التوازن والاعتدال هي إحدى المبادىء الأساسية للاقتصاد الإسلامي؛ فالحياة الاقتصادية في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي حياة متوازنة ومعتدلة؛ ومتناسقة مع جوانب الحياة المادية والروحية الأخرى، فهو اقتصاد وسط؛ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا يعرف التنكيس ولا الغلو؛ ولا الضرر ولا الإضرار؛ فلا مكان للتعدِّ على حقوق الآخرين, والوسطية هذه مكملة لعنصر اليسر والسهولة، ولازم من لوازمه، فإن المكلف الذي يخرج عن حد الوسطية والاعتدال، يدخل لا محالة الى دائرة العسر والحرج.
الإسلام دين وسط لا إفراط فيه ولا تفريط
جاءت الشريعة الإسلامية بمنهجٍ رباني شامل اتسم بخصائص عدة، كان منها خاصية التوازن والاعتدال، فلا يوجد في الإسلام إفراط ولا تفريط، ولا يوجد إهمالٌ أو تشدد، بل هو منهاج وسطي تميزت به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم يحقق التوازن بين متطلبات الروح والجسد، قال الله تعالى: [ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ][سورة البقرة-الآية:143].
الإسلام دين وسط لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا يعرف التطرف ولا الغلو، هو دين السلام والسماحة واليسر، وبالوسطية بُعث رسول الله ﷺ, والشريعة الإسلامية جاءت كاملة لا تحتمل زيادة ولا نقصانًا، [قال الإمام مالك: « من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً ﷺ خان الرسالة لأن الله يقول: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )(سورة المائدة-الآية:3], فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً »][1]. كما أنه خروج عن طبيعة البشر العادية، وخرق لفطرة الله التي فطر الناس عليها، فالغلو لا تحتمله طبيعة البشر، ولا يصبر عليه المكلفون، فلا يتحمله الكافة.
وبالتالي لا يصلح الغلو دينًا؛ والإسلام خطاب للكافة، والغلو لكونه خروجًا عن الفطرة فتنة وفساد كبير، وهذا ما عبر عنه النبي (ﷺ) موجهًا معاذ بن جبل لما بلغه أنه أطال بالناس في الصلاة: [ يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟! أفتَّانٌ أنت؟! اقرأ ْبكذا اقرَأْ بكذا، قال أبو الزُّبَيرِ بـ ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ), وفي روايةٍ: يا مُعاذُ، لا تكُنْ فتَّانًا؛ فإنَّه يصَلِّي وراءك الكبيرُ والضَّعيفُ وذو الحاجةِ والمسافِرُ ][ أخرجه البخاري (701)، ومسلم (465)]
فكان عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة وسطاً ليس فيها إطالة تشق على الناس[2], وكان غضب النبي ﷺ لعدم مراعاته لظروف الناس، وفيه شدة كراهة النبي ﷺ لكل ما يؤدي من قريب أو بعيد إلى التعسير والتنفير.
فالمتشدد الغالي هو كالمنبت (المنقطع) الذى أخبر عنه نبينا ﷺ، وبين أن سعيه بلا جدوى فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ومن هنا كانت سماحة الدعوة تقتضى أن نبتعد عن الغلو، وأن نكلف من الأمر ما نطيق استجابة للتوجيه النبوي, قال رسول الله ﷺ: [علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَادَامَ عليه صَاحِبُهُ][صحيح مسلم-رقم الحديث:782]، ولا يغيب عن الأذهان الحقيقة التي أسداها النبي ﷺ ، وهي أن أمر الدين شديد، فمن أوغل فيه فليوغل برفق.

كذلك يتضح من مفهوم الغلو أنه يشتمل على جور وظلم، ففي الغلو إهمال لحق يجب أن يُرعى؛ ولذا قال الحكماء: (ما رأينا إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع)، ولقد كان النبي ﷺ وصحابته رضي الله عنهم ينكرون على المبالغين في التنفل متناسين حقوق ذوي الحقوق[3].
الوسطية والاعتدال.. الطريق لفهم معاني الإسلام[4]
الوسطية حق وعدل وخير ومطلب شرعي أصيل ومقصد أسمى ومظهر حضاري رفيع، فهي أفضل الأمور وأنفعها للناس، كما أنها الاعتدال في كل أمور الحياة ومنهجها. وهي الاستواء والاستقامة والتوسط بين حالتين، بين مجاوزة الحدّ المشروع والقصور عنه.
الوسط: لغة بين طرفي الشيء, والوسطية: توسط بين الطرفين؛ وهو ما يعبر عنه لغة بالاقتصاد، أي موقف الوسط والاتزان، فلا إفراط ولا تفريط, قال الله تعالى:[ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ][سورة فاطر-الآية:32]، ولا شك أن دين الإسلام دين توسط واعتدال، دين حق وعدل، دين رحمة وسماحة، دين محبة وإخاء ، فالوسطية اختيار من الله تعالى لهذه الأمة, ومنهج لتحقيق الأمن والسلام بين الأفراد وزرع الثقة والطمأنينة والإحساس بالآخرين وتحقيق التعاون والتكافل بين الأغنياء والفقراء.
الوسطية هي الإعتراف بحرية الآخرين في حدود الشرع
الوسطية لا تعني سلب الحرية من الآخرين؛ بل هي الاعتراف بحرية الآخرين؛ ما دام هذه الحرية في حدود الشرع, والوسطية جمع بين المادي والروحي وتلك ميزة الإسلام، ذلك أن للإنسان جسد وروح؛ لقول الله تعالى: [ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ][سورة القصص-الآية:77] .
لقد جاء الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، يأخذ من كلٍ بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره؛ ولذلك سمي “دين الفطرة.
والوسطية وسط واعتدال بين الإغراق في الدين أو الذوبان في الروحانيات والإقبال على الدنيا وشهوتها، وهي استواء واستقامة في الاعتقاد والسلوك والمعاملة والأخلاق؛ وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق؛ وليس فيه مغالاة في الدين ولا تطرف ولا شدود في الاعتقاد؛ ولا تهاون ولا تقصير ولا استكبار ولا خنوع أو ذل أو خضوع أو عبودية لغير الله تعالى ، ولا تعصب ضد الآخرين ولا رفض لهم ولا اكراه أو إرهاب أو ترويع بغير حق؛ كما لا إهمال في دعوة الناس الى دين التوحيد بالحكمة و الموعظة الحسنة, وهو الدين الأيسر والأسهل، والأبعد عن الشدة والقسوة.
قال الله سبحانه: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ][سورة البقرة الآية: 185]؛ وقول الله تعالى: [ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ][سورة الحج-الآية:78] .
التدرج و الاعتدال والوسطية [5]
التدرج معناه: التنقل من مرحلة إلى مرحلة، أو الصعود من درجة إلى درجة أعلى. والتدرج سنة من سنن الله تعالى في هذا الكون؛ حيث نلاحظ ذلك في أنفسنا وفي الآفاق من حولنا, وقد خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقها في أقل من طرفة عين، ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها: كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلِّم العباد الرفق والتثبت في الأمور كلها.
وحكمة أخرى من خلق السماوات والأرض في ستة أيام هي أن لكل شيء عنده أجلا, وهذه السنة جارية على الإنسان والحيوان والنبات, والتدرج سنة من سنن الأنبياء والدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان، فقد بدأ النبي ﷺ بالدعوة إلى كلمة التوحيد, وظل يتدرج في دعوته شيئاً فشيئاً والقرآن يتنزل عليه طيلة ثلاث وعشرين سنة إلى أن أكمل الدين ونزل قول الله تبارك وتعالى: [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ][سورة المائدة-الآية:3].

فكمل الدين في هذه المدة الطويلة بعد تدرج متأن، ومراحل متتابعة يسلم بعضها إلى بعض، فلم ينتقل نبيناً محمد ﷺ إلى الرفيق الأعلى حتى نعمت الجزيرة العربية بظلال الإسلام في تدرج وحكمة. وهكذا تابع خلفاؤه الراشدون (أبو بكر الصديق؛ ثم عمر بن الخطاب؛ ثم عثمان بن عفان؛ ثم علي بن أبي طالب) وصحابته الكرام ” رضي الله تعالى عنهم أجمعين “هذه المسيرة، وكذلك من سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا.
وأما التوازن فيقصد به: الاعتدال والوسطية وعدم الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير, وهذه سمة الإسلام البارزة وطبيعته الدائمة, فهو وسط في الأخذ بالمادة وعدم الغلو في الروحانية, فلا مقارنة بين الإسلام وبين غيره من الأديان والنظم والفلسفات في هذا الجانب أو أي جانب آخر, فالإسلام دين التوازن بين الروح والجسد؛ وبين الماديات والمعنويات؛ وبين الإنتاج السلعي والخدمي وبين العبادات, وبين الدنيا والآخرة, إلاّ أنه يجب أن نعلم بأنه: [وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [سورة الأعلى-الآية:17]؛ [وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ][سورة الضحى-الآية:4]؛ [وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ][سورة النساء-الآية:77]؛ وأن الدنيا هي مزرعة الآخرة.
وهذا التوازن القائم على العدل يجب أن يكون ملائما وموافقاً مع فطرة الإنسان التي فطره الله تعالى عليها؛ وهو قيام الاقتصاد الوطني على التوحيد الذي هو أساس الاسلام. ويتضح توازن الإسلام في منهج أهل السنة والجماعة القائم على الوسطية بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير, ونلاحظ ذلك في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات, فهو منهج وسط غير جانح إلى الغلو كالنصارى، وغير جانح إلى التقصير كاليهود. وباختصار فإن التوزان يعني: الاستقامة التي لا اعوجاج فيها، والسداد والمقاربة التي لا غلو فيها ولا تقصير.
من مظاهر التوازن والاعتدال في الإسلام[6]:
1- الإعتدال في الإنفاق:
وضعت الشريعة الإسلامية منهجاً واضحاً متوازناً في إنفاق الأموال، فلا تقتير على النفس ولا تضييق عليها، ولا إسراف أو تبذير ولا إقتار, بل هناك ضوابط وحدود شرعية يجب على المسلم التمسك بها عند الانفاق والصرف.
2- الإعتدال في المأكل والمشرب:
المسلم معتدل في طعامه وشرابه, فقد بين النبي عليه الصلاة والسلام الميزان الحق، والمقدار الصحيح الذي يحقق سلامة الإنسان البدنية، ويحافظ على صحته بقوله ﷺ: [ ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أكلاتٍ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كان لا محالةَ: فثلُث لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه وثُلُثٌ لنفَسِه ][سنن الترمذي-رقم الحديث:2380] .
3- الإعتدال في العبادة:
على الرغم من أنّ العبادة هي أمرٌ ممدوح؛ يدلُّ على إيمان الإنسان وتقواه، إلا أنّ الإسلام أمر بالرفق بالنفس، وعدم تحميلها ما لا تطيق من الأعمال، بل على المسلم أن يؤتي كل شيء في الدنيا حقه، فكما أنّ لربه عليه حق في العبادة، فإن لأهله حق في الرعاية، ولنفسه كذلك.
4- الإعتدال في المحبة والبغض:
وضعت الشريعة الإسلامية منهجاً شاملاً وسطاً حتى في المشاعر الإنسانية، فإذا أحب المسلم عليه أن يحبّ بقدرٍ دون مغالاة، وكذلك إذا كره، والسبب في ذلك أنّ النفوس الإنسانية متقلبة متغيرة، فربّما ابتعد عنك يوماً من تحبه حبّاً شديداً، مما قد يؤثر في نفسك، ويؤذيها أيما إيذاء.
5- الإعتدال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يدرك المسلم أنّ عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه يراعي المفاسد التي قد تترتب على نهيه، ويوازن بينها وبين المصالح التي ستعود عليه من فعله هذا، وكلما كان المسلم متوازناً معتدلاً في أمره ونهيه؛ مراعياً في ذلك أحوال البشر وطباعهم المختلفة، حصد ثمار عمله دون أن تذهب سُدى.
6- الإعتدال في التعامل مع الأعداء والمخالفين:
المسلم مأمورٌ بأن يشهد بالحق، وأن يعدل بين الناس ولو كانوا أعداء له، لأن ذلك من علامات المتقين، قال الله تعالى: [ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ][سورة المائدة -الآية:8].
الوسطية في الحياة الروحية والمادية للفرد المسلم
لم يطلب الإسلام من المسلم أن يعتزل الناس والحياة، ليتعبد الله في صومعة أو يترهب في دير، بل أنكر على الذين ابتدعوا الرهبانية من عند أنفسهم، ثم لم يرعوها حق رعايتها. وقد أنكر رسول الله ﷺ، على من غلا من أصحابه في العبادة أو الزهد، مبينا لهم طريق الاعتدال، ومنهج التوازن، وهو طريقه ومنهجه ﷺ، أي سنته التي يجب اتباعها، ولا يجوز رفضها.
والدليل على التوسط هو ما ورد أنه: [جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي][ صحيح البخاري-رقم الحديث:5063].
وشرح الحديث: [ في هذا الحديث يخبر الصحابي الجليل: أنس بن مالك رضي الله عنه أنه جاء ثلاثة رهط -والمقصود ثلاثة رجال- إلى بيت النبي ﷺ، وسألوا عن عبادته ﷺ، فأخبروا بكمها وكيفها، فكأنهم تقالوها، أي: رأوها قليلة، وقالوا: أين نحن من النبي ﷺ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟. فعزم أحدهم على قيام الليل أبدا دون انقطاع، والثاني: على صيام الدهر وألا يفطر، والثالث: ألا يتزوج أبدا، ويعتزل النساء.
فلما علم النبي ﷺ بمقالتهم جاءهم, وقال لهم مستنكرا عليهم: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، أي: مع كوني أكثركم خشية لله وأكثركم تقوى له، ولكني مع ذلك لا أبالغ في العبادة المبالغة التي تريدون؛ فإني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأقوم وأنام؛ وذلك لأن المتشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد؛ فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، ثم حذرهم النبي ﷺ من الغلو والابتعاد عن سنته في العبادة.

فقال لهم: « فمن رغب عن سنتي فليس مني »، أي: فمن أعرض عن نهجي وطريقتي فإنه بعيد كل البعد عن متابعة النبي ﷺ. فإن كان ميله عن سنته ﷺ عن كره لها؛ أو عدم اعتقاد بها؛ كان كافرا خارجا عن الإسلام. وإن كان ميله عنها لغير ذلك، فإنه مخالف لطريقته ﷺ السهلة السمحة التي لا تشدد فيها ولا عنت.
وفي الحديث: الأمر بالترفق في العبادة، مع المحافظة عليها وعلى الفرائض والنوافل؛ ليراعي المسلم حقوق غيره عليه. وفيه: الزجر عن التشديد على النفس في العبادات بما لا تطيق. وفيه: بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حرص على العبادة وهمة عالية في التقرب إلى الله عز وجل.][7].
إن الحياة الروحية الإسلامية لا تقتضي من المسلم أن يديم صيام النهار، وقيام الليل، وبذلك يجور على حق بدنه في الراحة، وحق عينه في النوم، وحق أهله في المؤانسة، وحق مجتمعه في المعونة، وهذا ما أوصى به الرسول ﷺالصحابي الجليل: عبدالله بن عمرو، حين تفرغ للصيام والقيام والتلاوة، وغفل عن حق نفسه، وحق زوجه، وحق زواره، فأمره النبي بالاعتدال في ذلك قائلا: [ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ][صحيح البخاري-رقم الحديث:4903]. والحياة الروحية في الإسلام لا تستوجب من المسلم أن يحرم على نفسه طيبات الحياة الدنيا، كما صنعت المانوية في فارس، البرهمية في الهند، والبوذية في الصين، والرواقية في اليونان، والرهبانية في الديانة النصرانية[8].
الأمر بالإعتدال والتوازن
القرآن الكريم في غير موضع منه، شدَّدَ الإنكار على الذين حرموا طيبات ما أحل الله للإنسان، وبين لهم أن الله تعالى خلق لهم ما في الأرض جميعاً، وما كان سبحانه وتعالى ليخلقها لهم، ثم يحرمها عليهم, فكل ما طلبه منهم أن يتناولوها باعتدال، بلا إسراف ولا تقتير، وألاّ يعتدوا فيها على حقِّ أحد، وأن يشكروا نعمة الله فيها، بالاستعانة بها على طاعته وعدم استخدامها في معصيته وإفساد أرضه.
قال الله تعالى: [ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ][سورة الأعراف-الآية:31], ويقول الله تعالى: [ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ][سورة النحل-الآية:114] ، وقال الله تعالى: [ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ][سورة البقرة-الآية:60] ، وقول الله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ][سورة المائدة-الآية:87] .
الوسطية والإنتفاع المثلى الحلال من التطور الاقتصادي والحضاري العالمي
الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي؛ فليست معنى مجرداً بل سلوكاً ومعاملة ومنهجاً وفكراً ينبغي التعامل به، وفي الاقتصاد العالمي اليوم نحن أحوج اليها من أي وقت آخر, لأن الوسطية ترشد البلدان الاسلامية كيفية التعامل المالي والاقتصادي الضروري للوقوف بوجه التطورات العالمية؛ وكيفية الانتفاع منها؛ ومواكبة التطور التكنولوجي العالمي؛ من دون خسارة في الأنظمة الاخلاقية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
يقول الله تعالى: [ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ][سورة الزمر-الآية:18], فهنا نستفيد من هذه الآية الكريمة في الإسترشاد بالانتفاع المثلى والشرعيّ من أي تطور عالمي يتحقق في الاقتصاديات الغربية والعالمية الأخرى؛ والانتفاع هذا يبدأ أولاً بتصفية التطورات والترقيات والتحديثات والإبداعات المادية والفكرية العالمية بالمصافي الشرعية؛ ثم ذبّ المثالب والعيوب والغير الملاءمة منها مع الشريعة الاسلامية؛ والإبقاء على النظيف وغير المتناقضة منها مع الشريعة الاسلامية؛ والإنتفاع منها من غير حرج.
وهذا يعني نبذ وتجنب الجمود الاقتصادي والحضاري من قبل البلدان الاسلامية؛ وتوجهها نحو التطور والتنمية والتقدم الاقتصادي والحضاري؛ ثم نحو ازدياد دخولها القومية؛ من خلال ازدياد الناتج المحلي ثم ازدياد الناتج القومي لها, ثم بالأخير ازدياد الدخل القومي, ثم ازدياد متوسط الدخول الفردية, ثم ازدياد الرفاهية المادية والاقتصادية والاجتماعية فيها.
معنى الحنيفية والحنفية وعلاقتها بالإعتدال
الحنيفية يعني: [ الاستقامة على الإسلام وشرائعه دون اليهودية والنصرانية والمشركة ][9] , أما الحنفية فهي: [ ملة الإسلام التي كان عليها إبراهيم عليه السلام والأنبياء، وقد أمر الله عزَّ وجلَّ نبيّه والمؤمنين باتباعها، قال سبحانه وتعالى: ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )(سورة آل عمران-الآية:95), والحنيف هو المسلم، سمي بذلك لميله وعدوله عن الشرك وأمور الجاهلية إلى توحيد الله تعالى وأخلاق أهل الحنيفية السمحة.
فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الأديان أحب إليك؟ قال: الحنيفية السمحة. والحنيفية السمحة هي التي تلائم فطرة الناس، وهي التي لا غلو فيها ولا تقصير. والحنفية تطلق أيضاً على أحد مذاهب أهل السنة المشهورة، وهي نسبة إلى مؤسس المذهب وإمامه أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه المتوفى سنة 150 ببغداد.][10].
الوسطية في سيرة رسول الله ﷺ
من يتأمل المنهج الذي جاء به القرآن الكريم وما دعا إليه رسول الله ﷺ في كل مجالات الحياة؛ ويتتبع أحكام الشريعة؛ يجد الإعتدال واضحاً، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتمثل الوسطية والاعتدال في شخصيته وسماته وأفعاله؛ فكان حليمًا، لكن الحلم الذي لا يصل إلى الضعف، فإن تطلب الأمرُ قوة وشجاعة كان كذلك, وكان كريمًا سخيًّا؛ لكن الكرم والسخاء لا يقوده إلى التبذير والإسراف, وكان حييًّا شديد الحياء، لكن الحياء لا يمنعه من الجرأة في تعليم الناس أمور دينهم, وهكذا في سائر الخصائص والسمات.
وأخبر النبي ﷺ أن الله بعثه بدين وسط، دين تتجلى فيه السماحة والاعتدال، قال رسول الله ﷺ: [ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ][مسند أحمد بن حنبل-رقم الحديث:22291], [والمَقْصودُ أنَّه أُرسِلَ بالدِّينِ السَّهلِ في أُصولِه وفُروعِه، فكلُّها وسَطٌ لا إفْراطَ ولا تَفْريطَ، وتُحصِّلُ جَميعَ المَصالحِ، وتَدْرأُ جَميعَ المَفاسِدِ.][11] ، وقول رسول الله ﷺ: [ أَحَبُّ الدِّينِ إلى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ][ المعجم الأوسط للطبراني-رقم الحديث:7351.], ونلمس معاني الوسطية في مواضع لا تكاد تحصى من سيرت رسول الله ﷺ.
وورد في الصحيح أنه: [ما خُيِّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ، حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ][صحيح البخاري-رقم الحديث: 6786], وشرح الحديث: [كان النبي ﷺ رؤوفا رحيما، وكان يحب التيسير على المسلمين في كل الأمور المحتملة لذلك، ومع ذلك فإنه كان وقافا عند حدود الله ومحارمه، ويغضب لله أشد الغضب حتى يزال الحرام، فكان ﷺ يوازن بين ما فيه مصلحة للعباد وبين ما يكون حقا لله تعالى.
وفي هذا الحديث تخبر الصحابية الجليلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان دائما ما يميل عند الاختيار إلى السهل اليسير، إلاّ أن يكون في ذلك وقوع في الحرمات أو المعصية، فإذا رأى أن في التيسير دخولا في الإثم فإنه يأخذ بالعزائم والشدة. وكان من حسن خلقه ﷺ أنه كان يسامح في حق نفسه؛ فلم يكن ﷺ ينتقم ويبطش بأحدٍ إلاّ إذا انتهكت حرمات الله بالتعدِّي عليها وارتكاب المعاصي، فحينئذ يكون أشد الناس انتقاما للأخذ بحق الله.
وفي هذا الحديث إرشاد المسلمين إلى أن يكون سبيل حياتهم على التيسير والمسامحة والبعد عن التشدد المبالغ فيه، مع الوقوف عند حرمات الله وحدوده؛ فلا ترتكب المعاصي والذنوب، ولا ينتهك حق الله في المجتمع المسلم، فإذا حدث ذلك وجب على المسلم الغضب لله مقتديا برسول الله ﷺ، مع مراعاة وضع الأمور في نصابها، وأن يكون الغضب في محله ولا يتجاوزه إلى أكثر منه؛ حتى لا يفسد من حيث أراد الإصلاح.][12].
الحنيفية السمحة ورفع الحرج عن الناس والإعتدال [13]
الأصل في الدين عند الله تعالى ألَّا يكون فيه حرج ولا تضييق ولا شدة على الناس، ولا فيما يكون أكبر من وسعهم؛ لأن الدين جاء من أجل رفع الحرج عن الناس وإرشادهم لما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرهم في الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: [ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ][سورة الحج-الآية:78].
ففي هذه الآية بيان الارتباط بين رفع الحرج عن الناس في الدين؛ وبين مِلَّة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لذلك فقد كان التكليف المُلْقى على المُكَلَّفين من الناس بموجب هذا الأصل “التيسير” فيقول الله سبحانه وتعالى: [ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ][سورة البقرة-الآية:286] فكل التكاليف التي أمر الله تعالى بها عباده هي ضمن استطاعة الإنسان، بمعنى أنه يستطيع أن يقوم بأعبائها من غير حرج.
وبهذا المعنى يقول رسول الله ﷺ: [ إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ][ صحيح البخاري-رقم الحديث: 39], إن: [دين الإسلام هو دين اليسر، وقد حث النبي ﷺ على ملازمة الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيقه العامل، ويمكنه المداومة عليه، وأن من شادَّ الدين وتعمق انقطع، وغلبه الدين وقهره. وقد أسس ﷺ في أول الحديث هذا الأصل الكبير، فقال: «إن الدين يسر»، فهو ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه، وفي أفعاله وتروكه.
ثم وصى بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس، والتسديد: هو العمل بالقصد، والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه، من غير إفراط ولا تفريط. وقوله: «وقاربوا»، أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه. وقوله: «وأبشروا»، أي: بالثواب على العمل وإن قل. ثم أرشد النبي ﷺ إلى ما يساعد على السداد والمقاربة، فقال: «واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة»؛ فهذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل والسير إلى الله تعالى؛ فالغدوة: أول النهار، والروحة: آخره، والدلجة: سير آخر الليل، وسير آخر الليل محمود في سير الدنيا بالأبدان، وفي سير القلوب إلى الله بالأعمال.

وقال: وشيء من الدلجة، ولم يقل: والدلجة؛ تخفيفا؛ لمشقة عمل الليل. وصدر هذا الكلام منه ﷺ كأنه يخاطب مسافرا يقطع طريقه إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه التي يزكو فيها عمله، فشبه الإنسان في الدنيا بالمسافر، وكذلك هو على الحقيقة؛ لأن الدنيا دار انتقال وطريق إلى الآخرة، فنبه ﷺ أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم. وفي الحديث: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.][14].
ويأتي اليُسْر في الدين من خلال أحكامه التي جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعة للمُكلَّف، فمن أمثلة التيسير هي الرُّخَص التي منحها الله تعالى لعباده في بعض الأحكام تيسيرًا لهم ومراعاةً للظروف التي قد يمرُّون بها من سفر أو مرض أو اضطرار وما إلى ذلك، قال رسول الله ﷺ: [ إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه ، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه ][ رواه أحمد (2/108) ، وابن خزيمة (905 و1900)]، وسماحة مِلَّة إبراهيم عليه السلام هي التي دعت خليل الله إبراهيم عليه السلام وأعطته الرخصة في أن يستخدم التورية ويقول لذلك الحاكم الظالم في مصر: إن زوجته سارة هي أخته وليست زوجته من أجل ألَّا يقتله.
التعاون والتراحم وتحقيق الاعتدال والتوازن[15]
يحثّ الإسلام المسلمين على التعاون والتراحم فيما بينهم, يقول الله تعالى: [ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ][سورة المائدة-الآية:2] ومن ذلك التعاون فيما بينهم اقتصاديًا؛ فقد وجهت التشريعات الإسلامية أغنياء المسلمين إلى التعاون والرحمة بفقرائهم، ووجّهتهم إلى تقديم يد العون والمساعدة لهم؛ مما قوَّت النظام الاقتصادي ثم النظام الاجتماعي للبلدان الاسلامية على مرِّ العصور، أما المجتمعات التي تتبنى أنظمة اقتصادية وضعية؛ فإنها تعاني دوماً من الصراعات الطبقية والتمايزات الفئوية بين طبقاتها الاجتماعية المختلفة؛ مما تعاني دائما أو بصورة دورية ومتكررة من الآزمات الاقتصادية والتفككات الاجتماعية والفساد الخُلقي.
ومن الجدير بالذكر أنّ الإسلام يخبر المسلمين بأنهم إخوة فيما بينهم, يقول الله تعالى: [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ][سورة الحجرات-الآية:10]، وأن المال الذي معهم في حقيقته مال الله تعالى, يقول الله عزَّ وجلَّ: [ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ][سورة النور-الآية:33]، وقد أمر بجعل نصيب منه للفقراء والمساكين والمحتاجين، مما يعين بل ويكون سبباً رئيساً لتحقيق الألفة والمودّة بين المسلمين.
الضوابط الأخلاقية في الاسلام
والاقتصاد الإسلامي محاط ومنصهر بأحكام شرعية كثيرة من الضوابط الأخلاقية؛ لتمشية وتفعيل عمليات التنمية والتطور الاقتصاديين للبلد الاسلامي. فلم يجعل العملية الاقتصادية بمنأى عن الخُلق الكريمة، ويظهر ذلك في التشريعات والضوابط التي أقرّها؛ منها ما يلي:
- 1-تحريم الربا والغش والاحتكار وغيرها من الأساليب التي تعود على أفراد المجتمع الاسلامي والدولة بالضرر.
- 2-الاهتمام بنظام التكافل الاجتماعي من خلال الأمر بإخراج الزكاة، والحثّ على الصدقات بأنواعها من الواجبة والتطوعية، ومختلف الوسائل التي تعزز الانتماء للمجتمع والبلد الاسلامي.
- 3-تحريم اكتناز الأموال؛ والحثّ على استثمارها؛ فيما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع والبلد الاسلامي بشكل عام.
- 4-النهي عن استخدام الثروات فيما يضر بالناس أو في الحصول على المكاسب والمناصب الاجتماعية، بأساليب غير شرعية كالرشوة والمحسوبية والعرقية واللون والنوع .
التأكيد على إشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع الاسلامي
للإنسان حاجات أساسية لا يستطيع العيش دونها؛ كالحاجة الى الماء والغذاء الملبس والمسكن، وقد اعتنى النظام الاقتصادي الإسلامي بتوفير هذه الحاجات بشكل لازم لكل إنسان، وذلك عبر وسائل متعددة ومتدرجة، وفيما يلي بيان لبعض من هذه الوسائل[16]:
1-الأصل أن يسدّ الإنسان حاجته بنفسه ولذا حثّ الإسلام على العمل والاجتهاد لأجلها، قال الله تعالى: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ][سورة الجمعة-الآية:10], وتفسير الأية: [فإذا سمعتم الخطبة، وأدَّيتم الصلاة، فانتشروا في الأرض، واطلبوا من رزق الله بسعيكم، واذكروا الله كثيرًا في جميع أحوالكم؛ لعلكم تفوزون بخيري الدنيا والآخرة.][17], [أى : فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه ، فانتشروا فى الأرض ، وامشوا فى مناكبها ، لأداء أعمالكم التى كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة ، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق ، من فضل الله تعالى ومن فيض إنعامه] [18], [ إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم .
” وابتغوا من فضل الله ” أي من رزقه…. وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ; إنما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز ، وزيارة الأخ في الله تعالى. ] [19].
2-تلتزم الدولة بتوفير العمل للقادرين عليه.
3-إذا عجز الإنسان عن سدّ حاجته بنفسه، يجب ضمان الانفاق عليه وفق أحكام الشريعة الاسلامية؛ كالنص الفقهي التالي: [ أحكام نفقة الأقارب: (فصل) في أحكام نفقة الأقارب: النفقة مأخوذة من الإنفاق، وهو الإخراج. ولا يستعمل إلا في الخير. وللنفقة أسباب ثلاثة: القرابة وملك اليمين والزوجية. الأول: (ونفقة العمودين من الأهل واجبة للوالدين، والمولودين) أي ذكورا كانوا أو إناثا، اتفقوا في الدِّين أو اختلفوا فيه، واجبة على أولادهم. (فأما الوالدون) وإن علوا (فتجب نفقتهم بشرطين: الفقر) لهم.
وهو عدم قدرتهم على مال أو كسب، (والزمانة، أو الفقر والجنون). والزَّمانة هي مصدر زَمِنَ الرجلُ زَمانةً إذا حصل له آفةٌ؛ فإن قدروا على مال أو كسب لم تجب نفقتهم. (وأما المولودون) وإن سفلوا (فتجب نفقتهم) على الوالدين (بثلاثة شرائط): أحدها (الفقر والصِغر)؛ فالغني الكبير لا تجب نفقته، (أو الفقر والزمانة)؛ فالغني القوي لا تجب تفقته، (أو الفقر والجنون) فالغني العاقل لا تجب نفقته.][20].
4-إذا لم تتمكن أسرة الإنسان من سدّ حاجته أيضًا؛ وجب الإنفاق عليه من أموال الزكاة. 5-إذا لم تكفِ أموال الزكاة في سد حاجة الإنسان؛ وجب سدّها من أموال بيت المال الأخرى. 6-إذا لم تكفِ أموال بيت المال لسدّ حاجة المحتاجين؛ وجب على الأغنياء سدّ حاجة الفقراء.
شموخ الاقتصاد الإسلامي وذبول الاقتصاديات الوضعية عبر العصور التاريخية المتتالية
يغلب على الأنظمة الاقتصادية الوضعية النظر إلى جانب واحد من الحقيقة وإغفال الجوانب الأخرى؛ مما يؤدي إلى اختلالها وضعفها، أما نظام الاقتصاد الإسلامي فقد جاء معتدلًا متوازنًا لكون مصدره الأساسي هو الأحكام الشرعية؛ فلا يطغى فيه جانب حق الفرد على جانب حق المجتمع؛ كما هو الحال النظام الرأسمالي الوضعي؛ الذي يعتنى بحماية الملكية الفردية المطلقة الطاغية على الاقتصاد الوطني للبلدان الرأسمالية.
في حين يغفل حق المجتمع، فنتج عن ذلك أضرار اقتصادية واجتماعية كثيرة, وأدت الى وقوع المجتمعات الرأسمالية في دوامات كثيرة ومتنوعة ومتتالية ومتجددة من الأزمات الاقتصادية, ومن الأمثلة العملية لهذه الأزمات هي مرور النظام الرأسمالي الوضعي الغربي بهذه الأزمات: [ أزمة 1772 الائتمانية ، أزمة عام 1825 , 1836 , 1857 ، 1866، 1873، 1882، 1890، 1900، 1920 , 1921 , 1929 حتى 1933، 1973, 2013, 1997 , 2008 ] .
أما النظام الاشتراكي الوضعي: فهي على العكس من النظام الرأسمالي الوضعي ؛ حيث يعتمد على الملكية العامة أو الاشتراكية أو الجماعية المطلقة الطاغية على الاقتصاد الوطني لبلدانها؛ فقد حرص واضعوه على تحقيق مصالح بلدانها من خلال الطغيان الاقتصادي العام او الجماعي او الاشتراكي على مجتمعاتها وتحريم أفرادها من المصالح الاقتصادية الفردية الانتاجية والاستثمارية ومن الربحية الفردية، فأغفلوا وقمعوا بذلك حقوق الأفراد ، فأدى ذلك إلى ظلمهم ومنعهم من حقوقهم في حرية التملّك والعمل والانتاج ذي الربح الفردي.
أما الاقتصاد الإسلامي فهو النظام الاقتصادي الوسط بين هذا وذاك؛ فمنذ مجيء الاسلام ونشوءه نظامه وعبر العصور المختلفة المتتالية؛ نجده قد وازن بين حقوق الافراد ومصالح المجتمع؛ بما كان يؤدي دوماً إلى تحقيق الاعتدال والتوازن؛ والعدالة في المجتمعات الاسلامية؛ مما ضمن له بقاءه وشموخه وتطوره وتنميته عبر الآفاق المستقبلية المتتالية والى الآن .
شمولية الاقتصاد الإسلامي وتحقيق العدالة والاعتدال
الاقتصاد الإسلامي يحقق ثلاثة أنواع من المقاصد هي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات, فالضروريات: هي المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس، كحفظ الدين بأركانه، والدعوة إليه وردّ الاعتداء عنه، وحفظ النفس من الاعتداء عليها وحمايتها، وحفظ العقل بتحريم ما يفسده من مسكر، فالعقل خلقه الله تعالى ليكتشف ويطور ويبدع ويرتقي بالإنسانية، وحفظ النسل بالزواج، للحفاظ من الوقوع في فاحشة الزنا، وحفظ المال بإباحة المعاملات المالية، وتحريم كسبها من حرام، كالاحتيال أو السرقة أو التهديد أو الربا.
أما الحاجيات فهي: الأمور التي يحتاجها الناس لرفع المشقَّة والحرج عنهم؛ بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج, فمثلا أوجب الله علينا الصيام في شهر رمضان، وهذا تشريع عام لجميع الناس، لكن هؤلاء الناس فيهم مريض إن صام لحقه ضرر من الصوم؛ فالرجل هنا أصبح في ضيق ومشقه فهو لا يقوى على الصيام, وكان لابدّ من حكم يرفع عنه هذا الضيق، فوضع الله تعالى الاستثناءات لأصحاب الحاجات ليرفع عنهم الحرج، فأباح لهم الفطر ثم يقضوا بعد شفائهم من المرض, قال الله تعالى: [ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ][سورة البقرة-الآية:184],
أما التحسينات من المصالح فهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العادات، ومكارم الأخلاق، مثل الطهارات بالنسبة للصلوات، وأخذ الزينة من اللباس، ومحاسن الهيئات، والطيب، وتحريم الخبائث من المطعومات، والرفق، والإحسان، وما أشبه ذلك. والمصالح التحسينية هي التي لا تكون في محل الضرورة والحاجة، بل هي تقرير الناس على مكارم الأخلاق والشيم[21].
فلذلك إذا حوفظ على الضروري ، فينبغي المحافظة على الحاجي ، وإذا حوفظ على الحاجي ، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي ، وأن الحاجي يخدم الضروري; فإن الضروري هو المطلوب.
ويترتب على هذه المقاصد القواعد الفقهية، منها: ” الضرر يُزال “، و ” يُدفع الضرر العام بالضرر الخاص “، و ” درء المفاسد أولى من جلب المصالح “، و ” الضروريات تُبيح المحظورات “، ” والضرورة تُقدر بقدرها “، و” المشقّة تجلب التيسير “، وبهذه المقاصد الكلية والقواعد الفقهية المستنبطة، وسعت الشريعة الإسلامية كل الجوانب الحياتية، للفرد والأسرة والمجتمعات والأمة الإسلامية[22].
والنظام الاقتصاد الإسلامي جزء من النظام الإسلامي الشمولي، وهو: مجموعة من الأسس والأنظمة والمبادئ الاقتصادية المستنبطة من القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء, ويقوم بترتيب وتنظيم وتخطيط الشؤون المالية للفرد والمجتمع الاسلامي والدولة، ويهدف لتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع المسلم؛ والاقتصاد الإسلامي هو أحد أنظمة الإسلام الشمولي، تلازمها القيم الإسلامية، ويسهدف تحقيق رضى الله تعالى وخيري الدنيا والآخرة للفرد المسلم، لقول الله تعالى: [ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ][سورة القصص-الآية:77] .
ومن أهدافه المعيارية الاجتماعية والاقتصادية ما يلي: 1- إشباع الحاجات، 2-العمالة الكاملة والقضاء على الفقر، 3- التوزيع العادل للدخل والثروة، 4-الاستقرار والاعتدال والتوازن والطمأنينة الاقتصادية، 5-تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية بما يوافق الأحكام الشرعية.
الفلسفة الوسطية للاقتصاد الإسلامي
كان الفكر الاقتصادي الإسلامي متمتعا بذاتية مستقلة داخل المصادر الأساسية للشريعة الاسلامية من القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء، فكان هذا الفكر موجوداً ضمن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله ﷺ؛ ثم وضع الفقهاء رحمهم الله تعالى داخل المذاهب الأربعة الرئيسية من: “المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية” فصولاً ومباحث خاصة للاقتصاد الإسلامي ولأحكامه الشرعية ولأفكاره ومنظوره وتصوراته ضمن الكتب الشرعية لهذه المذاهب؛ باسم “كتاب البيع وغيرها من المعاملات .
وكانت كتاب البيع هذا رحمة للأمة الاسلامية ولنظامها الاقتصادي والاجتماعي وغيرها؛ للاخذ بها وتطبيقها على ارض الواقع؛ وللنظر الفلسفي والاقتصادي فيها؛ وإرشاد الأمة الى الطريق والاقتصاد الصحيح الواجب تطبيقها والالتزام بها والاجتهاد على ضوءها؛ على مرِّ العصور الاسلامية المختلفة, فكانت هذه الأحكام والاجتهادات سبباً رئيسياً من أسباب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والطمأنينة والسلامة التي كانت تتمتع بها الأمة بها عبر هذه العصور المتتالية ولحدّ الآن.
والمتصفح للمؤلفات الفقهية الإسلامية لا يعدم الطريق إلى العديد من الدراسات والأبحاث المالية والاقتصادية، بالإضافة إلى مؤلفات إسلامية متخصصة في أحكام الأموال في الشريعة الإسلامية مثالها: كتاب: الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت / ٢٢٤هـ), والخراج: ليحيى بن آدم (ت / ٢٠٣هـ), والخراج : أيضا لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت / ١٨٢هـ), وكتاب: الإشارة إلى محاسن التجارة لجعفر بن علي الدمشقي (6 رمضان 570 هجري), والحسبة لابن تيميه (ت / ٧٧٨هـ), والمقدمة لابن خلدون (ت / ٨٠٨هـ).

ولعل أهم هذه المؤلفات من الناحية المالية البحتة هو كتاب الخراج لأبي يوسف الذي كان يشغل منصب قاضي القضاة في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد انطوى كتاب الخراج على مجموعة إجابات عن أسئلة وجهها الخليفة إليه فيما يتعلق بنظام جباية الخراج وغيره من موارد بيت المال[23].
إن الاقتصاد الإسلامي يضع دائماً إطارا عاما للسياسة الاقتصادية التي تتبعها الدولة الإسلامية يقوم على فلسفة اقتصادية وسطية؛ مستندة إلى مبادئ عامة لتحقيق النمو والتطور والرفاهية للمجتمعات الاسلامية؛ ومن هذه المبادىء مبدأ التوجيه الاقتصادي ومبدأ التوازن الاجتماعي.
إن التخلف كظاهرة اقتصادية لا بدّ وأن تجد علاجها في واقع البلد المتخلف ذاته. ومن هنا كانت الأصالة الفكرية شرطا ضروريا ولازما للانطلاق نحو عجلة التنمية والتطور, ومن هنا يفرض المنظور الإسلامي للاقتصاد سلطانها على اعتبار أن الإسلام شريعة واسعة وفاعلة؛ تمتد رؤاه الفلسفية إلى أعماق الواقع الاجتماعي والاقتصادي, لذا لابدَّ من الاستفادة من النماذج التنموية الاسلامية للولوج الى العمليات الاقتصادية والتنموية؛ وهذه النماذج تعتمد على مبادىء وأحكام اسلامية عديدة مثل: حرمة الربا والاحتكار وحرمة أكل اموال الناس بالباطل, وحرمة الخمر والخنزير والميتة…وغيرها, وكذلك الانتفاع من النماذج غير الاسلامية العالمية من خلال تصفيتها بمصافي الأحكام الشرعية؛ وذبّ ” الحرام والمُضِر وغير الملاءمة منها البلد الاسلامي.
السياسات الاقتصادية التصحيحية لإرجاع التوازن والاعتدال
السياسة الإقتصادية[24]: هي مجموعة من الإجراءات أو القرارات التي تتخذها الدولة في الميدان الاقتصادي؛ لبلوغ أهداف اقتصادية واجتماعية معينة، عبر عدد من الوسائل والأدوات التي تتبعها الدولة لتحقيق تلك الأهداف, ومن أهم السياسات الاقتصادية المعاصرة هي: السياسة المالية والسياسة النقدية والسياسة التجارية.
إذن السياسات الاقتصادية لها جانبين, الاولى هي الاهداف؛ والثاني هي الوسائل التي تستخدم لتحقيق تلك الاهداف, ومادامت كِلاهما قابلتان للتغير فإن السياسات أيضاً قابلة للتغير, ومادامت الأزمنة والأمكنة والأحوال متغيرة والسياسات قابلة للتأثر بعوامل داخلية وخارجية؛ فإن السياسات الاقتصادية قابلة للصح والخطأ؛ أو عدم تحقيق الأهداف بالكامل أو تحقيق بعض منها.
على ضوء ما مرَّ يمكن للسياسات الاقتصادية أن تفشل؛ أو لا تحقق أهدافها بالكامل؛ أو تُرفض وتُجلب الأحسن منها. والاقتصاد الاسلامي كونها يتكون من جانب ثابت؛ وجانب متغير, والسياسات الاقتصادية تابعة للجزء المتغير منه؛ فإن هذه السياسات ايضا قابلة للتغير والتبديل حسب التطورات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والعالمية, فهنا تأتي السياسات الاقتصادية التصحيحية لتأخذ دورها الفعّال في تطوير وتنمية اقتصاد الأمة؛ من خلال اجراءات قتصادية جديدة ومتطورة لمواكبة التطورات الاقتصادية والحضارية العالمية, ولتصحيح الأخطاء أو الإختلالات أو العيوب التي تظهر أثناء تطبيق الخطط وتحقيق الأهداف .
لو رجعنا الى عصر النبوة والخلفاء الراشدين نجد أن هناك كثير من الأدلة والمشاهد التي تثبت وتؤيد السياسات أو الحركات التصحيحية لاقتصاد البلد الاسلامي؛ وإنقاذه من الأزمات والكوارث الاقتصادية؛ والاستمرار في العمليات التنموية والتطويرية.
ففي أي وقت يحدث الإختلال في التوازن الاقتصادي عندما يحكم الاقتصاد الإسلامي ، فإنه يجب تصحيحه فوراً عن طريق تعديل أو تقويم أو تقديم بعض الإجراءات الاقتصادية التصحيحية[25]؛ ومن ثم إرجاع حالات التوازن والاعتدال الى اقتصاديات البلدان الاسلامية؛ ثم إرجاع الطمأنينة والرفاهية والسلامة الاقتصادية لأفراد الأمة ولبلدانها, والتصحيحية الاقتصادية كفلسفة قائمة في الاقتصاد الإسلامي؛ هناك أدلة كثيرة تؤيدها من القرآن والسنة واجتهادات العلماء والفقهاء والسياسات الاقتصادية للمجتمعات الاسلامية وعبر التأريخ الاسلامي, ومنها الأدلة التالية:
-قول الله تعالى: [ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ][سورة البقرة-الآية:285] , قول رسول الله ﷺ : [ ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به ][الألباني-صحيح الجامع-الصفحة أو الرقم:5505- صحيح], وقال ﷺ: [ ليس المؤمِنُ الذي يَشبَعُ وجارُهُ جائعٌ إلى جنبَيْهِ ][الألباني- صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم:5382 – صحيح], كان الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد فرض المساواة في العطايا من بيت المال بين المسلمين دون تفضيل بين شخص وآخر, وكان يقسم المال بالسوية بين الناس .
وفي الأمانة والمسؤولية: [ عن قتادة قال: كان معيقيب على بيت مال عمر بن الخطاب-الخليفة الراشد الثاني- رضي الله عنه؛ فكنس بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا، فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب: فانصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر- رضي الله عنه- قد جاءني يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال لي: ويحك يا معيقيب أوجدت علي في نفسك شيئًا؟ قال: قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد ﷺ في هذا الدرهم.][26] ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء] [27].
إن أول من أقام بيت المال في الإسلام هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي وغيره. ففي بداية الدولة الإسلامية لم يكن هناك بيت مال بالمعنى الذي عرفه المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه فكانت سياسة رسول الله ﷺ تقوم على تقسيم الأموال وإنفاقها في وجوهها نظراً لقلتها وحاجة الناس إليها وعلى هذا النهج سار أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في صدر من خلافته حتى اتسعت الدولة شرقاً وغرباً وتشعبت أمورها وكثرت إيراداتها, فأنشأ لذلك بيت المال ودون الدواوين وكان ذلك في السنة الخامسة عشر وقيل سنة عشرين[28].
ففي هذه الأدلة نجد أن المسلم في حياته الاقتصادية في حالة مستمرة من إعادة التصحيح لنفسه؛ ولتصرفاته الاقتصادية والاجتماعية؛ فإذا وجد في نفسه أو تصرفة أية سوء أو خطأ أو زلة لسان أو نسيان أو منظور خاطىء أو أية عمل مخالف لأوامر الشريعة؛ فإنه يحاول أن يصحح مساره في حياته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ ليتوافق ثانية وثالثة ورابعة والى ما لانهاية مع أحكام الشريعة الاسلامية, لنيل رضا الله تعالى, ويرجع لكي يخدم مصالح الأمة الاسلامية؛ فينفع بذلك نفسه وبقية المسلمين. ولا شك أن هذه الحركات التصحيحية في التأريخ الاسلامي على المستوين الفردي والجماعي كانت السبب المهم في تثبيت وإعادة تثبيت الاستقرار والطمأنينة والعيش المرفه لأفراد المجتمعات الاسلامية خلال تأريخه الطويل.
الاقتصاد الإسلامي هو العدل والتوازن في التنمية الاقتصادية[29]
إن العدالة والتوازن في الاقتصاد الإسلامي يؤديان إلى تنمية اقتصادية مستدامة وشاملة ويقضيان على مشكلة الفقر والتخلف الذي هو مسؤولية المجتمع؛ وبهذا يتحقق النمو الاقتصادي، إضافة إلى العدالة في توزيع الدخل، حيث حرص الإسلام على تنمية الإنسان وتنمية موارده الاقتصادية، ليعيش حياة طيبة كريمة مليئة بالإنجاز والإنتاج والعمل الصالح الذي يؤتي ثماره في الحياة الدنيا والآخرة، وهي الحياة التي ترفع المسلم من حدّ الكفاف إلى الرفاهية.
الاقتصاد الإسلامي هو العدل والتوازن في التنمية الاقتصادية ويقود المجتمعَ المسلم إلى الاعتدال والموازنة دون إفراط أو تفريط، لذا كان واجبا على المجتمعات المسلمة أن تسعى جاهدة إلى أسلمة الاقتصاد ليشمل مفهوم العدل والتوازن وتحريم الربا ، لأن اعتماد الفائدة الربوية يؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج، ثم انخفاض الأجور الحقيقية لأصحاب الدخول المحدودة جراء رفع أسعار المنتجات، وهو ما يؤدي إلى خفض معدلات الادخار وبالتالي سوف يؤثر في الاستثمار والنمو الاقتصادي للفرد والمجتمع.
ويحث الاقتصاد الإسلامي على العمل والكسب الحلال والتكافل الاجتماعي وعدالة التوزيع ومحاربة الاستغلال والربا والاحتكار والقمار والغش، وعلى توجيه المشروعات إلى الفرد والمجتمع ودعمه بالقرض الحسن غير الربوي والتعاون؛ وغرس القناعة بأهمية الاقتصاد الإسلامي الذي يتمثل في التشريعات الإسلامية المتعلقة بالأموال والمعاملات المالية الفردية والجماعية، فهو يرعى مصالح الناس مع مراعاة أحوالهم وظروفهم، كما يرسم لهم المنهج الأمثل للتعامل مع الآخرين القائم على العدل والتوازن والإنصاف.
كما أن العدل والتوازن في الاقتصاد الإسلامي يعتبران نظامين عقائديين نابعتان من عقيدة التوحيد، ويرسخان مفاهيم الأخلاق الفاضلة ويؤكدان على سد حاجات الفرد والمجتمع، حيث إن النظام الاقتصادي الإسلامي يتميز بأنه نظام رباني شامل له ضوابط وأحكام تحقق للبشرية جمعاء السلامة الروحية والمادية، لأن غاية النظام الاقتصادي الإسلامي هي تمكين الإنسان من القيام بالمهمة التي وكله الله تعالى بها على الأرض؛ وهي البناء والإعمار والإصلاح ؛ قال الله تعالى: [ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ][سورة هود-الآية:61]، ثم الارتقاء بحال الناس من الفقر إلى الغنى؛ من خلال التوزيع وإعادة التوزيع العادل لدخل وثروات الأمة على المستويات الفردية والمجتمعية والدولة أو الحكومة.
من متطلبات اقتصاد إسلامي عادل ومتوازن
من أجل تقديم اقتصاد إسلامي عادل ومتوازن يحقق كثيرا من الإيرادات للفرد والمجتمع؛ يتوجب تطبيق العدالة والتوازن في توزيع الناتج والدخل، حيث إن قوة الاقتصاد الإسلامي تبدو في كونه علما توجيهيا لا يقتصر على السلوك الاقتصادي من إنتاج واستهلاك واستثمار وتوزيع فحسب، بل يتعدى إلى التوجيه نحو السلوك الإنساني والأخلاقي الشرعي الذي يحقق التوازن بين كِلا جانبي النفسي والمادي؛ بميزان أساسه وقوامه العدل والإحسان والتعاون والعطف والرحمة لجميع أفراد المجتمع الإسلامي.
الاقتصاد الاسلامي يقوم على مبدأ تكريم الانسان
إن المنهج الاقتصادي الإسلامي منهج عادل؛ يبني جميع تصرفاته الاقتصادية والمالية على عقيدة: أن المال مال الله تعالى والبشر مستخلفون فيه، ثم يستهدف توفير مستوى مضموناً وملائماً وكريماً من المعيشة لكل فرد مسلم في المجتمع أو البلد الاسلامي؛ أي ضمان مستواً معيشياً كريماً يليق بالفرد المسلم؛ باعتباره انساناً مكرَّماً من قبل الله تعالى؛ يقول الله تعالى: [ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ][سورة الإسراء-الآية:70]، ثم بعد المستوى المعيشي المضمون المجاني لكل فرد مسلم؛ توزيع الدخول والمستحقات والأرباح بحسب مساهمة كل فرد في العمليات الانتاجية السلعية والخدمية.
ويعتمد هذا التوزيع العادل على التوظيف ثم الاستغلال ثم الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية والمالية في الدولة, ولا يتحقق توظيف هذه الموارد بهذه المواصفات إلاّ من خلال تشغيل أموال المجتمع الاسلامي وموارده الاقتصادية في: 1-الإنتاج الطيب والحلال من السلع والخدمات. 2-التجنب والبعد عن إنتاج واستثمار المنتجات الضارة والمحرمة في القرآن والسنة. 3-التركيز على الإنتاج والاستثمار في مجالات الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات؛ التي تساهم في حماية مقاصد الشريعة الاسلامية.
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: [ إن مقصود الشرع من الخلق خمسة : أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة][30], فهنا يؤكد الإمام الغزالي على أن التشريع الإسلامي يقوم على جلب المصالح ودفع المفاسد، عن طريق حفظ الضروريات الخمس.
ويُبيِّن ( أبو عبد الله بن الأزرق ) سبب الاهتمام بهذه الضرورات الخمس : [ لأن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انحرفت؛ لم يبق للدنيا وجود من حيث الانسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها؛ فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى, ولو عدم الإنسان لعدم من يتدين, ولو عدم العقل لارتفع التدبير, ولو عدم النسل لم يمكن البقاء عادة, ولو عدم المال لم يبق عيش][31].
-المقصد من التشريع الإسلامي[32]: 1-تحقيق مصالح الناس في الدارين الدنيا والآخرة. 2-جلب المصالح ودفع المفاسد. 3-تحقيق العبودية لله تعالى.
أقسام المقاصد الشرعية
وهي كالتالي:
أولاً: الضروريات :
مفهومها: المقاصد والمصالح الضرورية التي لابدّ منها، لحفظ حياة الإنسان، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الإنسان على استقامة؛ بل على فساد وتهارج. أقسامها: 1-حفظ الدين: شرع الله العبادات وأمر بتوحيده، وفي المقابل حرم الشرك والإلحاد والردة عن الدين من أجل المحافظة على الدين. 2-حفظ النفس: من ضروريات النفس صونها وحمايتها، والبقاء على الحياة، ومن جانب العدم شرع القصاص، وحرم قتل النفس. 3-حفظ العقل: دعا الإسلام إلى ضرورة إعمال العقل والفكر، وحرم الخمر وكل مسكر. 4-حفظ العرض: اعتنى الإسلام بالأسرة أبا وأما وأبناء, وحرم الاعتداء على الأعراض بالزنا والقذف. 5-حفظ المال: أمر الشرع بضرورة تنمية المال، بالكسب الطيب والرزق الحلال، وحرم في المقابل السرقة والربا.
ثانياً: الحاجيات :
هي مصالح ومقاصد يحتاج إليها الإنسان للتيسير عليهم؛ ورفع الحرج عنهم، ولكن لا تبلغ مبلغ الضروريات إلاّ أن فقدانها يلحق الحرج والضيق بالناس، كالرخص في العبادات، وتشريع البيوع.
ثالثاً: التحسينيات :
مصالح ومقاصد تحسينية، تتطلبها المروءة، ومكارم الأخلاق، كالنوافل في العبادات، وآداب الطعام والشراب في العادات.
متطلبات النهضة والتطور والتنمية في البلدان الاسلامية [33]
القيم الأخلاقية في الاقتصاد الإسلامي في ساحات الأنشطة الاقتصادية المختلفة من: معاملات بنوك اسلامية؛ استثمارات شركات وأفراد، تبادل تجاري؛ تنظيم العلاقات المالية؛ وغير ذلك من أوجه النشاط الاقتصادي؛ تحقق العدالة والإنصاف بين الناس، وتجلب للمجتمع الإسلامي الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن يوفر له الحماية من كل أشكال الاستغلال والطمع والتدليس والغش والاحتكار والربا والسفه الاستهلاكي، وغير ذلك من المعاملات الاقتصادية الضارة التي يموج بها الاقتصاد الوضعي “النفعي”، والذي يبحث عن الأرباح والمكاسب بشكل مطلق مقشَّر من الأنظمة الاخلاقية؛ ولو كانت على حساب مصلحة الإنسان والمجتمع .
أما الاقتصاد الإسلامي فإنه يأتي بقيمه وأنطمته الاخلاقية ليقيم مجتمعا إسلاميا مستقرا اقتصادياً واجتماعيا ومتقدما حضارياً ومنضبطا أخلاقياً، وينظم أخلاقيات المال الذي هو عصب الحياة وأساس لقيام الأمة؛ ومصدر للتقدم والنهضة، ثم ليضبط معاملات المجتمع الاقتصادية ولتستقر أوضاعه بها؛ وتختفي كل السلوكيات الاقتصادية المحرمة الضارة فيه .فالاقتصاد الإسلامي له عوامل وأسباب عديدة للوصول الى النهضة والتطور والتنمية التي يتطلع إليها البلدان الاسلامية في كل عصر؛ وذلك بالإستناد الى الظواهر والحقائق التالية:
1-إن الشريعة الإسلامية نظمت كل مجالات الحياة تنظيماً دقيقاً، ورسمت للمسلم طريق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية الآمنة وفق منهج الإسلام المعتدل والمتوازن .
2- إن الاقتصاد الإسلامي الذي ينظم معاملات وعلاقات الناس الاقتصادية؛ ويستمد أفكاره وأصوله من الشريعة الإسلامية؛ يحقق هدفين كبيرين هما:
أ- دفع النشاط الاقتصادي للأفراد والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات العاملة داخل المجتمع الإسلامي نحو الاستثمار الحلال؛ والتعامل الرشيد مع المال والموارد الاقتصادية؛ وفي ذلك مصلحة للمجتمع كله، فالإسلام لا يبيح من أوجه التعامل الاقتصادي إلاّ كل ما هو مفيد للمجتمع على الصيغة الفردية والجماعية؛ كل على حِدة؛ وكلاهما في آن واحد.
ب- حماية المجتمع الإسلامي أولاً ثم البشري بشكل عام ثانياً من مخاطر المعاملات والأنشطة الاقتصادية المحرمة والمضرة بالانسانية على وجه الأرض.
والاقتصاد الإسلامي الذي يضبطه الإسلام بأحكامه وقيمه وأخلاقياته يشمل كل الأنشطة التجارية والاستثمارية والعلاقات المالية بين الناس، وهو قادر في حال تطبيقه تطبيقاً صحيحاً على تطهير المجتمع من كل المعاملات الظالمة والأنشطة الاقتصادية الضارة بالمجتمع، وفي ظل هذا الاقتصاد يتحقق العدل وتختفي كل صور الظلم والكسب غير المشروع .
3- حاجة الأمة الإسلامية إلى هذا الاقتصاد الأخلاقي المنضبط والطاهر والمطهَّرِ بضوابط الإسلام: لقد ابتليت البلدان ذات الاقتصاديات الوضعية بالمعاملات الربوية المحرمة؛ والأنشطة الاقتصادية الضارة بالمجتمع كله؛ أفراده وجماعاته ومؤسساته الاقتصادية وغير الاقتصادية، حيث انتشر الربا والظلم وأكل أموال الناس بالباطل بين الناس؛ وألحق بمجتمعاتها أضراراً اقتصادية واجتماعية بالغة .
4- الإسلام في موقفه من الربا حاسم وواضح ومحدد، فأي زيادة مشروطة على أصل القرض أو الدَّيْن هي ربا؛ وذلك وفق قول رسول الله ﷺ : [ كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ وجهٌ من وجوه الرِّبا ][سنن البيهقي الكبرى-رقم الحديث:10715], وسواء كانت الزيادة من جنس القرض أو من غير جنسه، بل حتى حصول المقرض أو الدائن على منفعة مشروطة من المقترض تدخل في نطاق الربا. وقد نهى الشرع عن كل قرض يجر منفعة للمقرض؛ أي [ إذا كان القرض مشروطًا فيه نفع للمقرض، أما إذا كان قرضًا مجردًا ليس فيه اشتراط نفع للمقرض فهو مستحب وفيه فضل كبير؛ لما فيه من التعاون على الخير، والتفريج لكرب المكروبين][34].
وقد حاصر الإسلام كل صور الربا وأنواعه ليحمي الفرد والمجتمع من شروره، فعندما حرم الله تعالى الربا في كتابه الحكيم كان ذلك لحكمة ومنفعة تعود على الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، لأن انتشار الربا سيساهم في انتشار العديد من المشكلات التي تؤثر سلبا في الاقتصاد وفي المجتمع . وللربا أضرار اقتصادية وسياسية واجتماعية أكثر من منافعه. فأموال الربا هي ثروة مضافة مشروطة زائدة تؤخذ غدراً واستغلالاً من المحتاجين والفقراء ثُم تنتقل إلى الأغنياء والموسِرين المرابين أو الى الدولة ذات الاقتصاد الوضعي من دون وجه حق؛ أو من خلال حجج مدحوضة باطلة ومغلوطة؛ لا ترضى بها الشريعة الاسلامية وترفضها رفضاً قاطعاً.
5- تفعيل ضوابط الاستهلاك وتحقيق الاعتدال: اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً عن طريق مجموعة من الضوابط بترشيد السلوك الاستهلاكي، وهذه الضوابط تمثل فيصلاً في الحكم على رشد السلوك أو غيه، فإذا التزم بها الإنسان كان رشيداً، وإذا حاد عنها كان غاوياً, لذلك يجب على الفرد المسلم اتباع الحالة الوسطية والاعتدال ؛ وعدم التقتير وعدم الإسراف في الانفاق الاستهلاكي وفي الاستهلاك نفسه, ولا يصل بنفسه الى حالات التبذير والترف المرفوضين في الشريعة الاسلامية.
قال الله تعالى: [ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ][سورة الفرقان-الآية:67], وقول الله عزَّ وجلَّ: [ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ][سورة الإسراء-الآية:29]، وقول الله سبحانه وتعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ][سورة الأعراف-الآية:31].
كل هذا يعني أن المسلم في إنفاقه وتعامله مع نعم الله أمام ثلاثة مستويات استهلاكية هي: 1-التقتير: وهو الذي يقف بحجم الاستهلاك عند حدٍّ؛ يقل عن المطلوب؛ لاستقامة الحياة شرعاً. 2-الإسراف: هو الذي يصل فيه حجم الاستهلاك إلى حدٍّ؛ يزيد على الحاجة؛ ويمثل إهداراً لنعم الله تعالى. 3-الاعتدال: وهو الذي يكون حجم الاستهلاك فيه بين التقتير والإسراف . ومنهج الإسلام هو اختيار الحالة الثالثة؛ التي هو الاعتدال، إذ على المسلم أن يكون متوسطاً ومعتدلاً؛ لا مقتراً ولا مسرفاً، وهذا الاعتدال لا يقف أبداً في طريق تمتع الإنسان بالخيرات والاستمتاع بما أنعم الله عليه من طيبات الرزق بأنواعها في الحياة الدنيا.
إن الشريعة الإسلامية ضبطت السلوك الاستهلاكي للإنسان، بما يضمن له حياة كريمة؛ يستمتع فيها بكل الطيبات ويدخر من ثمرات جهده لوقت الحاجة، ومن هنا رفضت الوقوف بحجم الاستهلاك عند حدٍّ أقل من الحجم اللازم للوفاء بضرورات الحياة مع القدرة على الوفاء بها؛ لأنه هو حدّ التقتير ، وجعلت ذلك السلوك الإنفاقي محرماً بنص الكتاب والسنة، ولأن الإسلام يهدف إلى إشباع الحاجات الحقيقية للفرد والمجتمع، بما يحفظ على الإنسان إنسانيته ويبني طاقاته, والإنسان المحروم لا يمكن أن يعمل وينتج وتستقر علاقاته بالمجتمع الذي يعيش فيه وهو يشعر بالحاجة والظلم والحرمان، فإشباع الحاجات مهم جداً؛ واستفادة الإنسان بثمرة جهده وكفاحه يشعره بالرضا والسعادة والاستقرار .
وكما يرفض الإسلام التقتير؛ ويقف في طريق السلوك الاقتصادي الضيق للمقترين؛ ليحمي الإنسان من الحرمان؛ ويحمي المجتمع الاسلامي من الكساد الاقتصادي الضار بكل أفراده؛ والذي يخلقه البخل والتقتير، فإنه يقف أيضاً في طريق الإسراف، الذي يعني تجاوز الحد في الإنفاق الاستهلاكي بشكل مطلق، والذي يخرج بالشخص عن حدِّ الاعتدال والتوسط ويوجهه نحو حدود الحرمة والرفض من قبل الشريعة. وإن كِلا حدَّي الإسراف والتقتير يعنيان سوء التدبير من قبل المستهلكين؛ ويدخلان ضمن السلوكيات الاستهلاكية الخاطئة، عندما لا يوزع الإنسان دخله بشكل متوازن وشرعي على الأغراض المختلفة؛ وبما يتناسب وأهمية كل غرض في حياته الشخصية.
والإسراف والتقتير كلاهما محرمان في قبل الشريعة الإسلامية ؛ لأن كليهما ظلم للنفس وتحطيم لقدراتها، وإن اختلفت الوسيلة، كما أن كليهما إهدار للموارد الاقتصادية، وإن التقتير يؤدي إلى الكساد والإسراف يقود إلى التضخم؛ فكلاهما شر يجب على المسلم تجنبه، يقول رسول الله ﷺ: [ كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ ][سنن النسائي-رقم الحديث:2559], ففي هذا الحديث النبوي الشريف نجد أن : [الشرع الحكيم قد نظم أمور الناس كلها، وجاء بما فيه مصلحتهم، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وأباح لهم التمتع بالحياة وملذاتها، لكن دون إفراط أو نسيان لحقوق الله والعباد.
وفي هذا الحديث قال رسول الله ﷺ: ” كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا “، أي: افعلوا كل ذلك من أموالكم، ولا حرج عليكم فيما أباحه الله عز وجل وفصلته السنة النبوية، ” ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ “، وهو الإفراط ومجاوزة الحد، ” أو مَخِيلةٌ” وهي: الزهو والتكبر والإعجاب بالفعل أو النفس، وهذا الحديث موافق لمعنى قول الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }{سورة الأعراف-الآية:31}، وقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }{سورة الفرقان-الآية:67}، وهو جامع لفضائل تدبير الإنسان لنفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة
فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة؛ فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس . وفي الحديث: بيان سعة الإسلام وتيسيره على الناس في المباحات، دون إفراط مخل بالمال أو النفس أو الدنيا والآخرة. وفيه: الحثُّ على الترشيد للنفس والتحكم في شهواتها.][35].