امتاز الفقه بين كثير من العلوم الشرعية بأنه “علم الحياة”، فهو سيد العلوم الشرعية بعد التوحيد؛ وذلك يعود لموضوع علم الفقه وارتباطه بأفعال الناس؛ ما يعني أنه حاضر بقوة في مجالات الحياة جميعها؛ بدءا من  الطهارة والنظافة؛ انتهاء بالسياسة والحكم وتنظيم علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى، وبيان النظرة الشمولية للعلاقات الدولية، فالفقه يهتم بالإنسان فردا، والناس مجتمعا، كما يهتم بالبيئة والجماد والحيوانات والغابات والمحيطات، كما يهتم بتنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة.

تطور الفقه

نشأ الفقه – كنشأة كل العلوم- في صورة أقل تعقيدا وأقل تنظيما، فقد نشأ الفقه مع نزول الوحي من خلال الآيات القرآنية التي تبين للمسلمين أحكام الحلال والحرام، وكذلك من خلال الأجوبة التي كان النبي يجيب عنها للصحابة في الحياة اليومية، أو يبدأ هو – - توجيه المسلمين إليها؛ كالواجبات والمحرمات الشرعية، وكان فقه النبي نوعين؛ الأول: التبليغ عن الله تعالى فيما شرع لعباده، والثاني: الاجتهاد من الرسول دون انتظار نزول الوحي، لكن هذا النوع الثاني كان مؤيدا بالوحي؛ إما تأييدا بنص، أو سكوتا من الشارع عما قاله النبي .

وعلى هذا، فقد كان النبي أول الفقهاء المجتهدين وسيدهم، كما كان النبي يدرب بعض أصحابه ممن رأوا فيهم ملكة الاجتهاد؛ كما كان يفعل مع عمرو بن العاص وعلي وغيرهما، وكان بعض الصحابة – رضوان الله عليهم- يبادر أيضا بالاجتهاد إن ظهر له حكم المسألة، وإلا كانوا يرجعون إلى النبي ، وكانوا حريصين إن اجتهدوا أن يتأكدوا من صحة اجتهادهم من النبي ، وعلى هذا، فقد كان الفقه زمن النبي سواء صدر منه أو من بعض أصحابه، كان فقها نبويا بامتياز؛ مؤيدا بالوحي، وقد جمع الإمام ابن القيم أقضية النبي وفتاواه في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين).

ويمكن أن نطلق على الفقه النبوي مصطلح ( التشريع)، تمييزا له عن المرحلة التي تلته، وهو فقه الصحابة زمن الخلفاء الراشدين، فانتقل الفقه من زمن التشريع إلى زمن الاجتهاد، وفي زمن الصحابة كان هناك بعض الفقهاء معروفين بالفقهاء، أو كان يطلق عليهم ( القراء)، فكانوا هم المجلس الفقهي الذي يرجع إليه في النوازل والأقضية النازلة، فنشأ الاجتهاد الجماعي، كما كان هناك الاجتهاد الخاص الذي يبادر به بعض فقهاء الصحابة، كعمر وعلي وعائشة وابن مسعود وابن عباس وزيد وابن عمر وغيرهم من الصحابة.

التدوين الفقهي في زمن الصحابة

و في زمن الصحابة والتابعين خاصة مع من عرفوا بفقهاء المدينة السبعة، وكذلك فقهاء الأمصار ظل الفقه منحصرا في إجابة الأسئلة، ولم يأخذ شكل الدرس الفقهي للتعليم، وإنما كان القصد منه بيان الحكم الشرعي في المسائل والنوازل، ولهذا لم يعرف عن الأئمة الكبار من الصحابة والتابعين وتابعيهم كتب مؤلفة على منهج الدرس الفقهي، حتى الأئمة الأربعة، فلم يحفظ عن أبي حنيفة كتاب فقهي، ولا عن مالك، ولا عن أحمد بن حنبل، وإنما حفظ عن الإمام الشافعي كتابه ( الأم)، وكان الغالب في هذه الفترة هو العناية بالأدلة، فظهرت كتب الحديث الفقهية، على يد الإمام مالك في الموطأ، وغيره من أصحاب السنن، خاصة عند الإمام البخاري وأبي داود والترمذي، واختلطت كتب الحديث بالآراء الفقهية.

وقد سبقتها مرحلة مهمة، حيث اعتنى الصحابة بالإصلاح الفقهي، وذلك من خلال الاجتهاد في النوازل والمسائل التي لم تكن على عهد النبي ، ثم عنايتهم بالتدوين، وهو أمر يخفى على كثير من الناس، وهو ما يمكن أن نطلق عليه ( مرحلة الصحف الفقهية)، وهي الأحكام الفقهية التي تناقلها الصحابة عن الرسول ، ومن أشهرها:” كتاب أبي بكر الصديق في أمور الصدقات و الزكوات”، وكتاب عمر بن حزم في الديات، وصحيفة علي بن أبي طالب في بعض أحكام الحرم والديات وغيرها، وكتاب أنس بن مالك – رضي الله عنه- في سنة عمر، ومنسك جابر بن عبد الله في الحج، وكتاب الحسن بن علي في قول أبيه في خيار البيع، وكتاب زيد بن ثابت في فريضة الجد لعمر بن الخطاب، وصحيفة عبد الله بن عمرو في المغازي، وكذلك صحيفته الصادقة، وكتاب معاذ بن جبل في الصدقات.

وقد امتازت هذه المرحلة بنوع جديد من الاجتهاد، وهو عدم الوقوف عند ظاهرية النص، وإدراك مقاصده، وظهر هذا جليا في اجتهادات الخلفاء الراشدين، منها: اجتهادات عمر في سهم المؤلفة قلوبهم، والاجتهاد في تنفيذ حد السرقة عام المجاعة، والسماح للمرأة التي فقد زوجها أربع سنوات للزواج، أو أن يموت أقرانه، ومنع تقسيم أراضي السواد بالعراق ومصر، وهو ما نشأ عنه (مدرسة الرأي) في العراق، وهي المدرسة التي اعتنت بالنظر إلى علل النصوص ولم تجمد عند ظواهرها.

ومن ذلك اجتهادات عثمان وعلي، كالقول بالتقاط الإبل، وقد ورد النهي عنها، وكذلك تضمين الصناع، رغم أن يدهم يد أمانة، وغيرها من الأحكام.

وعلى إثر منهج الصحابة ظهر في عصر التابعين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، وكانتا المكون الرئيس لمناهج الاجتهاد والنظر في الفقه الإسلامي.

المدارس الفقهية

ثم جاء دور نشوء المذاهب الفقهية، على أيدي الأئمة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، على أن هناك مرحلة مهمة من الإصلاح الفقهي، وهو (المزج بين منهجي أهل الحديث والرأي)، وكان ذلك في بواكير نضج المذاهب الفقهية، ومن مظاهر ذلك: دراسة محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة لكتاب الموطأ في الحجاز، كما تلقى الشافعي فقه أهل الرأي عن محمد بن الحسن الشيباني بعد تلمذته للإمام مالك، مما نتج عنه مدرسة جديدة تجمع بين المدرستين، تمثلت في المذهب الشافعي، كما نحا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة منحا جديدا، حيث استدل لفقه أهل الرأي بكثير من الأحاديث.

ثم كان من الإصلاح الفقهي في هذه المرحلة إنتاج عدد من الكتب، مثل: كتب الإمام محمد بن حسن الشيباني، وموطأ الإمام مالك، والأم الشافعي، وكان الطور الأكبر في التجديد الكتابات الأصولية فيما كتبه محمد بن الحسن الشيباني ثم الشافعي في الرسالة.

كما كان من دور الإصلاح الفقهي في هذا الطور ظهور المصطلحات الفقهية والقواعد الفقهية في مراحلها الأولى: كقواعد:” اليقين لا يزول بالشك”، و”الأصل براءة الذمة”، و”العادة محكمة”، و”المشقة تجلب التيسير”، و”الضرر يزال”، و”الأمور بمقاصدها”، وغيرها.

ثم جاء طور جديد للإصلاح الفقهي من خلال اتساع رقعة التدوين في المذاهب، والعناية بالمتون والشروح والحواشي والمختصرات، وظهور المدارس النظامية فيما بعد، والعناية بتكوين الفقهاء المجتهدين في الشرق والغرب، ثم العناية بالنوازل والمستجدات خاصة في الغرب العربي.

ولقد كان لاستقرار المذاهب أثر كبير جدا في الاستقرار الاجتماعي للدولة الإسلامية الكبرى وأقاليمها، والعناية بتكوين الفقهاء داخل المذاهب بناء على أصول كل مذهب، والفتيا في النوازل والمستجدات حسب أصول ذلك المذهب، مما هو ليس مدونا في المذهب نفسه، وإن كان البعض يرى أن هذه مرحلة تقليد، فإني أرى أن هذا ليس بصحيح، فإن استواء المذاهب واستقرارها، وتكوين مدرسة فقهية ذات أصول اجتهادية، والاجتهاد في القضايا المعاصرة حسب أصول المذهب لا يعد تقليدا، وهل كنا ننتظر أن يأتي الفقهاء بعد عصر الأئمة بأصول جديدة؟!

لقد كانت مرحلة المذاهب مرحلة اكتشاف وبناء، ثم كانت المراحل التي بعدها مرحلة تطبيق وتنزيل، واستكمال للمؤسسة الفقهية واتساعها، ثم تلك الكتب الكثيرة، وإن كان فيها تكرار كبير، فإنها تعبر عن الحركة الفقهية في المدارس الموجودة، والنشاط العلمي الكبير الذي حققته المدارس الفقهية.

حضور الاجتهاد في كل عصر

وإن كان بعض الفقهاء جمد على ميراث الكتب القديمة، فإن هذا لم يمنع الفقهاء في أي عصر من العصور من الاجتهاد الفقهي في القضايا والنوازل في عصرهم، ولم يخل عصر واحد ولا قطر واحد من وجود الفقهاء المجتهدين، كل ما هنالك أن طباعة الكتب والحرص على تحقيقها وإخراجها بداعي السوق والتجارة أخرج لنا هذا الكم الهائل من الكتب، ولم يكن قصد المؤلفين ما قصدناه نحن في عصرنا، وإنما كان كل فقيه له حلقة أو مدرسة يخرج فيها تلامذته ويورثهم المنهج الفقهي في تلك المدرسة؛ امتدادا للمذهب الذي ينتمي إليه.

مدرسة الاجتهاد النصي

ثم ظهر في القرن الثامن الهجري وما بعده مدرسة جديدة تحاول أن تعطي الاجتهاد مساحة أكبر، فاتجهت إلى ( الاجتهاد من النصوص)، وعالجت التعصب للمذاهب، لكنها لم تخرج عن المذاهب في الكلية، فهم أبناء المذاهب الفقهية بتنوعها، حيث استوعبوا المذاهب جيدا، ووصل بعضهم إلى رتبة الاجتهاد، فكان يخالف مذهبه، وربما خالف ما كان عليه رأي المذاهب الأربعة، لكنهم لم يخرجوا عن مجموع الآراء داخل المذاهب الفقهية، ففتاوى الأئمة؛ ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم، هي في مجموعها لهم فيها سلف من فقهاء المذاهب، ثم هم حاولوا التدليل لها من الكتاب والسنة؛ إحياء لفقه الاجتهاد.

طور التقنين والتشريعات

ثم كان مرحلة الإصلاح في التأليف والتصنيف في العصر الحديث، حيث ظهرت مدرسة الحقوق التي صاغت كتب أصول الفقه بلغة معاصرة، وهذا ليس خروجا عن المصنفات القديمة، وإنما هو علاج لمشكلة ضعف اللغة مع تقادم الزمن، كما امتازت بعمل دراسات مقارنة بين التشريع الإسلامي والقوانين الغربية، فظهرت كتابات الشيخ مخلوف المنياوي للمقارنة بين الفقه المالكي والقانون المدني، ثم مقارنة الوزير محمد قدري باشا بين الفقه الحنفي والقانون المدني، وما قام به بقية الأعلام، مثل السنهوري والشيخ أحمد إبراهيم والشيخ أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف وغيرهم.

ثم ظهرت في هذه المدرسة مرحلة( النظريات الفقهية) ، ثم كان مرحلة التقنينات التشريعية، وكان من نتاجها  مجلة الأحكام العدلية، ثم تقنينات قدري باشا، وتقنيم مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية للقاضي أحمد بن عبد الله القاري، ثم تقنينات العائلة العثمانية، وتقنينات الأحوال الشخصية المصرية.

ثم جاء الطور الأكبر، وهو طور الموسوعات الفقهية، والتي توج بالموسوعة الفقهية الكويتية، والتي صدرت في (45) مجلدا، كان آخرها عام 2005م، وهي أول موسوعة فقهية معاصرة، تقرب الفقه الإسلامي على المذاهب السنية الأربعة، في ثوب جديد؛ يسهل الوصول إليه من خلال المداخل المصطلحية.

وهذا الدور، هو ما عناه أول أمين عام للموسوعة الفقهية الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله- حين قال: “فالفقه الإسلامي ليس تراثا نضعه في المتحف، وننفض عنه الغبار لنعرضه على الزوار، بل هو فهم للشريعة الإلهية التي ارتضاها الله للناس؛ ليهتدوا بها في حياتهم العملية، ويهدوا إليها الإنسانية. المدخل الفقهي العام، الشيخ الزرقا، ص:.18

الاجتهاد المؤسسي

وقد صاحب هذا ظهور المجامع الفقهية، مثل: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، والمجمع الفقهي بمكة، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بأوروبا، ومجمع فقهاء أمريكا الشمالية، ومجمع الفقه بالهند، ثم ظهر بعد ذلك بعض المجالس والمجامع الفقهية الأخرى، وكذلك هيئات ودور الإفتاء في العالم، ثم ظهرت المؤسسات الفقهية المتخصصة، كمنتديات الوقف ومنتديات الزكاة وفتاوى العمل الخيري، والاقتصاد الإسلامي وغيرها من التخصصات الفقهية المعاصرة.

ورغم كل جهود الإصلاح الفقهي، فما زال الفقه يحتاج إلى جهود مضاعفة في الإصلاح؛ تتعلق بمناهج التأليف والتدريس، وكذلك التأهيل والتكوين والتدريب، ومعالجة الصعوبات التي تقابل المؤسسات الفقهية التعليمية والاجتهادية، ثم على مستوى الإعلام والنشر، لكن نقاط الضعف تلك والصعوبات الأخرى لا تقلل من مسيرة الإصلاح الفقهي المشرف، وأن تكون هناك عناية أكبر في مجال التكوين والتأسيس، ثم في مجال التنفيذ والتنزيل، ثم في مجال التقييم والتطوير، وأن يتحول الفقه من شكله الصغير إلى شكل أكبر من المؤسسية والعالمية.