تنظر بعض الثقافات والنظم للمواطن الصالح على أنه الذي يدفع الضرائب ويلتزم بالقوانين، وينظر البعض الآخر على أنه الذي يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وينظر البعض الثالث على أنه الذي يؤمن بحقوق الآخرين – ممن يشاركونه نفس البقعة الجغرافية – في الحياة والاعتقاد  والعمل والحرية والكرامة، ويسعى جاهدا للعيش المشترك والتعاون البنّاء لما فيه خير البلاد والعباد،ويعد المفهوم الأخير هو ما يسعى الكثيرون للترويج له عبر وسائل الاتصال المختلفة.

ويدعي البعض حق امتلاك صكوك الوطنية – دون أن يؤثر عنه مساهمة في خدمة الوطن جليلة أو حقيرة- ويقف في برجه العاجي موزعا لهذه الصكوك على من يراه مستحقا ويحرم منها من لا يراها أهلا لها، والسؤال الذي يلح بقوة على الأذهان إذا كنتم ترون أن المواطنة هي سفينة النجاة التي ينبغي أن يستقلها أبناء الوطن الواحد حتى لا تبتلعهم أعاصير الفرقة وأمواج الكراهية فكيف نوجد المواطن الصالح؟ ومن هو المواطن الصالح؟

الحب يفعل الأعاجيب

أول خطوة في بناء المواطن الصالح هي تنمية ارتباطه الفطري بالأرض فالانسان بفطرته يحب الأماكن التي خطا عليها خطواته الأولى في الحياة ويظل يهفو إليها ما بقي في صدره نفس يتردد بل إن بعضه بني آدم يعتبر مجرد عودته لموطنه أعظم ألوان العلاج من الأمراض النفسية والعضوية، هذه العلاقة الوطيدة بين الإنسان وموطنه ينبغي ألا ترتبط بمقدار ما يقدمه الوطن لأبنائه فإذا سخى عليهم أحبوه وإذا شحت موارده أو سلك مسار الإصلاح الاقتصادي تبدل الحب إلى كره أو تململ في أحسن الأحوال.

الإنسان بفطرته يحب الأماكن التي خطا عليها خطواته الأولى في الحياة ويظل يهفو إليها ما بقي في صدره نفس يتردد

المواطن الصالح هو الذي يرى كل من يسعى جاهدا مخلصا في سبيل تقدم الوطن ورقيه شريكا له في حب الوطن ينبغي أن تفتح أمامه كل الأبواب فإذا كانوا يقولون:” قيمة كل امرئ ما يحسنه” فإني أقول:” قيمة كل امرئ ما يقدمه لنفع نفسه والآخرين من حوله”.

وإن السؤال الصعب الذي يجب أن يطرح وبكل قوة أيهما أحق بشرف المواطنة من ولد على أرض لكنه بقي طوال عمره يأخذ ولا يعطي، يتغنى بأهازيج الحب للوطن لكنه لم يسهم ولو بجهد ضئيل فيما ينفع وطنه؟ أم من يشعر بالامتنان تجاه هذا الوطن وما نال من حق وحرية وكرامة على أرضه  ويقدم كل ما يمكنه في سبيل هذا الوطن ليبقى عزيزا كريما.

بعض الأوطان تحرم نفسها من ولاء من يقيمون على أرضها بوصفهم أناس من الدرجة العاشرة إنما جاءوا لهذه البقاع ليستفيدوا من خيراتها ثم يعودوا أدراجهم، على حين تستقطب هذه الكفاءات – التي تفتقر لفرصة للحياة  – بلاد تقدم لهم الحرية والكرامة ومكانة علمية واجتماعية لا تقل عن أبنائها الأصليين وبالمقابل تأخذ منهم ثمرات عقولهم وزهرات أعمارهم يقدمونها عن طواعية وحب وما لهم لا يصنعون والإنسان عبد الإحسان.

أحد الطبيبات سألت طفلة متى ذهبت إلى وطنك آخر مرة فقالت قبل سنتين قالت الطبيبة كأنك نسيتيه فقال الأب في نفسه:” قلوبنا إليه ترحل كل يوم” .

من واجب الوطن أن يكرّم أبنائه لكن هل كل من بذل جهدا أو مالا له الحق في المطالبة بمقابل جاه أو سلطة؟!

هل المواطنة الصالحة تعني العنصرية والانغلاق على الذات في الوقت الذي تعلوا فيه صيحات الاندماج بين الشركات والدول وفي عصر الكيانات الكبيرة نجد أصواتا تتعالى في وطننا الإسلامي بالمواطنة  فهل المواطنة تعني قطع الروابط بين بني آدم؟ أو هي المرحلة التي تلي الإقليمية والقومية سعيا لتقطيع المقطع وتجزيئ المجزء؟  ،الشريعة الإسلامية ترد الناس إلى أصلهم الواحد { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } [الحجرات: 13] ومن هنا لا مجال للتفريق بين الناس على أساس الأعراق  والأجناس والأوطان. ولا مجال للتقوقع في عصر القرية الكونية والعالم الصغير الذي يتأثر أقصى شماله بما يحدث في أقصى جنوبه فكل مساهمة تقدم نصرة لمظلوم وإعانة لمحتاج تعود بالنفع على من يقدمها وإن تباعدت بينهما الديار

لا مجال للتفريق بين الناس على أساس الأعراق  والأجناس والأوطان

هل المواطنة تعني التعامل بمبدأ الحق والواجب مع شركائي في الوطن فإذا تعاملت مع غيرهم ساد مبدأ:” حقي الذي لا يعلوه حق”  الإنسان الصالح هو الذي يأخذ الحق ويؤدي الواجب أي كان الطرف الآخر، رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ ؟ قَالَ: ” لَا، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قومه على الظلم [مسند أحمد]

وحتى تسير سفينة الوطن وتصل إلى بر الأمان  لا بد من تعاون أفرادها سويا هذا التعاون يتمثل ابتداء في تقسيم المهام بين ركابها فهذا ربان وهذا بحار وهذا طباخ وهذا يراقب  ولا بد من التناصح والشورى في اتخاذ القرار والمواطن الصالح هو الذي يعلم أين يحتاجه الوطن فيسارع لتلبية النداء ولا يمكن ليد واحدة أن تبني الوطن وتحافظ عليه

المواطن الصالح هو الذي يقدم مساهمته بالفكر أو بالجهد أو بالمال في كل ما ينفع الوطن هو الذي يعتبر نفسه منافحا عن هذا الوطن ضد أعدائه المتربصين به، هو الذي يحمل هم وطنه سواء عاش في داخله أو بعيدا عنه فقد رأيت أفرادا يعملون لأوطانهم كشركات دعاية متنقلة  يرغّبون من يرونه أهلا للاستثمار في بلدانهم يوضوحون حقيقة ما يحدث في أوطانهم يعملون كوزارات خارجية بل أفضل لأنهم مقيدون بفقط بحب الوطن.

المواطن الصالح هو الذي يسعى لتنمية ذاته خلقيا وعلميا ونفسيا لأن في قوته قوة لوطنه وفي سعادته سعادة لوطنه والعكس صحيح.

المواطن الصالح هو الذي يرى نفسه جزء من منظومة العدالة الاجتماعية والقانونية فالقانون الصارم والتطبيق الناجز لا يغنيان عن وجود من يرضى بهما ولا ينتهكهما وإن تمكن من ذلك بالحيلة أو بالقوة.

المواطن الصالح هو الذي يشعر أنه يأخذ من الوطن ويعطيه بالعدل والحق، والأخذ والعطاء متبادل ويسير في الاتجاهين من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته.

المواطن الصالح هو الذي يشعر أنه ملك للوطن كما أن الوطن ملك له.

المواطن الصالح هو الذي يقدم مساهمته بالفكر أو بالجهد أو بالمال في كل ما ينفع الوطن

المواطن الصالح هو الذي ينظر إلى المجتمع على أنه بناء إذا أصاب الخلل جزء فإن الوهن سرعان ما يتطرق إلى البناء وما بعد الوهن إلى إعادة تقوية البناء أو الانهيار   فنظرية أنا ومن بعدي الطوفان في عالم الأوطان نظرية تؤدي إلى الغرق لإن الطوفان إذا جاء لن يتركك ولن يترك من بعدك.

البعض لا يقتات إلا على آلام الناس ودمائهم ودموعهم  فإذا جفت الدموع وشفيت الآلام بقي جائعا وبئس الطعام أشلاء الآخرين

 تقاس المواطنة الصالحة بمقدار ما يسهم أهلها مع المختلفين معهم فكريا أو عقائديا في بناء الوطن واستثمار ثرواته وصيانة حقوق أبنائه وحماية أرضه من العدوان وفي ذلك بقاء الجميع وفي غيابه ذهاب الجميع .

ما الوطن إلا أرض وشعب لا قيام للوطن بلا مواطن حر كريم، يقولون:” لا كرامة لنبي في وطنه” وأقول:” لا كرمة لوطن لا يقدر أنبيائه ولا أبناءه”.