لا يزال الفقه الإسلامي لا سيما في طوره التكويني الأول يجذب إليه الدارسين سواء أكانوا من المستشرقين الذين اهتموا به ردحا من الزمن أو من الباحثين المعاصرين وخصوصا الحداثيين العرب في العقود الأخيرة، ونتج عن هذا الاهتمام عدة كتب وبحوث تناولت نشأة الفقه وعوامل تطوره وسبل تطويره، وفي هذا المقال نتناول رؤية الأستاذ عبد المجيد الشرفي وهو رائد من رواد القراءات الحداثية لنشأة الفقه وتأسيس علم الأصول على يد الإمام الشافعي.

يستهل الشرفي كتابه (الإسلام بين الرسالة والتاريخ) بالإشارة إلى أن أطروحته الفكرية حول الإسلام تندرج ضمن باب الاجتهاد لكنه يستدرك أن الاجتهاد الذي يقصد والمطلوب في عصرنا ليس الاجتهاد بمعناه الشائع وثيق الصلة باستنباط الأحكام والمنقسم في عرف الفقهاء إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد، بل هو اجتهاد مغاير ومفارق للاجتهاد الأول الذي تجاوزه الزمان إنه “تفكر وتدبر يهمه الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية ولا يخشى معارضة المسلمات، بدعوى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة [1]، وفي هذه العبارة يبشرنا الشرفي أن ما أسماه “اجتهادا” يصطدم مع المسلمات الدينية، وأن غايته ليست استنباط أحكام تتلاءم مع المستجدات إذ لم تعد بنا حاجة للأحكام الفقهية في عصرنا.

دواعي نشأة الفقه وتمدده

في تحليله للدواعي التي تقف وراء نشأة علمي الفقه والأصول يفترض الشرفي أن الإسلام ظهر في منطقة جغرافية تعج بالديانات فالزرادشية كانت سائدة في فارس والمسيحية في فلسطين والشام ومصر واليهودية في بضع مناطق عربية، وكان لكل منها رجال كهنوت يحددون ما يدخل في دائرة الإيمان وما يخرج عنه، ويحكمون بين المتخاصمين على مقتضى قواعد الديانة، وقد تأثر المسلمون بهذه المؤسسة الكهنوتية واقتفوا أثرها بعد وفاة الرسول

ففي السنوات الأولى من عمر الدعوة قام الرسول بمهمة الفصل في الدعاوى والنزاعات ولما توفي كان الاسترشاد بأحكامه القضائية ممكنا لقرب العهد والتشابه في الدعاوى، لكن مع ازدياد حركة الفتوح واتساع رقعة البلاد واعتناق أجناس مختلفة للإسلام واجه المسلمون قضايا لا عهد لهم بها حتى عسر على الخلفاء والولاة والقضاة الاكتفاء بما نص عليه القرآن، وتعددت بذلك الاجتهادات الفردية وتعددت معها الأحكام القضائية، وأضحت الحاجة ماسة إلى وضع ضوابط تحد من اختلاف الأحكام وتستنبط من القرآن أحكاما صالحة للتطبيق، وعملية الاستنباط هذه هي ما يطلق عليها الشرفي اسم “التقنين” ظنا منه أنها حولت القرآن من مجرد توجيهات أخلاقية إلى مدونة قانونية يقوم على تطبيقها فئة من العلماء أو “الكهنوتيين” الذين أفلحوا في تحويل الدين إلى مؤسسة كهنوتية. 

ويعتقد الشرفي أن التقنين أفضى في نهاية المطاف إلى نتيجة مزدوجة أولهما؛ إفقار النصوص القرآنية بطرحها الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية وتحويلها إلى نصوص قانونية، وثانيهما تحميل النصوص ما لا تحتمل عبر “التأويل التعسفي”، حتى صار الإخبار عن عادات الأمم السابقة -كما هو الحال في القصاص-تشريع واجب النفاذ في شتى العصور.

مركزية الشافعي

يتفق الفقهاء والأصوليون على أن الإمام الشافعي هو أول من أرسى قواعد علم الأصول في كتابه الرسالة لكن الشافعي يتشكك في ذلك ذاهبا إلى أن أتباع المذاهب الفقهية لا يرضون بهذه الأولوية للشافعي، ويستدل على ذلك بقول “أبو الوفا النعماني” في مقدمة تحقيقه لأصول السرخسي يذهب خلاله إلى أن الإمام أبو حنيفة هو أول من صنف في علم الأصول، وقول آخر للسيد “حسن الصدر” يفيد أن الإمام أبو جعفر محمد الباقر -وهو من أئمة الشيعة – أول من أسس أصول الفقه، وهنا يثور تساؤل: هل يستقيم وضع آراء النعماني أو الصدر في منزلة واحدة مع أقوال حشد من المحققين التراثيين جزموا أن الشافعي هو أول من كتب في الأصول، وحول هذا المعنى يقول الرازي (واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، ونسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض).

 ورغم الشكوك يذهب الشرفي أن الشافعي كان من مؤسسي علم الأصول؛ بل إن تأثيره يفوق تأثير معاصريه، وهو يفترض أن الإمام أحدث أمورا ثلاثة كان لها أعمق الأثر على البنية الدينية عمومًا وعلى أصول الفقه خصوصا، وهي:

  • اعتباره أن كل ما يعترض المسلم في حياته لابد له من حكم شرعي وفي ذلك يقول في الرسالة ” كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه: إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد القياس”، فجعل أفعال العباد لا تخرج عن كونها حلالا أو حراما أو مباحا أو مندوبا أو مكروها[2]، وهذا المبدأ صار من المسلمات الكبرى التي قبلها الضمير الإسلامي منذ القرن الثالث دون نقاش، وإقراره  يعني “غلبة المنهج الفقهي على ما سواه من سبل قراءة النص، فكانت آيات الأحكام – وعددها 500 آية أي أقل من عشر القرآن-محل عناية خاصة، وباتت تمثل مركز الثقل في القرآن على حساب الآيات التي تحتوي على الإرشاد والهداية، أو تلك التي تهتم بالأفق الأخروي وتغذي البعد الديني البحت والمتعالي في الإنسان.[3] 
  • في بحث الشافعي عن الحكم اللازم لكل ما ينزل بالمسلم، لم يكن بمقدوره العثور على مبتغاه في القرآن وحده، نظرا لمحدودية آيات الأحكام، فاتجه إلى السنة التي اتخذت عنده منزلة مكافئة لمنزلة النص القرآني، وقد تعامل الشافعي مع السنة تعاملا مزدوجا، أولهما الارتقاء بها إلى منزلة الكلام الإلهي المنزل، وتضخيم نصوصها حتى اعتبر أحاديث الآحاد من السنة لما ورد فيها من تفصيلات لم ترد في القرآن، وثانيهما تقريره أن الحكمة التي وردت في عدد من الآيات مقرونة بالكتاب هي السنة، وهو تأويل فيه تعسف كما يظن الشرفي، وكان مرده ” حاجة المجتمع الناشئ إلى إضفاء المشروعية الدينية على الحلول والنظم التي ارتضاها وفرضتها ظروفه التاريخية[4]
  •  استناده إلى مبدأ الإجماع فيما لم يأت فيه قرآن أو سنة أو فيما يحتاج إلى ترجيح تأويل على آخر ثم شرع التحليل والتحريم بالقياس على معنى الحلال والحرام المنصوص في الكتاب والسنة[5].

ويجدر بنا قبل أن نتابع مع الشرفي إدراج ملاحظتين حول ما ذكره بشأن ما أحدثه الشافعي:

الملاحظة الأولى: إن الادعاء بوجود قراءة واحدة للنص هي القراءة الفقهية لا يستقيم؛ حيث تعددت قراءات النص وتنوعت عبر العصور، فهناك قراءة صوفية نجدها في (الفتوحات المكية) لابن عربي وفي (غرائب القرآن) للنيسابوري، وقراءة بلاغية مثل (الكشاف) للزمخشري، وقراءة لغوية مثل (مفردات القرآن) للأصفهاني، وهناك قراءة تأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي نزل خلاله النص وتركز على أسباب النزول كما هو الحال (أسباب النزول) للواحدي، لدينا قراءة اعتمدت الرأي كتفسير النسفي والرازي، كما ظهرت خلال العصر الحديث قراءات جديدة للنص مثل القراءة العلمية وأبرز أمثلتها (تفسير الجواهر) للشيخ طنطاوي جوهري.

الملاحظة الثانية، إن حجج الشافعي -على أهميتها- لا وجود لها في طرح الشرفي، إنه يقرر ما يعتقده حول الشافعي دون عرض مسوغاته ومبرراته، وحين يتم شطبها فإننا نكون إزاء محاكمة للشافعي وليس نقاشا فكريا مع أطروحاته الفكرية، والحق إن عرضها كفيل بدحض ادعاءات الشرفي، وعلى سبيل المثال جل حديث الشافعي حول الإجماع مرتبط بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيقول في الرسالة: ” لست أقول؛ ولا أحد من أهل العلم، هذا مجتمعٌ عليه، إلا لما لا تلقى عالما أبدا إلا قاله لك وحكاه عن من قاله، كالظهر أربع وكتحريم الخمر وما أشبه هذا[6].

في نقد منهج الشافعي

إن الأثر الذي أحدثه الشافعي في بنية الفقه لا يتصور حدوثه كما نفهم من كلام الشرفي إلا لخلل في التنظير، وبعبارة أدق ” من الطبيعي أن يكون تنظير الشافعي تنظيرا يفتقر إلى التدقيق والتفصيل والترتيب المنطقي الصارم وهي الصفات التي يمتاز بها كتاب مثل المستصفى للغزالي، وكتب أصول الفقه المتأخرة[7] فالشافعي يمثل مرحلة البدايات المعثرة، والكتب التالية تمثل مرحلة النضج والاكتمال.

وانطلاقا من هذا الأساس فإنه لا يضير الشافعي -كما يقول-أن نتبين بعد مضي قرون متطاولة على وفاته ثغرات ومآخذ في منهجه، وهذه المآخذ يمكن اختزالها في النقاط التالية:

  • تقديم الخبر، وهو أمر كان مستساغا في عصر الشافعي، إذ ليس هناك وسائل معرفة أخرى يمكن الوثوق بها فكان طبيعيا أن يتم تقديم الخبر في عصره، ولكن في عصرنا هناك من يجهل الخطوات العملاقة التي قطعتها العلوم الإنسانية وخاصة علم النفس والتي كشفت عن الدوافع التي تقف وراء عملية إخبار الإنسان عن ذاته وغيره، وعن أسباب خطأ الخبر وهو ما يدعونا إلى “إزاحة الخبر من المرتبة الأولى التي أولاها له الشافعي” باعتباره سبيل المعرفة اليقينية.
  • إقراره قاعدة المعلوم من الدين بالضرورة، بمقتضاه تأسست هيئة شبه كنسية تراها السلطة السياسية مؤهلة لتأويل النصوص أكثر من غيرها، وإن لم تكن منضوية في تسلسل هرمي واضح، وبرر الشافعي والعلماء من بعده هذه الوظيفة التي يتولاها الفقهاء بآية لم يراعوا سياقها وهي (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ذلك أن التفقه في الدين ليس بحال ما يقوم به الفقهاء من استنباط الأحكام المتعلقة بظاهر الأعمال، وإنما هو الاستنفار  يومئذ لمواجهة المشركين.
  •  أما المأخذ الرئيس الذي يسجله الشرفي على المنهج الأصولي الذي بلوره الشافعي، فهو حصره المسائل الفقهية في دائرتي العبادات والمعاملات، وهو ما أسفر عن نتيجة لم يتفطن لها الشافعي وتحققت عبر التاريخ الإسلامي، وهي إطلاق يد القضاة خارج دائرة -الجنايات والمعاملات المحدودة-في التعزير كما يشاءون، بل نشأت مؤسسات لا تراعي التوجيهات القرآنية مثل ديوان المظالم ونقابات الأشراف وما إلى ذلك، فخرج من التشريع الإسلامي كل ما يمس تنظيم الحكم تنظيما يضمن التداول السلمي للسلطة، ويواجه استبداد الحكام[8].

وبتدقيق النظر في هذه المآخذ التي أوردها الشرفي نتبين أنه يروم من ورائها إلى الإطاحة بمرجعية الحديث، الذي تجنب استخدامه مؤثرا مصطلح الخبر-لصالح العلوم الإنسانية التي لا يجد من بينها سوى علم النفس، وهو في هذا يدعو إلى الإطاحة بمنظومة شاملة من العلوم والمعارف لصالح علم هو لم يزل في طور التشكل والتبلور، ويروم من جهة ثانية إلى جعل الفقه مسئولا عن السلطوية السياسية التي سادت العالم الإسلامي، على ما في هذا القول من تكلف وتعسف.