قبل الحديث عن فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه نعلم أنه كان عبقريا ملهما ، متوقد الذكاء، سريع البديهة، رأى النبي ﷺ فيه وفي أبي بكر رؤيا فقال: «رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَأَرْوَى فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاس بِعَطَنٍ» أي لم أر سيدا يعمل عمله. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة. وقد وقع تأويل تلك الرؤيا في خلافة عمر رضي الله عنه .
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: لَقَدْ كَان فِيمن قَبْلَكُمْ مِنَ الأُممِ نَاسٌ محدَّثونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ، فإنَّهُ عُمَرُ” وورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ولفظه: ” قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه.
هذا العبقري الملهم أوتي ذكاء متوقدا، وفقها وعلما واسعا، فكانت الحكمة تخرج من نواحيه، “كان والله أحوذيًّا، نسيج وحده، فقد أعد للأمور أقرانها”. هكذا تصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ويقول فيه عبد الله بن مسعود: إني لأحسب عُمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: “ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال عمر بن الخطاب، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر”.
عمر والمؤلفة قلوبهم
رأى عمر رضي الله عنه أن إعطاء المؤلفة قلوبهم إنما كان في حال ضعف الإسلام وحاجته إليهم، وأن الفقه يقتضي عدم إعطائهم في حال القوة، وزوال سبب تمييزهم بالأعطيات. ولذا لما آل أمر الخلافة إليه لم يُعطهم، لأن الإسلام ليس بحاجة إليهم، فقد غدا قويا، يُخشى بأسه، وتُسمع كلمته، ويدخل الناس فيه أفواجا.
ومما يذكر في هذا المقام أن أبا بكر لما أعطى لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس عطاء وأرادا أن يشهدا عمر على ذلك مزق الكتاب وقال لهما: إن رسول الله -ﷺ- كان يتألّفكما والإسلامُ يومئذٍ قليل، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما! فأقبلا إلى أبي بكر -رضي الله عنه- وهما يتذمران فقالا: ما ندري والله: أأنت الخليفة أو عمر؟ فقال أبو بكررضي الله عنه: لا، بل هو لو كان شاء.
عمر وحد السرقة عام الرمادة
عام شديد نزل بالمسلمين في عهد عمر وأصابهم من الجدب والجوع شيء عظيم، وقد نقل أن عمر كان أبيض وإنما تغير لونه عام الرمادة إذ حلف لا يأكل إداما حتى ينكشف، عن الناس ما نزل بهم.
ومن فقهه رضي الله عنه أنه لم يقطع من سرق في هذا العام لشبهة الضرورة الملجئة إلى السرقة والحدود تدرا بالشبهات.
قال الزرقاني: معلوم من سيرة عمر في عام الرمادة أنه لم يقطع سارقًا.
ومن فقهه أيضا ما ورد عن الحارث بن أبي ذباب الدوسي قال: ” لما كان عام الرمادة، أخر عمر بن الخطاب الصدقة حتى إذا أحيا الناس من العام المقبل، وأسمن الناس، بعث إليهم مصدقين، وبعثني فيهم، فقال: خذ منهم العقالين: العقال الذي أخرنا عنهم، والعقال الذي حل عليهم، ثم اقسم عليهم أحد العقالين، واحدر إلي الآخر، قال: ففعلت ”
عمر وإنكاره لتزكية الناس دون معاملتهم
أثنى رجل على رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقال له عمر: ” هل صحبته في سفر قط؟ قال: لا ، قال: هل ائتمنته على أمانة قط؟ قال: لا ، قال: هل كانت بينك وبينه مداراة في حق؟ قال: لا ، قال: اسكت، فلا أرى لك به علما، أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه ”
وبنحو هذا ذكره ابن قتيبة في عيون الأخبار وهو أن رجلا قال لعمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-: إنّ فلانًا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه القصة محتجًا بها في بعض كلامه، فقال: وَلِهَذَا لَمَّا شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ، فَزَكَّاهُ آخَرُ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ جَارُهُ الْأَدْنَى تَعْرِفُ مَسَاءَهُ وَصَبَاحَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ عَامَلْتَهُ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ الَّذِينَ تُمْتَحَنُ بِهِمَا أَمَانَاتُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ رَافَقْتَهُ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْكَشِفُ فِيهِ أَخْلَاقُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَسْتَ تعرفه، وروي أنه قال: لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد. انتهى.
وأورد الطحاوي في مشكل الآثار أن عمر رضي الله عنه قال : ” لَا تَنْظُرُوا إِلَى صَلَاةِ امْرِئٍ، وَلَا إِلَى صِيَامِهِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِهِ إِذَا حَدَّثَ، وَإِلَى أَمَانَتِهِ إِذَا اؤْتُمِنَ، وَإِلَى وَرَعِهِ إِذَا أَشْفَى، أَلَا إِنَّ الْأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجَّ فَادَّانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيَحْضُرْ بَيْعَ مَالِهِ، أَوْ قِسْمَةَ مَالِهِ، أَلَا إِنَّ الدَّيْنَ أَوَّلُهُ هَمٌّ وَآخِرُهُ حُزْنٌ “.
عمر إن الله لا يفضح عبده من أول مرة
وهذا من فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونظرته الثاقبة، فقد أوتي بشاب قد سرق، فقال الشاب: والله ما سرقت قبلها قط: فقال عمر: كذبت والله، ما كان الله ليسلم عبدا عند أول ذنب.
هذا الأثر أورده ابن كثير في مسند الفاروق من حديث أنس: وقال ابن كثير: إسناده صحيح.
ومما نقل عن عمر أيضا أن سارقاً رفع إليه فأمر بقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقدر الله، وهذا جواب صحيح، فقال عمر: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله، فغلبه عمر رضي الله عنه، قال ابن عثيمين معلقا: بل نقول: إننا نقطع يده بقدر الله وشرع الله، فالسارق سرق بقدر الله، لكن لم يسرق بشرع الله، ونحن نقطع يده بقدر الله وشرع الله، ولكن عمر رضي الله عنه سكت عن مسألة الشرع من أجل أن يقابل هذا المحتج بمثل حجته.
عمر وعزله للولاة بعد أربع سنين
من فقه عمر بن الخطاب وحسن سياسته ما ورد عنه في محاسبة الأمراء وعزل من تذمر الناس منه ولو كان الحق معه مثلما حصل من أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص، وكذلك ما ورد عنه من قوله : “لقد هممت ألا أدع والياً أكثر من أربع سنين، إن كان عدلاً ملّه الناس، وإن كان جائراً كفاهم من جوره أربع سنين “.
وقال ابن حجر في الفتح : مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين…
ومن فقه عمر بن الخطاب أنه ربما ولى المفضول على الفاضل لأنه ينظر إلى الأصلح للولاية لا إلى الأصلح في نفسه وكان يقول: إني لأتحرج أن استعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه. ويقول: «اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة».
وقد ورد عنه أنه سأل عن رجل أراد أن يوليه عملًا فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه. أي لا بد أن يكون بصيرا بحال الناس وحيلهم لئلا يخدعوه ويوقعوه في الشر وهو لا يدري وقد قال عمر عن نفسه لست بالخب ولا الخب يخدعني وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلم – عن الخير، وكنت أسألُه عن الشر مخافة أن يُدركني.
ولعل الأصل في توليه المفضول لجلده وقوته على أداء العمل دون تولية الفاضل ما أخرجه الإمام مسلم وأحمد عن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي. ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرَ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا.
ومعنى الضعف الوارد في الحديث هو العجز عن القيام بوظائف الولاية. قال النووي رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية.
إقرأ أيضا :5>
التوازن في شخصية أبي بكر الصديق
أبو ذر الغفاري.. لماذا يُولع الفقراء بسيرته؟
من الصحابي؟ قراءة في تاريخ المصطلح ومعناه
صفات عمر بن الخطاب (التقوى والزهد والورع)
المصادر:
1. شرح النووي على مسلم: 15/ 540.
2. موسوعة آثار الصحابة لسيد بن كسروي بن حسن: 1/ 240.
3. شرح مشكل الآثار للطحاوي: 11/73.
4. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية: 6/492.
5. أدب النفس للحكيم الترمذي ص: 79.
6. عيون الأخبار لابن قتيبة: 3/178.
7. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص:83.
8. المنتقى شرح موطأ مالك: 6/65.
9. الأموال لابن زنجويه: 2/829.
10. مسند الفاروق لابن كثير: 2/ 509.
11. شرح الأربعين النووية لابن عثيمين ص: 78.
12. الصحيح المسند من آثار الصحابة في الزهد والرقائق والأخلاق والأدب عبد الله الخليفي، ص: 60.