يعتبر علم مقارنة الأديان تخصص جديد في زمرة العلوم الشرعية. وعادة ما يقابل كل فن جديد بالرفض والغرابة والاستهجان مثلما قوبل علم الفلسفة والمنطق قديما.

العلم وعملية الدراسة والتدريس من جملة المهن والصناعة المعاصرة، فلم يعد مجرد أمر تديني، يقوم به المرء استجابة لتعاليم دينه فحسب، ولم يعد كذلك أمرا هِوائيا لملء الفراغ والتسلية أو التزود فحسب. بل أصبح مَثَله مَثَل التجارة والبيع والشراء.. وقد تباينت تصانيف العلماء للعلم وأقسامه، كما كثر في هذا العصر أنواع التخصصات؛ الطبيعية منها والشرعية والتدريبية.

وإذا ما أراد الإنسان النظر في العلوم الشرعية المعاصرة التي توفرها الجامعات فإنه سيقف على عدد من التخصصات منها اللغة العربية وآدابها، القرآن والسنة وعلومهما، وعلم أصول الدين أو العقيدة أو علم الكلام (عقيدة، سيرة، الفكر الإسلامي، الفلسفة والمنطق).. والفقه وأصوله، وانبثق من هذا المعاملات المالية المعاصرة (Islamic Banking)، ويضاف إلى مجموع هذه التخصصات تخصص مقارنة الأديان؛ وهنا لفتة موجزة عن طبيعة التخصص فيه.

ومن هنا لا يكاد يُعترف بـ علم مقارنة الأديان كتخصص في معظم الجامعات الإسلامية؛ هذا من حيث النظرة الأكاديمية. أما من حيث موقف عامة المسلمين منه فهو المعرفة السطحية الطبيعية؛ فغالبا ما يكون أول ردة فعل -كمسلم- هو: لا مقارنة بين الأديان، كيف نقارن بين الإسلام وغيره وهو أفضل الأديان.. إن الدين عند الله الإسلام.. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه.. ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم… فما حقيقة هذا التخصص يا ترى؟

النشأة والتسمية 

عُرفت جذور هذا العلم قديما ولأول مرة في الفكر الإسلامي، بأسماء متنوعة وبمناهج عدة؛ لكنها فردية غالبا، وتهدف غالبا إلى إبراز مكانة الإسلام بين الأديان، فهو مرتبط بالتبرير والدفاع والدعوة إلى الله. فقد تناول القرآنُ الكريم فيما تناول دين الإسلام وأديان غير الإسلام بالحديث بين دفتيه؛ فتنبه المسلمون إلى دراسة الأديان جميعا؛ وعرف ما كان شأنه في دراسة مفردات “الأديان والعقائد” في العالم الإسلامي بمسميات عدة؛ فقد عُهد الوقوف عليه في كتب أصول الدين والعقائد، من باب الرد على المخالف، ومن صوره: الآراء والديانات، وصف الأديان. وعرف أيضا باسم الملل والنحل بيانا ووصفا، وهو يعرف الآن بمسميات –ستأتي- تكاد تتفق الرؤية الإسلامية مع غيرها في التسمية.

أما في الفكر الغربي فقد ولد هذا الفن في منتصف القرن التاسع عشر على يد وفكر المتخصص في اللغات الألماني فريدريك ماكس مولر، حيث تنبه إلى ظاهرة الأديان وآثارها على نواحي الحياة المختلفة، وأن الدين هو الدافع الرئيسي لتحريك الناس، علاوة على أن الدين هو من أهم الأسباب والعوامل المؤثرة في اندلاع الحروب في تاريخ البشرية كما يرى، حيث إن الإنسان عدو ما جهل؛ فنادى إلى دراسة الأديان، والتعمق في كنهها وحقائقها –من باب أن الإنسان سيكون أكثر سعادة، إذا ما عرف كيف يفكر غيره، فتقلّ الحروب بين الناس بسبب الدين على الأقل ويعترف كلُّ بصاحبه من منظور التعددية، فتوجهت الجهود لتقنين ذلك، فخرج هذا العلم مقننا بأصول محكمة وجماعية بشكل أكاديمي لأول مرة في التاريخ، أو لأول مرة في التاريخ الغربي -على أقل تقدير كما يروق لبعض الباحثين-، ومن هنا سمي بالأب الروحي لعلم مقارنة الأديان. ومن ثم تباينت التسمية بناء على خلفية كل جامعة ودافع تدريسها كتخصص؛ فيسمى عند البعض بـ”علم اللاهوت Divinity” وعند طائفة “الإلهيات Theology”، وعند آخرين بـ”دراسات الكتاب المقدس Biblical Studies” أو “دراسات الأديان” أو “تاريخ الأديان” أو “الإلهيات ودراسات الأديانأو “الأديان والإلهيات“.. ولكل تسمية قصة وسبب نزول لسنا بصدد ذكره هنا.

ومن هنا، فـ  علم مقارنة الأديان ليس علم جدل ودفاع كل دين عن دينه، وإظهار جمال دينه ومميزاته عن الآخر.. بل هو لمجرد الدراسة والمعرفة البحتة كما يقولون.

 

طبيعة علم مقارنة الأديان

وعن حقيقة هذا التخصص فإن علم دراسات الأديان يعرف بأنه علم يهتم بدراسة دين أو دينين أو أكثر، أو دراسة عنصر من عناصر دين أو أكثر لغرض الوقوف على حقيقتها كما هو عند معتنقيها بمنهج موسوم واضح.

ومن هنا ينطلق هذا العلم من تعريف الدين نفسه، والمقدمات المهمة في الحقل، ومن ثم التطرق إلى فلسفة الأديان والأهداف التي تلعبها الأديان في العالم والشعوب والسياسات والعلاقات. على أن مسألة تصنيف الأديان من المقدمات المهمة في الباب. كما أن من أهم عناصر هذا الحقل إبراز المناهج الموضوعية المختلفة في دراسة الأديان. وبالطبع فإن دراسة أديان العالم عقيدة ومؤسسا وكتبا وتاريخا من لب التخصص. ومن أهم قضايا هذا الحقل ربط الأحداث والمواقف وظواهر الحياة بالأديان، من مثل المرأة في الأديان، أو الحرب في الأديان، أو حقوق الإنسان، الحرية الدينية أو الاعتقادية، موقف الأديان من العلم وبناء الحضارات، وحوار الأديان.. وما إلى ذلك. ومن الجدير بالذكر أيضا أن عملية المقارنة ليس شرطا في هذا الحقل، وإن حمل اسم “مقارنة الأديان” أحيانا. فهو ممكن لكن ليس لازما؛ ولعل هذا أمر يختلط على كثير منا؛ فيستهجن!

 

مناهج دراسة مقارنة الأديان

ومن أهم القضايا الرئيسة في هذا التخصص مسألة مناهج دراسة الأديان؛ فالدافع على الإقدام إلى دراسة الأديان في الإسلام هو الإسلام نفسه، ومن هنا فعنصر التقديس موجود دائم، ومتوفر؛ صاحب وثابت. ومع هذا فقد تنوعت مناهج علماء المسلمين في دراسة الأديان؛ فعندهم المنهج الجدلي أو النقدي ومنهج الرد، ومن العلماء السالكين لهذا المنهج الغزالي في الرد الجميل لألولهية عيسى بصريح الإنجيل، وابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. على أن هذا المنهج غير محبذ كثيرا في الفكر الغربي؛ لأنه ينافي فكرة الـتأسيس ويناقضها، إذ يهدم أكثر مما يبني كما يرون.

وعندهم المنهج التحليلي المقارن ويُذكر أبو الحسن العامري هنا في كتابه الإعلام بمناقب الإسلام. وعندهم أيضا المنهج التحليلي النقدي، ويُمثل لذلك بابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل. كما عندهم المنهج الوصفي، والشهرستاني والبيروني من أكبر ممثلي هذا المنهج قديما؛ الأول في كتابه الملل والنحل، والثاني في كتابه تحقيق ما للهند من مقولة؛ مقبولة في العقل أو مرذولة. وقد يضاف إليهم الفاروقي وعرفان عبد الحميد فتاح حديثا، الفاروقي في كتابه الملل المعاصرة في الدين اليهودي، وChristian Ethics، وعرفان في النصرانية: نشأتها التاريخية وأصول عقائدها، إضافة إلى أعمال محمد عبد الله دراز وأحمد شلبي وأبو زهرة ومحمد الشرقاوي وآخرين.

ومن جهة أخرى نجد أنه إن كان الدافع إلى دراسة الأديان عند المسلمين الدين نفسه، ففي الفكر الغربي الدافع ليس دينيا أبدا، فلا جَرَم أن لا اعتبار لعنصر القداسة؛ إلا وصفا. ولعل العامل في هذا معروف عندنا جميعا؛ فالغرب وضعوا أصول هذه الدراسة في حضارة لم تقم إلا بعد أن أُقصي الدين؛ وبعد أن أتعبهم الدين بقيادة رجال الكنيسة، وأثقلوهم بالتخلف والظلم والحرمان. (ومن هنا لا غرابة في الكتابة والقراءة عن مثل: موت الإله، ومستقبل الدين، ونهاية الدين، وتأليه الإنسان، أو استغناء العلم عن الدين). لذا تباينت مناهج دراسة الأديان في الغرب عنها في الفكر الإسلامي. فمن مناهج الغرب في دراسة الأديان “المنهج الظاهراتي“، وصف الدين كما هو ظاهر في الأعمال اليومية وطريقة العبادة والطقوس الدينية في الأفراح والأتراح. ومن الذين انتهجوا هذا المنهج عمانوئيل كانط في مواقفه الفلسفية ورؤيته إلى الدين، وإدموند هوسرل في Handbook Of The History Of Religion، وجيرالدوس فان دير ليو في Religion In Essence And Manifestation، وميرسيا إلياد في The Sacred And The Profane، ونينيان سمرت في The Phenomenon Of Religion. ومن المناهج الغربية في دراسة الأديان المنهج الفلسفي، ومن منتهجيها نينيان سمرت في كتابه world philosophies، وإيريك شارب في understanding Religion.

ومن المناهج الغربية في دراسة الأديان المنهج الأنثربولوجي أو علم الاجتماع الديني، ويذكر من علمائها سير إدوارد بيرنت تايلور في كتابه Primitive Culture، وسير جيمس فريزر في كتابه The Golden Bough، و إيمانويل دوركايم في The Elementarsitey Forms Of The Religious Life، ومنهم كليفورد غريتز في كتابه The Interpretation Of Cultures.

ومن مناهج علماء الغرب في دراسة الأديان المنهج الاجتماعي، وهو قرين الصلة بالمنهج الإنثربولوجي من حيث النظر إلى الدين كعامل أوجده المجتمع، إلا أن ضرورة تطور الدين من البدائية إلى التقدم ليس شرطا في المنهج الاجتماعي. لذا يذكر من علماء هذا المنهج من ذكر هناك، إضافة إلى نظرية كارل ماكس، وماكس ويبر في The Protestant Ethic And The Spirit Of Capitalism، وكتابه الآخر The Religion Of India. وآخر ما أذكر من مناهج علماء الغرب في دراسة الأديان المنهج النفسي، ومن رواد هذا المنهج سيجموند فرويد في كتابه Totem And Taboo، وكتابه الآخر The Future of An Illusion، ومن أوائل رواد هذا المنهج وليام جيمس في كتابه Varsiteieties Of Religious Experience.

هذه نبذة عن علم مقارنة الأديان -كتخصص دقيق له قسمه الخاص، لا كمادة تدرس في قسم العقيدة أو الفكر الإسلامي-، وما يدور حوله، والكلام يطول، وكل جزئية يصلح لمزيد شرح وتفصيل؛ غير أن الكاتب أراد إيصال تعريفه، وموضوعه، وثمرته، وفضله، وواضعه، وبعض مسائله ومناهجه.