ما زالت السيرة النبوية تمثِّل نهرًا متدفقًا للعلماء والباحثين، قديمًا وحديثًا؛ لينهلوا من معينها الصافي، ويرتووا من مائها العذب، ويتفقهوا من دروسها الحية النابضة.. هذه أهم خمسة كتب معاصرة تناولت السيرة النبوية بالشرح والتحليل.. نقدمها- بإيجاز- لمن أراد أن يتعرف على السيرة العطرة ، ويتزوّد منها في حياته الخاصة والعامة.
ولا عجب، فالنبي محمد ﷺ هو سيد ولد آدم، وهو خاتم أنبياء الله ورسله، ورحمته للعالمين.. ولهذا، جاءت حياته النبوية الشريفة منهاجًا للنجاة في الدنيا والآخرة، ونموذجًا عمليًّا للإسلام، وتطبيقًا حيًّا للقرآن الكريم..
فهو ﷺ، كما وصفته السيدة عائشة، في أبلغ وَصْفٍ وأوجزه: “كان خُلُقه القرآن” (رواه مسلم).. وهو ﷺالقدوة الحسنة في كل أمور حياته: في عبادته، في أخلاقه، في معاملاته، في سلمه وحربه، مع أزواجه وأبنائه، مع من آمنوا به ومن آذ وه.. حتى في رضاه وغضبه؛ فقد كان ﷺ في رضاه وغضبه لا يقول إلا حقًّا (صحيح ابن خزيمة).
الرحيق المختوم
وهو من تأليف العالم الهندي الشيخ صفي الرحمن المباركفوري.. وقدَّم فيه السيرة النبوية، من البعثة حتى الوفاة، بجانب إعطاء نبذة عن أحوال العرب قبل الإسلام.. بأسلوب سهل سلسل، يناسب الشباب والمبتدئين؛ لأنه يهتم بسرد أحداث السيرة وإعطاء صورة شاملة عنها، دون غوص كبير مع الدروس والعبر.
وقد حاز الكتاب على المركز الأول في مسابقة السيرة النبوية العالمية، التي نظمتها رابطة العالم الإسلامي عام 1396هـ.
ويوضح الشيخ صفي الرحمن منهجه في كتابة الرحيق المختوم ، بقوله: “إني قبل أن آخذ في كتابة المقالة رأيت أن أضعها في حجم متوسط، متجنبًا التطويل الممل والإيجاز المخل؛ ولكني كثيرًا ما رأيت في المصادر اختلافًا كبيرًا في ترتيب الوقائع، أو في تفصيل جزئياتها؛ وفي مثل هذه المواقع قمت بالتحقيق البالغ، وأدرت النظر في جميع جوانب البحث. ثم أثبت في صلب المقالة ما ترجح لدي بعد التحقيق. ولكن احترزت عن إيراد الدلائل والبراهين؛ لأن ذلك يفضي إلى طول غير مطلوب. نعم، ربما أشرت إلى الدلائل حين خفت الاستغراب ممن يقرأ المقالة، أو حين رأيت عامة الكاتبين ذهبوا إلى خلاف الصحيح”.
فقه السيرة للبوطي
وهو للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.. ويتناول الكتاب السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة.. ويبدأ بمقدمات عن أهمية السيرة في فهم الإسلام وكيف تطورت دراستها وكيف يجب أن نفهمها، ثم المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية، ثم ينتقل إلى ذكر السيرة النبوية من الميلاد إلى الممات.
والكتاب يهتم بإبراز الدروس والعبر، مع بعض التعليقات والتحقيقات العلمية؛ مما يناسب الدعاة، ومن يدرسون السيرة في مراحل تعليمية.
وفي المقدمة يبين د. البوطي أنه حاول أن يجعل “الكتاب مصدرًا وافيًا لسيرة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين، مع التحليل الذي يضع القارئ أمام فقه ذلك كله، ويصله بالمعاني والمبادئ التي تعدّ ثمرة هذه الدراسة، وأهم الأغراض التي ينبغي أن تقصد من ورائها.
ويضيف: “فضلت أن أسير في كتابة هذه البحوث على المنهج المدرسي القائم على استنباط القواعد والأحكام، مبتعدًا عن المنهج الأدبي التحليلي المجرد؛ وإن كان لكلٍّ مزيته وفائدته”.
فقه السيرة للغزالي
لفضيلة الشيخ محمد الغزالي.. والكتاب رحلة ماتعة في رحاب السيرة النبوية، بأسلوب أدبي مميز، عُرف به الشيخ الغزالي، وبعاطفة جياشة تستلهم حياة النبي ﷺ القدوة.
يبين الشيخ الغزالي منهجه قائلًا: “إن حياة محمد ﷺ ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها.. وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله ﷺ، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوّة أن تدع آثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال..
ويضيف: “جعلت من تفاصيل السيرة موضوعًا متماسكًا يشدّ أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الأخرى بحيث تتسق مع وحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته. وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئًا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله”.
السيرة النبوية للندوي
للداعية الهندي الشيخ أبي الحسن الندوي.. وهو مجلد كبير يربو على الخمسمائة صفحة، وصدرت طبعته الأولى عام 1976م. وقد مهَّد الشيخ الندوي بين يدي السيرة النبوية بإطلالة فاحصة على أوضاع العالم- الروم والفرس والعرب- قبل الإسلام، ومدى ما أصابه من انحرافٍ جعله في شديد الحاجة إلى نور الوحي الخاتم الصافي.. ثم ختم الكتابَ ببحث موسع عن (فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومَنْحِها العالمية الخالدة).
وأوضح الشيخ الندوي أهمية السيرة العطرة قائلًا: “السّيرة النبويّة المحمّدية تتميّز من بين سير أفراد البشر- وفيهم الأنبياء وغير الأنبياء- بدقّتها وشمولها، واستيعابها لدقائق الحياة وتفاصيلها وملامحها وقسماتها”.
وأما عن أهم ملامح منهجه فقال: “حاولت أن يجمع الكتاب بين الجانب العلمي وبين الجانب التربوي البلاغي، لا يطغى أحدهما على الآخر، وأن يشتمل على أكبر مقدار من القطع النابضة الدافقة بالحيوية والتأثير، الآسرة للقلوب والنفوس التي لا يوجد نظيرها في سيرة إنسان ولا في تاريخ فرد أو جيل، أو دعوة أو دين، وذلك كله من غير تنميق أو تلوين، أو تحبير أو تحسين، فجمال الطبيعة والحقيقة لا يحتاج إلى تجميلات خارجية، أو تزيينات صناعية”.
محمد رسول الله.. منهج ورسالة، بحث وتحقيق
للشيخ محمد الصادق عرجون.. وهو موسوعة من أربعة أجزاء ضخمة.. وكتاب موسَّع وبه تحقيقات غاية في الأهمية..
وقد مهد المؤلف بحديث مستفيض عن (الرسالات الإلهية والعقل الإنساني).. ثم تطرق إلى (البيئة الطبيعية والاجتماعية لحياة محمد ﷺ).. ثم (أسرة محمد ﷺ.. خصائصها ومكانتها في العرب).. بجانب تناوله (إخبار أهل الكتاب ومُتَحَنِّفَة العرب بمولد محمد ﷺ وبعثته).
والكتاب كما يقول الشيخ عرجون “ليس حشدًا لروايات أحداث السيرة النبوية، وجمعها من شتيت مؤلفاتها ودواوينها في مؤلَّف واحد؛ كما صنع كثير من الأعلام في جمع كتب أمهات الحديث وغيرها من كتب الفنون التي شُهرت بالجوامع؛ ولكنه فكرة دراسية للحقائق والمعاني التي تضمنتها وقائع السيرة النبوية”.
ويضيف الشيخ مبيِّنًا منهجه: “عوّلت على أن أدرس حياة محمد رسول الله، لا محمد العبقري، ولا محمد البطل؛ وأُسجل مما أقرأ بميزاني للروايات القائم على الموازنة بينها في صحة السند وصحة المتن؛ فأيتها رجَّحت كفته في صحة السند والمتن قبلته وسجلته، وبيّنت قبوله بأمور نقلية وعقلية؛ غير أني وجدت باب المعجزات الكونية مقفلًا على العقل، فلا يصح أن يتحكم فيه؛ لأن العقل معزول عن تجاوز حدود في سُنن الله الخاصة، وباب المعجزات من هذا القبيل بشرط أن يصحّ صحة لا يعارضها ما هو أعلى منها. وجمعت مما سجلت الكثير الطيب مستعينا بالله الرحيم الودود”.
هذا عرض موجز لأهم الكتب المعاصرة التي تناولت السيرة النبوية، شرحًا وتحليلًا؛ لعله يغري بمزيد من المطالعة والمتابعة.. حتى نكون على بينة بسيرة النبي ﷺ، وبكيفية الاقتداء به.
وما أشد حاجتنا لهذه السيرة النبوية العطرة.. على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام!