السنة النبوية مصدر رئيس من مصادر التشريع وهي أيضا مصدر أخلاقي تستمد منه القيم التي ينبغي أن تحكم تصورات وسلوكيات المسلمين على اختلاف عصورهم، فما من قول أو فعل أو تقرير صدر عنه صلوات الله عليه إلا وهو مؤطر بإطار أخلاقي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي السطور التالية نشرح بعضا من أخلاقيات الزواج في السنة النبوية ونبين الأسس الأخلاقية التي وضعتها السنة النبوية للزواج، وكيف تجسدت واقعيا من خلال الممارسة النبوية.

أخلاق الخطبة

وجه الرسول أصحابه إلى ضرورة مراعاة البعد الأخلاقي منذ لحظة التفكير الأولى في الزواج مشيرا أن المرء يتزوج مدفوعا ببضع عوامل، ففي الحديث (تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتيداك)

والحديث يحصي أربعة بواعث للزواج، ثلاث منها يعتبرها بواعث خاطئة وهي (المال، الوجاهة الاجتماعية، الجمال أو الجاذبية الجنسية) وذلك لسببين: الأول أنها لا تقيم وزنا للأبعاد المعنوية التي يفترض أن تكتنف الزواج وتجعل منه صفقة تجارية ومن المرأة موضوعا جنسيا، والثاني لأنها ترتبط بعوارض متغيرة أو زائلة والزواج ينبي على التأبيد لا التأقيت، وأما الباعث الرابع فهو باعث معنوي ويتصف بالثبات والديمومة وله امتداداته في الحياة الدنيوية والأخروية، ومن ثم صار الباعث الوحيد المقبول للزواج.

ويبين الرسول بعض الضوابط الخلقية التي يجب مراعاتها قبل الإقدام على الخطبة ومنها: أن (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك) وهذا نهي قاطع منه ، وفيه احترام لحقوق الأخوة بين المؤمنين، وتلطف بالأهل والمخطوبة وعدم التشويش عليهم وجعلهم يفاضلون بين خيارين.

ومنها النظر إلى المخطوبة عند الخطبة، فعن المغيرة بن شعبة (أنه خطب امرأة فقال النبي انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) وفي الحديث إشارة إلى ضرورة مراعاة عنصر الانجذاب والميل للآخر اللذان يمكن أن يتطورا إلى محبة قلبية فيما بعد، وإشارة إلى أن البعد الحسي لا ينبغي إغفاله في الزواج، فكما أن الدين هو أساس الزواج إلا أن الجاذبية عنصر ضروري لا يجب إغفاله، وبهما تكتمل حقيقة الزواج الذي هو مؤسسة ثنائية تشتمل على البعدين المعنوي والحسي.

ومنها التحري عن ذوات الخُلق، إذ الخلق الحسن يورث وينتقل من الأبوين إلى الأبناء (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)، وثمة حديث آخر يوضح بصورة تفصيلية أخلاق الصالحات التي يفضل للمسلم أن يتزوج بهن: (فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل؛ أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده) وهو يبين أن نساء قريش كن خير نساء العرب لثلاث فضائل توفرن فيهن:

الأولى أنهن كن أحن النساء على أولادهن لا يشغلهن عن رعايتهن شيء، والثانية أنهن إذا مات لاحداهن زوج حبست نفسها على تربية أولادها فلا تتطلع لزوج آخر، والثالثة محافظتهن على أموال أزواجهن سيما إذا كانوا غير ميسوري الحال.

أخلاق الزواج

يشترط في الزواج أن يقدم الزوج صداقا للعروس عند العقد، ولا يجوز للولي إسقاطه لأي سبب، وللزوجة المطالبة به حتى بعد وفاة زوجها إن لم يدفعه أو دفع جزء وبقي آخر، وهذا التشديد جعل بعضهم يعتقد أنه نظير مادي للمتعة التي يحصل عليها الزوج من الزوجة، لكن هذا الاعتقاد يتبدد حين يعلم أن الصداق قد يكون شيئا معنويا، إذ سأل أحدهم الرسول أن يزوجه امرأة فسأله الرسول: (أعندك من شيء؟ قال: ما عندي من شيء، قال: ولا خاتم من حديد؟ قال: ولا خاتم من حديد، ولكن أشق بردتي هذه فأعطيها النصف، وآخذ النصف، قال: لا، هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن)، ومنطوق الحديث ومفهومه لا يشير إلى المتعة بأي صلة، ويمكن حمله على أنه هدية، والهدية إما مادية أو رمزية وغايتها الترضية والمحبة (تهادوا تحابوا) لأن المرأة ستتحمل بموجب الزواج أعباء مضاعفة من قبيل رعاية الزوج والأبناء وتحمل الأعباء المنزل لذا وجب ترضيتها قبله.

والحياة الزوجية كما تقدمها السيرة تحكمها قيم وأخلاقيات جسدها الرسول في حياته مع زوجاته، ومنها التعاون في إنجاز المهام المنزلية؛ فقد سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: (كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة)، وفي رواية أخرى: (كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم). ويفهم من الحديث أن التقسيم التقليدي للعمل الذي يجعل من عمل المنزل عملا مخصوصا بالنساء تقسيم غير ملزم دينيا وأن المرونة وتبدل الأدوار جائز في بعض الأحيان. 

ومن الأخلاقيات التزام الزوجين بواجباتهما؛ ففي الحديث أن رسول الله قال: (ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تـكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تـكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)، والحديث يوضح أن كل حق يقابله واجب ينبغي تأديته أولا، إذ لا مجال للمطالبة بالحق دون أن يؤدي كل طرف واجباته تجاه الطرف الآخر، والحقوق متبادلة ومتساوية فكل حق للزوجة للزوج حق يقابله.

ومنها حسن الخُلق، والنبي كان أحسن الناس أخلاقا وأكرمهم لأهله، وهذا الإحسان إلى الأهل لا يشبه أي إحسان آخر حتى الإحسان إلى الوالدين إنه معيار خيرية المرء (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله)، ومن الإحسان مع الأهل تودد الزوج إلى زوجته إذ يروى أنه كان يخاطب السيدة عائشة بقوله (يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام) كما كان يناديها بكنية “الحميراء” أي ذات البشرة المشوبة بالحمرة، كما كان ينزل عند رغبتها في الترويح إذ تروي السيدة عائشة أنه (دخل الحبشة يلعبون، فقال لي النبي يا حميراء أتحبين أن تنظرين إليهم ؟ فقلت: نعم).

كذلك لم يجد النبي غضاضة في مشاطرتها اللعب ومسابقتها رضي الله عنها مرتين، قالت عائشة رضي الله عنها: (خرجت مع النبي في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك).

ويستشف من هذه الأحاديث التوجيه النبوي أنه لا يُنقِص من قدر الزوج أن يتواضع لزوجته ويدخل عليها السرور بمشاركتها اللهو والمرح.

والمشاركة في اللهو واللعب لم تكن تحول دون أن يلاحظ صلوات الله عليه التغير النفسي الذي يطرأ على زوجاته وموقفهن منه، فكان يقول للسيدة عائشة “إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك”.

ومنها أن يكتم كل منهما سر الآخر ولا يفشيه، حتى لا يوغر صدر أحدهم على الآخر، ففي الحديث أن رسول الله قال: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها).

ومنها إبداء الحب والتصريح به، فقد سئل الرسول (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالا)، وهذا التصريح بشير إلى أن الحب بين الزوجين ليس شيئا هامشيا بل هو عماد هذه الحياة الزوجية ومن ثم لا ينبغي الحجل منه وعدم إبداءه.

وبالجملة، تزخر السنة النبوية بجملة من التوجيهات الخلقية التي تضمن استمرارية الحياة الزوجية وسعادتها، والكثير منها ورد في صيغة نهي أو أمر مباشر للتأكيد على وجوب العمل بها.