من بين نظريات الدراسات المستقبلية المعاصرة، شكلت أدبيات العالم الموسوعي بكمنستر فولر (Buckminster Fuller) نقلة في منهجية ونظريات التفكير الكلاسيكي في الدراسات المستقبلية، وبخاصة نظريته “Ephemeralization” التي جهدت في ترجمتها إلى العربية حتى استقر بي المقام عند “الزيادة بالنقصان”.
وهي تعني عند فولر: “القدرة على استخدام مواد أقل من ناحية، لإنتاج أكثر جدوى وكفاءة من ناحية ثانية”. ورغم أن نبع النظرية انبثق من بين هضاب العلوم التطبيقية، إلا أنه بدأ يمد روافده إلى بقية العلوم، بما فيها العلاقات الدولية والعلوم السياسية، وهو ما فتح المجال واسعًا لدراسات مستقبلية في هذين الميدانين.
لتوضيح الفكرة
خذ هاتفك النقال (الموبايل)، ستجد فيه كومبيوتر، وراديو، وتلفزيون، ومسجل، ومكتبات، وساعة، ومنبه، وروزنامة، ودفاتر لا تنتهي صفحاتها لتكتب فيها، وأقلام بالألوان التي تريد، ثم ساعي بريد أو فاكس (بالمعنى التقليدي)، وآلة حاسبة، إلى جانب الهاتف وغيره…

والآن تخيل أن كل آلة مما سبق كانت وحدة منفصلة، ولكل منها مكوناتها، وتحتل حيزًا في بيتك أو مكتبك، وأن كم المواد المستخدمة في مجموع إنتاجها يفوق المواد المستخدمة في الموبايل ربما مائة ضعف أو أكثر.
جاء الموبايل، فإذا به يجمع حوالي 13 آلة في آلة واحدة، بسعر أقل كثيرًا، ومواد خام أقل كثيرًا، وباحتلال مساحة أقل كثيرًا، بل وبسرعة إنجاز أكثر…
الاستخدام العملي للنظرية
استنادًا لما سبق، يمكننا الآن باستخدام الزوم (Zoom)، أن نستغني عن حوالي 170 ألف معلم ومعلمة في مدارسنا الأردنية، ونستعيض عنهم بحوالي 50 معلمًا (معلم أساسي واحتياطي) ليقوموا بتدريس طلابنا عبر الزوم وبوسائل إيضاح وخرائط أفضل… إلخ.

وسنوفر بذلك انتقال آلاف الحافلات المدرسية، وانتقال آلاف السيارات التي يقودها المعلمون إلى أماكن عملهم، وتقليص عدد مراقبي السير لتنظيم المرور، وتقليل التلوث وحوادث السير والضجيج والمخالفات، والاستغناء عن آلاف المباني والمفتشين… إلخ.
تطبيق النظرية في كل المجالات
يمكن تطبيق ذلك في كل المجالات:
- الزراعية: إجبار الدجاجة، بنفس الغذاء، على إنتاج بيضة بصفارين في كل مرة.
- الصناعية: شمس أخرى هي الآن في المخابر الصينية.
- التجارية والمالية والبنوك: مثل البيتكوين.
- الرياضة: ملاعب متنقلة تحملها ناقلات.
لكنني سأتوقف عند العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وسأعطي نماذج توضيحية أولًا ثم انعكاساتها المستقبلية:
- الاستعاضة عن الجيوش الكبيرة والقواعد الجوية وحاملات الطائرات بالطائرات المسيرة والهجمات السيبرانية والذكاء الاصطناعي ، وهو ما يوفر عددًا وعدةً، ويعطي نتائج أفضل.
- الدبلوماسية الرقمية: بدأت المنصات الرقمية تحل تدريجيًا محل السفارات والبعثات الدبلوماسية، وتصل إلى مساحات وأفراد أوسع نطاقًا، وبأقل تكلفة.
- تقليص وسائل الهيمنة التقليدية (الاحتلال) وإحلال تدريجي لوسائل الهيمنة الجديدة (القوة الناعمة)، وبفعالية أكبر وأسرع من خلال الفنون وغيرها، التي تصل لكل فرد بغض النظر عن لغته وعمره وثقافته ومكان وجوده.
- ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تحليل السياسات الدولية ، بتكلفة أقل ووقت أقصر وموظفين أقل.
- الحوكمة العالمية عبر التنسيق بين المؤسسات الدولية من خلال الاجتماعات والمؤتمرات الافتراضية.

ماذا يعني هذا للمستقبل؟
ذلك يعني أننا نتجه، بهدوء ولكن بتأثير أكبر وبتكاليف أقل، نحو مستقبل ينطوي على الاحتمالات التالية:
- التحول التدريجي من أدوات النفوذ المادية إلى الأدوات الرقمية.
- تراجع الحروب المادية المباشرة لصالح حروب افتراضية ، سيقوم الكمبيوتر المستقبلي بحساب نتائجها قبل وقوعها، ويتم تحميل غرامات للمهزوم (طبقًا لما يحدده الكمبيوتر) دون خوض الحرب.
- ستزيد نظرية الزيادة بالنقصان من أهمية الدول الصغيرة على حساب الدول الكبيرة ، ويكفي أن تقارن حاليًا بين “تأثير مستقبلي” لسنغافورة أو استونيا مقارنةً بنيجيريا أو مصر.
- تآكل مفهوم السيادة الوطنية ، إذ إن التحكم بالمدخلات والمخرجات أصبح أكثر اعتمادًا على الخارج (ترى بعض الدراسات أن وضعك الداخلي كدولة سيتحدد بمعطيات الخارج بنسبة 70% خلال الثلاثين سنة القادمة).
- ازدياد التحول إلى نظام دولي غير تقليدي يقوم على ثلاثة أبعاد: الذكاء الاصطناعي، والمرونة، والتأثير الرقمي، وهو ما سيفرز دبلوماسية شبكية، وتحالفات رقمية، ومفاوضات رقمية.
- قد تقود مشاعية المعرفة والتواصل التقني بين الشبكات السياسية إلى تمكين التنظيمات المسلحة من امتلاك الأسلحة غير التقليدية ، وهو ما سيجعل النظام الدولي في حالة من السيولة غير المعهودة.
كيف نطور هذه النظرية؟
ولتطوير هذه النظرية، بخاصة انعكاساتها على الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، تتصدر تقنيات ثلاث الدراسات المستقبلية لفهم آفاق ما سبق:
أ. زيادة التركيز على الاتجاهات الأعظم (Megatrends) من خلال ابتكار مؤشرات رصد هذه الاتجاهات وتحديدها بدقة.
ب. تقنية السيناريوهات المتقاطعة (Centralized vs Decentralized) لتحديد التأثير المتبادل بين الاتجاهات الأعظم، لا بين المؤشرات لكل اتجاه.
ت. تقنية التحول (Tipping point) مثل احتمال ظهور ذكاء اصطناعي عالمي أو انتهاء مفهوم السيادة.
واستنادًا إلى تداعيات هذه النظرية، يصبح التفكير في دلالات منهجية التفكير في نظرية “الشواش – Chaos” الكونية قابلة للانتقال – كمنهجية – للعلاقات الدولية.
الخلاصة
يبدو أن التكنولوجيا ستطيح تدريجيًا ولكن بتسارع بالكثير من الرتابة في تفكيرنا، باتجاه عالم يزيد من ثقة الإنسان بنفسه إلى حد الاعتقاد بجدوى الجنون، من خلال التفكير الأقل للوصول إلى النتائج الأفضل، أي: الزيادة بالنقصان… ألفَ رَبّا.
تنزيل PDF