تعتبر الحضارة الإسلامية من أعرق الحضارات وأكثرها روعة ورأفة بالإنسان، ويكفي هذه الحضارة عراقة وروعة وجمالاً أنها حملت إلى الإنسان تباشير الهُدَى ونسائم الرحمة من خلال القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولا شك أن هناك ظواهر إسلامية عديدة تعكس روعة تاريخ الحضارة الإسلامية في المجالات الدينية والعملية والصحية والاجتماعية والاقتصادية ، من أبرزها ظاهرة الوقف التي أبان الدكتور راغب السرجاني في كتابه القيّم “روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية” عن أهميتها ومكانتها وضرورتها في حياة الناس عبر مختلف عصور الحضارة الإسلامية.
لقد تتبّع الدكتور السرجاني في هذا الكتاب تاريخ ظاهرة الأوقاف في الحضارة الإسلامية من خلال خمسة فصول كبرى، حيث سلط الضوء على روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف، وروائع الفقهاء في مسائل الأوقاف، وروائع الأوقاف في العصور الإسلامية، هذا بالإضافة إلى التعريج على روائع إدارة الأوقاف الإسلامية، وروائع الأوقاف في عالمنا المعاصر، وسنقدم في هذه المقالة نماذج من تلك الروائع التي يصعب حصرها.
أهمية الأوقاف
يأخذ الوقف أهميته ومشروعيته من كونه جزءاً من التشريع الإسلامي الذي يمثل مقوّماً أساسياً من مقومات المجتمع المسلم، ولهذا فقد كان النبي محمد ﷺ أول واقف في تاريخ الإسلام، ثم اقتدى به الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من الأمراء والخلفاء المسلمين، وهكذا فإن الناظر في تاريخ الأوقاف الإسلامية يدرك أهميتها الكبيرة، حيث أسهمت “بدور حيوي في حل المشاكل التي واجهتها الأمة عبر تاريخها الحضاري الطويل؛ من أدواء مادية وأخلاقية واجتماعية ونفسية وعلمية وعسكرية.. وغيرها، وهو ما لم نجده في أي حضارة أخرى”.
وحين أدرك فقهاؤنا الأجلاء أهمية الأوقاف الإسلامية وعلموا أنها من الأمور المصلحية وليست من الأمور التوقيفية وأنها تتكون من ثلاثة عناصر أساسية: (الوقف، والواقف، والموقوف عليهم)، قاموا بوضع الضوابط العامة التي توضح العلاقة بين تلك العناصر، وقد تجلت العبقرية الإسلامية في مسائل الأوقاف في كافة مذاهب أهل السنة والجماعة، كما تجلت روعة الأوقاف في التطبيق العملي لهذه المنظومة الفقهية الرائعة التي امتدت على مدار أربعة عشر قرناً، حتى تغلغلت في كافة تفاصيل الحياة، فظهرت نماذج كثيرة من روائع الأوقاف الإسلامية.
ويمكن أن نكتشف أهمية الأوقاف ورعتها أكثر من خلال مجالات عديدة يدعو إليها التشريع الإسلامي، فهناك الأهمية الدينية التي تتمثل في رغبة الإنسان في الحصول على الأجر والمثوبة، وهناك الأهمية العائلية التي تهدف إلى ضمان مستقبل الأبناء وحمايتهم من الحاجة والفاقة، وهناك الأهمية العلمية التي تسعى إلى تعليم العلوم وحفظها، هذا بالإضافة إلى الأهمية الاجتماعية التي تتمثل في مساعدة الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمُعْوزين، والأهمية الصحية التي تتمثل في إنشاء المستشفيات لعلاج المرضى وإسعادهم.
ومما يؤكد أهمية الوقف في الإسلام علاقته الوثيقة بمقاصد الشريعة، فإذا كانت المقاصد تراعي حاجيات الإنسان من كل جوانبها، فإن الوقف يراعي حاجيات الإنسان ويسعى إلى إسعاده، فهو نوع من الصدقات والهبات والصلات، وقد دفعت هذه الأهمية البالغة فقهاءنا الأجلاء إلى وضع شروط تتعلق بالواقف والموقوف والموقوف عليهم، حيث إن من شروط الواقف: العقل والحرية والبلوغ والاختيار، ومن شروط الموقوف: أن يكون معلوماً، وأن يكون ملكاً للواقف، وأن يكون مالاً ثابتاً، وأن يكون مُفرَزاً، أما شروط الموقوف عليهم فمنها: أن يكون الموقوف عليه جهة برٍّ، وأن يكون الوقف معلوم الابتداء غير معلوم الانتهاء، وألا يعود الوقف كله على الواقف، وأن يكون الوقف على جهة يصح ملكها.
وقد بلغت عناية علمائها الأجلاء بالأوقاف درجة التدقيق في صيغة الوقف، فحرصوا على أن تكون متوافقة مع الشريعة الغراء وتسعى إلى جلب المصالح كافة، وقد أوصلهم حرصهم هذا إلى مجموعة من الشروط ينبغي توفرها في صيغة الوقف، منها: أن تكون جازمة فلا ينعقد الوقف بالوعد، وأن تكون منجزة فلا يكون الوقف معلَّقاً على شرط، وأن تكون الصيغة مؤبَّدة، وأن تكون مُعيَّنَة المصرف.
مسائل الأوقاف
وللتدليل على روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف، خصص الدكتور السرجاني فصلاً للحديث عن روائع استنباطات الفقهاء المسلمين في الأوقاف، ويمكن الوقوف على تلك الروائع والاستنباطات من خلال أمور عديدة، أولها تعريفات الفقهاء للوقف التي تميزت بقدرة باهرة على توصيف هذه القضية، حيث عرف العلَّامة الحنفي البابرتي الوقف بأنه “حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة”، وعرفه محمد بن عرفة المالكي بقوله: “إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه”، في حين عرفه فقهاء الشافعية بأنه “حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته وتصرف منافعه إلى البرِّ تقرباً إلى الله تعالى”، وعرفه بعض الحنابلة بأنه “تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة”.
ولا شك أن من أهم المسائل التي تكشف لنا عن روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف تلك السجالات الفقهية المليئة بالحكمة والذكاء حول مشروعية الوقف التي تُوجهت بالاستدلال بالقرآن الكريم والسنة المطهرة على مشروعية وأهمية الوقف، حيث استدل المالكية بقول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، في حين استدل الشافعية والحنابلة على مشروعية الوقف بقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، واستدل الظاهرية بجملة من الأحاديث النبوية وأفعال الصحابة.
أما الإمام أبو حنيفة، فقد قال بعدم جواز الوقف واستدل بـ “لا حبس بعد سورة النساء”، وشاطره في هذا الرأي تلميذه المشهور أبو يوسف، ولكن أبا يوسف هذا “لمَّا حجَّ مع الخليفة هارون الرشيد -رحمه الله- فرأى وقوف الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة ونواحيها، رجع فأفتى بلزوم الوقف”، وعلى هذا المنوال (جواز الوقف) سار المتأخرون من الحنفية.
ثم إن من روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف: الحكمة في استبدال الأوقاف، والمرونة في تأجير الوقف، وجواز تحكير الوقف استناداً إلى قاعدة “تنزل الحاجة منزلة الضرورة”، والتوسط والاتزان في تقييم رغبات الواقف، وذكاء الفقهاء في تقييم شروط الواقفين وتقسيمها إلى: شروط باطلة في نفسها مبطلة للوقف كأن يشترط أن يكون له حق بيع وقفه أو هبته، وشروط باطلة في نفسها غير مبطلة للوقف مثل أن يشترط الواقف ألَّا يُستبدل بعين الوقف غيرها ولو خربت وأصبحت غير صالحة، وشروط صحيحة وهي التي لا تنافي مقتضى الشرع.
وفي سياق الحديث عن الشروط من الوارد أن يتساءل القارئ: هل يمكن للواقف أن يُعدل شروطه، وقد تعرض الدكتور السرجاني لهذا السؤال وأجاب عليه، وتتمثل الإجابة في أن “المذاهب الفقهية المختلفة أقرَّت احتفاظ الواقفين بحق تعديل الشروط، فأطلق عليها الفقهاء المتأخرون الشروط العشرة، وإن أضاف عليها بعضهم شرطين آخرين”، وهذه الشروط بشكل موجز هي: الزيادة والنقصان، والإدخال والإخراج، والإعطاء والحرمان، والتغيير والتبديل، والإبدال والاستبدال، والتخصيص والتفضيل.
إدارة الأوقاف
وبما أن كل الظواهر المرتبطة بالإنسان لا بد أن تُدار بطريقة معينة، فقد كان لظاهرة الأوقاف الإسلامية إدارة فريدة ونظام مبهر، حيث شهد علم إدارة الأوقاف منذ زمن النبي ﷺ حتى عصرنا الحاضر “تطوراً ملحوظاً في إدارة الأوقاف واستثمارها عبر مشاريع عملاقة في بعض الدول الإسلامية”، وقد كان هذا التطور متوافقاً مع النظرة الفقهية والتشريعية التي تداولتها المذاهب الفقهية.
ولكي لا يظل الكلام دون دليل، لا بد من القول إن هناك مجموعة من الاجتهادات والضوابط العامة التي تكشف لنا عن روعة الإدارة الإسلامية لظاهرة الأوقاف والعمل على تطويرها والحفاظ عليها، ومنها الاجتهادات الفقهية التي حرصت على تحديد دور الواقف على وقفه خوفاً من تبديد الأوقاف الإسلامية أو صرف غَلَّتها في غير محلها، وقد كانت مسألة تحديد دور الواقف على وقفه مثار جدل بين المذاهب الفقهية، حيث اختلف فقهاء الحنفية حول حق الواقف في إدارة أوقافه، واشترط المالكية في صحة الوقف أن يخرج عن الموقوف من حوزة الواقف، أما الشافعية فقد أجازوا للواقف أن يتولَّى النظر بنفسه إذا شرط ذلك، في حين لا يرى الحنابلة حق الواقف بالولاية حال عدم اشتراطه لنفسه.
ومن الأمثلة أيضاً على روعة الإدارة الإسلامية لظاهرة الأوقاف: روعة التدقيق في اختيار ناظر الوقف، حيث اشترط الفقهاء في القائم بأعمال الوقف شروطاً، منها: العقل والبلوغ والإسلام والعدالة والكفاءة للتصرف، كما حددوا واجبات ناظر الوقف التي لا ينبغي أن يتخلى عنها، ومنها: عمارة الأرض والحفاظ عليها، والدفاع عن حقوق الوقف، وأداء حقوق المستحقين في الوقف من الغلة وغيرها.
ومع أن التشريع الإسلامي أتاح للقائم بأعمال الوقف هامشاً من المرونة يتمثل في أمور منها: إجارة الوقف إذا رأى مصلحة، واستثمار الأرض الموقوفة بزراعتها، وتشييد المباني في أرض الوقف، إلا أن الشارع وضع مجموعة من القيود على ناظر الوقف انطلاقاً من حقيقة أن الإنسان ميَّال بطبعه إلى الخطأ، ومن أبرز تلك القيود: أن لا يحابي أحداً، وأن لا يستدين على الوقف، وأن لا يرهن الوقف، وأن لا يعيره لأي شخص.
روائع الأوقاف
ذكرنا في السابق أن النبي ﷺ كان أول واقف في تاريخ الإسلام، وينبغي أن نضيف هنا أن ظاهرة الوقف ظلت تتطور بطريقة رائعة خلال العصور ابتداءً من عصر الخلافة الراشدة حتى عصرنا الحاضر، وقد دفع هذا التطور الإيجابي الدكتور السرجاني إلى عقد فصل خاص تتبع من خلاله روائع الأوقاف الإسلامية عبر العصور الإسلامية، وتوصل إلى أن الوقف كان “الحجر الأساسي الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ حضارتنا” المجيدة.
ولا شك أن أول عصر ينبغي أن نسلط الضوء عليه هو عصر الخلافة الراشدة الذي كان مليئاً بالأوقاف الإسلامية، فقد أوقف عمر بن الخطاب أرض ثمغ، واشترى عثمان بن عفان بئر رومة وأوقفها لعامة المسلمين، وتصدق علي بن أبي طالب بينبع ووادي القرى والأذينة وراعة في سبيل الله، ويبدو أن هناك صحابة آخرين قاموا بالوقف على أولادهم (الوقف الذري)، مثل الزبير بن العوام، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن عبدالله، وعقبة بن عامر، وأمهات المؤمنين.
وعلى هذا المنوال سار الخلفاء والأمراء في بقية العصور التالية للخلافة الراشدة، ففي الخلافة الأموية شهدت الأوقاف الإسلامية تطورات ملموسة، فقد كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أول من اتخذ المستشفيات للمرضى، وبنى الجامع الأموي وأمر بتسهيل الثنايا وحفر الآبار الموقوفة، واهتم خلفاء بني أمية ببناء الجسور والقناطر وجعلوا لها أوقافاً، فقد أمر عمر بن عبد العزيز ببناء قنطرة في قرطبة، كما اهتم الأمويون ببناء المقاييس على الأنهار الجارية، ومن أشهرها مقياس حلوان في مصر الذي بناه عبد العزيز بن مروان في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان.
أما في الدولة العباسية فقد اهتمت مؤسسة الخلافة بالوقف الصحي اهتماماً بالغاً، فانتشرت المستشفيات واستقدم الخلفاء كبار الأطباء وقاموا بشراء كتب كبار علماء الطب ووقفها في المستشفيات العامة، كما اهتموا بإنشاء الأوقاف الدينية والخيرية والاجتماعية والاقتصادية، وكان للعلماء ورجال الأعمال دور كبير في المساهمة في الأوقاف العامة والخاصة، ومن الأمثلة على ذلك الإمام الواعظ عبد الملك بن محمد الخركوشي النيسابوري الذي بنى مدرسة وداراً للمرضى، ووقف الأوقاف، وكانت له خزانة كتب موقوفة.
ولم تكن الدولة الزنكية والأيوبية بمنأى عن عالم الأوقاف الإسلامية، بل قامت هاتان الدولتان بأدوار أساسية في تنظيم شؤون المجتمع وإصلاح حال الرعية، فشهدت فترتهما انتشاراً واسعاً لأنواع من الأوقاف كانت قليلة مثل الوقف على مدارس وكتاتيب الأيتام، وقد وصف ابن جبير هذه الأوقاف فقال: “وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير، يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم، وهذا -أيضاً- من أغرب ما يُحدَّث به من مفاخر هذه البلاد”.
ويعتبر السلطان صلاح الدين الأيوبي من أشهر السلاطين الذين أحيوا سنة الوقف العلمي، فبنى مدرسة بالقاهرة وأنشأ المدرسة الصلاحية الوقفية العظيمة في القدس، وبعد صلاح الدين الأيوبي حرص أمراء الأيوبيين على إنشاء المدارس الموقوفة، فبنى الملك العادل مدرسته المشهورة (المدرسة العادلية في دمشق)، واهتم الأمير نور الدين محمود بإنشاء مستشفيات خيرية في كل المدن التابعة لدولته، ومن غريب الأوقاف وأجملها قصر الفقراء الذي عمَّره في ربوع دمشق نور الدين محمود زنكي.
ولم ينسَ الدكتور السرجاني أن يقدم لنا صوراً رائعة عن روائع الأوقاف في المغرب والأندلس، والدولة المملوكية، والخلافة العثمانية، كما قدم لنا صوراً مشرقة عن روائع الأوقاف في عالمنا المعاصر، فحدثنا عن الصناديق الوقفية باعتبارها مشروعاً فريداً من نوعه، والوقف المصري كفكرة رائدة في مجتمع متعطِّش.