استقر الفقه الإسلامي بما بات يعرف بالمذاهب الفقهية المشتهرة، وأصبحت تمثل المدارس الفقهية التي انتشرت في ربوع العالم الإسلامي شرقا وغربا، وخدمت المذاهب الفقهية خدمة جليلة، من خلال المدونات والمصنفات الفقهية، وكذلك من خلال تدريس تلك الكتب وخدمتها شرحا واختصارا ودراسة وبيانا لمنهج الفقهاء فيها، ومازال عطاء العلماء وطلاب العلم خاصة في الدراسات العليا مستمرا في خدمة تراث المذاهب الفقهية، على أن هذه الجهود لم ينفق نذر يسير مثلها في خدمة فقه الصحابة والتابعين.

تسبب هذا عند كثير من الدارسين في تكوين صورة ذهنية مفادها أن الفقه بدأ نضجه مع عصر المذاهب الفقهية، وأن الفقه في المرحلة التي سبقته في عصر الصحابة والتابعين كان مجرد آراء متناثرة ومسائل متفرقة، وهي نظرة تعوزها الصحة، ونقص يحتاج إلى إكمال، وإبهام يحتاج إلى بيان، بل إننا اليوم أحوج ما نكون إلى فقه الصحابة والتابعين، وتسليط الضوء على  الاجتهاد الفقهي في الفروع ومناهج الاجتهاد عندهم، والاستفادة منها في مسيرة الاجتهاد المعاصر.

العلاقة بين فقه الصحابة والتابعين وفقه المذاهب

إن فقه المذاهب الفقهية هو امتداد لفقه الصحابة والتابعين، على أن مدارسة فقه المذاهب أنسى الدارسين في غالب الأحيان فقه الصحابة والتابعين، وإن كان الأمر قد يكون مقبولا عند طلاب العلم المبتدئين، لكن الإشكالية أن هذا الأمر انسحب على الباحثين والدارسين والفقهاء، إلا من رحم الله، وتناسى فقه الصحابة والتابعين، بل غاب عن غالب الدراسات والبحوث، إلا جهودا متناثرة، مثل رسائل الماجستير والدكتوراة التي تتناول عدد من فقهاء الصحابة أو التابعين بالدراسة بصورة فردية.

ومما صعب الأمر هو أن المدونات الفقهية التي تعرضت لآراء الصحابة والتابعين مع قلتها مقارنة بالمدونات الفقهية للمذاهب كان تعرج على رأي الصحابة والتابعين في الجملة دون إيراد مواطن الاستدلال ومناقشتها أو بيان منهجها، كما أن البحوث والدراسات التي تناولت فقه الصحابة والتابعين متناثرة، والدراسات فيها جزئية.

مدونات فقه الصحابة والتابعين

هناك عديد من المدونات التي عنيت بفقه الصحابة والتابعين وآثارهم، ومن أمثلها:

كتب الحديث

من كتب الحديث التي حوت فقه الصحابة والتابعين: موطأ الإمام مالك، ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، وسنن سعيد بن منصور، ومسند علي بن الجعد الجوهري، ومصنف ابن أبي شيبة، وهو أوسعها في إيراد فقه الصحابة والتابعين، وكذلك بعض الكتب التي أوردت آراء للصحابة والتابعين، مثل: مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي.

كتب شروح الحديث والآثار

مثل: تهذيب الآثار لابن جرير الطبري، وشرح معاني الآثار للطحاوي، وشرح مشكل الآثار للطحاوي أيضا، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، كلاهما لابن عبد البر .

الكتب الفقهية

مثل: الآثار لأبي يوسف القاضي، والحجة على أهل المدينة، لمحمد بن حسن الشيباني، والآثار له أيضا، والأم للإمام الشافعي، والمدونة، لسحنون ، والخراج لأبي يوسف، والخراج ليحيى بن آدم، والأموال لابن سلام، والأشربة للإمام أحمد، والأموال لابن زنجويه، والمحلى لابن حزم.

كتب التفسير المسند

وذلك عند الحديث عن آيات الأحكام، مثل: تفسير سفيان الثوري، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن المنذر، وتفسير ابن أبي حاتم.

كتب الفقه التي تنقل آراء الصحابة والفقهاء بلا إسناد

من ذلك: الإشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، والمغني شرح مختصر الخرقي لابن قدامة، والمجموع شرح المهذب للنووي.

الكتب المعاصرة التي عنيت بآثار الصحابة والتابعين

من ذلك: ما صح من آثار الصحابة في الفقه، لزكريا غلام قادر، وموسوعة آثار الصحابة، لسيد كسروي حسن، وسلسلة الآثار الصحيحة من أقوال الصحابة والتابعين للداني بن منير آل زهوي، والعتيق جامع فتاوى الصحابة، لمحمد بن مبارك حكيمي، وما كتبه الدكتور رواس قلعه جي عن فقه عدد من الصحابة منفردا.

على أن المطلوب في خدمة فقه الصحابة والتابعين ما يلي:

أولا- عمل موسوعة فقه الصحابة والتابعين:

 تشتمل على:

  1. أبواب الفقه كاملا
  2. إيراد أدلة الاجتهاد فيها
  3. إيراد المناقشات التي نقلت عن الصحابة والتابعين.
  4. بيان تأثر المذاهب الفقهية بمذاهب الصحابة والتابعين.

ثانيا– القيام بدراسات تبين مناهج الاجتهاد والاستدلال عند الصحابة، وتعرض للمقارنة بين تلك المناهج وما استقرت عليه الأمة من مناهج الأصوليين، ومدى الاستفادة منها في الاجتهاد الفقهي المعاصر.

إن دراسة فقه الصحابة والتابعين لا يعني بأي حال من الأحوال إهمال دراسة المذاهب الفقهية، بل هي مرحلة لما بعد دراسة المذاهب، يستأنس بها الفقهاء والمتخصصون، بحيث يطلعون على فقه الصحابة والتابعين؛ لما لهذا الفقه من خصائص تميزه عن غيره، خاصة أنه فقه قريب العهد بالوحي، وأن فقهاءه كانوا أجدر وأقدر على الاجتهاد الفقهي من حيث الملكة والمنهج ممن أتوا بعدهم، وأن الاستفادة العظمى ليست في الوقوف على الآراء الفقهية وحدها، بل بدراسة مناهج الاجتهاد والاستدلال وكيفية الاستفادة منها في تطوير مسيرة الفقه الإسلامي من خلال النظريات الفقهية والقواعد الأصولية والفقهية، وتخريج الفروع على الأصول، وإحياء منهج الاجتهاد الأقرب إلى النصوص الشرعية ومراعاة مقاصد الشريعة بنوع من الاتزان، مع إحياء تلك العقلية الفقهية الأصيلة الرصينة التي تكونت من تلاميذ الفقيه الأول رسول الله وتلامذتهم، حيث إنهم يمثلون النموذج الأعلى في الاجتهاد الفقهي وفهم الشريعة.