذلك فيما لو هلكت العين البيعية أو استهلكت أو تغيرت؟
والجواب على هذا السؤال نجده في ثنايات حديث نبوي شريف، أخرجه أبو داود في سننه -وقد مر بنا نصه وتخريجه عند التعرض للأحاديث النبوية التي تصلح مناطا لبيع التقسيط- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: “من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا” (رواه أبو داود والحاكم).
فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث، ورتب على هذه الصورة من البيع أثرًا: فقد روي عن الأوزاعي أنه قال وقد سُئل عن معنى بيعتين في بيعة -وهو أن يقول هو نقدًا بكذا ونسيئة بكذا-: “لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباتّه بأحد المعنيين”. فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين فقال: “هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين”.
وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: شرطان في بيع: أبيعك إلى شهر بعشرة، فإن حبسته شهرا فتأخذ بعشرة.. قال شريح: أقل الثمنين وأبعد الأجلين أو الربا.
وبه قال طاووس؛ فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه، قال: أخبرنا معمر وابن عيينة عن ابن طاووس عن أبيه: إذا قال بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا، فوقع البيع على هذا، فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
ومن جهة أخرى فقد قال الإمام الذهبي: إن محمد بن عمرو -راوي الحديث- شيخ مشهور، أخرج له الشيخان متابعة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس.
وقد أجاب جمهور العلماء عن الحديث الذي استدل به القائلون بأنه إذا تم البيع بصورة بيعتين في بيعة.. فإن للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين بأجوبة منها:
1- إن في صحة الحديث مقالا، قال المنذري: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري أن “النبي -ﷺ- نهى عن بيعتين في بيعة”.
2- أن الحديث على فرض صحته فعنه أجوبة، منها:
أ- يجاب عما قال الأوزاعي بما قاله الخطابي وغيره: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحيح البيع بأوكس الثمنين إلا شيئا يُحكى عن الأوزاعي. وهو مذهب فاسد؛ وذلك لما يتضمنه هذا العقد من الغرر والجهل.
وأما قول شريح فيجاب عنه بأنه محمول على معنى آخر ذكره ابن حزم، فقال: فإن حبسته شهرا آخر فتأخذ عشرة أخرى.
ب- ما ذكره الخطابي وغيره: أن ما رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود يشبه -يحتمل- أن يكون ذلك في حكمه في شيء بعينه؛ كأنه سأله دينارا في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ قد دخل على البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما -أقلهما- وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا -قبل فسخ البيع الأول- كانا مرابيين.
فهذا القول يفيد أن الربا هو من باب بيع الدين بالدين؛ لأن البائع باع المشتري الدين الذي له عليه بثمن أكثر وهو منهي عنه؛ لأنه من باب بيع “الكالئ بالكالئ”، وقد نهى عنه -ﷺ- لما فيه من الربا (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم).
جـ – أن الحديث من باب بيع الدين بالدين كما يفهم من قول ابن الأثير في النهاية؛ حيث فسر الحديث بقوله: أن يستلف الرجل من الرجل مالا فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعني تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجري بينها تقابض، فصار بذلك بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا هو بيع الدَّين بالدَّين، كأنه أسلفه دينارا في صاع بر مثلا إلى شهر.. فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني الصاع بصاعين إلى شهرين.. فهذا بيع ثانٍ، ودخل في الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيُرد إلى أقلهما وهو الصاع، وإلا كان الثاني ربا للتفاضل، أو كأنه باعه دينا بدين وهو الكالئ بالكالئ المنهي عنه.
د- أن الحديث محمول على ما إذا استهلك المشتري البيع كله أو بعضه:
ففي كتاب بذل المجهود: وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه -الخطابي- رضي الله عنه قوله: من باع بيعتين… ظاهره مخالف للمذاهب كلها إلا أن يقال في معناه: إن من باع شيئا على أنه بخمسة إن كان ناجزا، أو بعشرة إن كان نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما؛ فهذا البيع فاسد؛ لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه -ﷺ- نهى عن بيعتين في بيعة، وكان الحكم فيه الفسخ، إلا أن المشتري استهلك المبيع أو أكله؛ فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة؛ وهو أوكس عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معا، فصار المعنى: أنه من باع بيعتين كذلك ثم لم يبق المبيع حتى يفسخ البيع فله أن يأخذ القيمة أو المثل، ويأخذ الثمن؛ لأنه لو أخذ الثمن كان إبقاء للبيع وهو مأمور بفسخه، وأما إذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى؛ لكونه عقد عقدا فاسدا، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا.
ويؤيد حمل الحديث على هذا المعنى ما نقله ابن جرير الطبري عن الثوري أنه قال: إن بعت بيعا، فقلت: هذا بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فذهب المشتري؛ فهو بالخيار في البيعتين، وإن لم يكن وقع بيعك على أحدهما فهو مكروه، وهو بيعتان إلى بيعة، وهو مردود، وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك ذلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين.
وروى عبد الرازق في مصنفه عن معمر بعد أن ذكر قول طاووس الذي تقدم قبل قليل أنه قال: “وهذا إذا كان المبتاع قد استهلكه”.
هـ- ما قاله صاحب نيل الأوطار في معرض رده على المبطلين للبيع مؤجلا مع زيادة الثمن لأجل التأجيل: لأن ذلك التمسك بالرواية الأولى من حديث أبي هريرة: “من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا”، وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره، وهو النهي عن بيعتين في بيعة، ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج، لكن احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان -أبيعك كذا شريطة أن تبعيني كذا- قادحا في الاستدلال بها على التنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة -وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا- إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الراوية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك؛ فالدليل أخص من الدعوى.
و- ما قاله ابن حزم الظاهري: هذا الخبر صحيح، إلا أنه موافق لمعهود الأصل، وقد كان الربا و”بيعتان في بيعة” والشروط في البيع.. كل ذلك مطلقا غير حرام إلى أن حُرم كل ذلك، فإذا حُرم كل ما ذكرنا فقد نسخت الإباحة بلا شك، فهذا خبر منسوخ بلا شك بالنهي عن البيعتين في بيعة؛ فموجب إبطالهما معا؛ لأنهما عمل منهي عنه.
ز- ما قاله ابن القيم من أن الحديث لا يُحمل على الصورة المعروفة، وهي أن تكون السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا؛ حيث يقول: “إنه -ﷺ- نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الربا. وذلك سدا لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها بمائتين حالّة؛ فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهو من أعظم الذرائع عن الربا، وأبعد كل البعد عن حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة”.
ويبدو أن المالكية لهم رأي آخر في المسألة، وهو أن المشتري إذا قبض المبيع في صورة البيعتين في بيعة، فإن البائع يعطى قيمة المبيع نقدا، ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين.
فقد نُقل عن مالك قوله: من باع سلعة بدينار نقدًا أو بدينارين إلى شهر فسخ ذلك، وردت إلى قيمتها نقدا، ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الآكلين.
وقال صاحب الكافي: “وإن قبضت السلعة وفاتت، رد قابضها قيمتها يوم قبضها بالغة ما بلغت”، وأتبع ذلك بقوله: “وهذا كله قول مالك وأصحابه”.
ووجه ما قاله المالكية: أن السلعة لم يقع شراؤها على شيء بعينه بقطع أو بخيار، وإنما إذا وقع على ما لا يدري أي السلعتين يختار، وقد وجبت إحداهما؛ فحيث قبضها وتعذر ردها وجبت قيمتها.
وخلاصة الأمر في حكم بيعتين في بيعة أنها من البيوع المنهي عنها، المحكوم ببطلانها واستحقاقها الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يُعلم فهيا الثمن، وهذا رأي عامة الفقهاء.
أما من حيث حكمها إذا حدث قبض بموجبها؛ فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثرا، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبي داود؛ لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح إذ هو الذي ينتج آثارا ويرتب حقوقًا، ولذلك وجهوا إلى الحديث المطاعن التي نظرنا في صحتها من جهة، وفي صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب، والتمسوا له التأويلات التي تقدمت على فرض صحته انسجاما مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن ترتب على العقد الباطل آثارًا، وتمكينا للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد العين التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعه المنهي عنه شرعًا.
وقد نازع بعض الفقهاء في هذه الحقيقة بناء على ثبوت الحديث عندهم، وعملهم بظاهر معناه.
وبعد النظر في أدلة الفريقين، وما صوبه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون عملت على إيهامنا، وعجزها عن الانتهاض للاحتجاج بها على مدعاهم.. أرى أن الحق فيما قال الجمهور، والله تعالى أعلم.
د. محمد عقلة الإبراهيم – 04/09/2002 5>