انتشر الحديث عن فقه الواقع ومجالاته وضرورة الإلمام به تحصيلا وتطبيقا لكل من يمارس الفقه الإسلامي في جميع مجالاته،  وتوسع البحث فيه والمناقشات التي تدعو إلى ضرورة اعتبار فقه الواقع كأحد مجالات علوم الشريعة، ومسالك الاجتهاد للوصول إلى الأحكام الشرعية، والتعقل في معانيها، واستيعاب دلالاتها، فإن فقه الواقع يعد عونا على فهم دلالات النصوص الشرعية من جانب، وبيانا لآثار تطبيق الأحكام الشرعية، والتمييز بين أعمال الشريعة وإهمالها، لذلك طلب العلماء قديما وحديثا من الفقيه أن يكون له متمكنا في درك الواقع وإحاطته بالنظر، واستنطاقه قبل البت فيه بالحكم أو الفتوى.

وقد أكد العلامة ابن القيم على ضرورة فقه الواقع تنويها منه إلى أصوله وأهميته من خلال مقولته التي تمثل تأصيلا نظريا لهذا الموضوع، فقال:  «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: ‌فهم ‌الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان – – بقوله: ” ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما ” إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي – عليه السلام – بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لأجردنك إلى استخراج الكتاب منها … »

إلى أن قال: ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله»[1].

ويقول القرافي في هذا الموضوع  وهو يتحدث عن الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي الذي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وقاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها : « وعلى هذا القانون ‌تراعى ‌الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»[2].

نجد التركيز الشديد على فهم الواقع واعتباره من كلام ابن القيم، حيث رأى أن دراسة الواقع قبل الحكم والفتوى مبدأ اعتمده الشرع وانبنى عليه الحكم، وشاهد على رسوخ فقه العالم، وأما التخلف عن الواقع ووإهماله عند الحكم فهو جهل وإجهال في الدين وضلال عن الجادة، وخروج على مبادئ الإسلام، ويدل على هذا الأصل قانون العرف الذي ذكره القرافي وهو من أهم معايير فقه الواقع والتعامل معه، والاعتراض على من يخالف الواقع ويستند كليا على المنقولات في الكتب.

معنى فقه الواقع

ولو أردنا البحث عن معنى فقه الواقع فإنه يحوم حول المصطلح الغموض بسبب الملابسات الاجتماعية والأحداث الواقعية التي يجب اعتبارها، وهي مما يمكن تصنيفها على أساس القطع والظن، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن وسائل فهم الواقع غير محددة بشكل مضبوط يسهل من خلالها القيام بتحري الواقع وفهمه لا سيما وأن هذه الوسائل تتخللها بعض العلوم الاجتماعية وغيرها التي تساهم على فهم الواقع.
وكما قال ابن بيه: “ولعل هذا الغموض الذي يلف الواقع أحيانا هو ما ألجأ الأصوليين إلى وضعه تحت عنوان “تحقيق المناط”، وما جعل أبا حامد الغزالي يقدم ميزانا خماسيا لوزن الواقع والكشف عن حقيقته… فالواقع الذي يجب فهمه والفقه فيه واستنباط علم حقيقته حسب عبارة ابن القيم، يعني الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات أو علاقة أو نسبة ليكون المحكوم به في الواقع مطابقا لتفاصيل هذا الواقع ومنطبقا عليه”[3].
ابن القيم عبر عن فقه الواقع بأنه إدراك حقيقة المسألة المفتى فيها والنظر في القرائن المتعلقة بها بالإحاطة. وهذا التعريف كان حجر الزاوية للباحثين الذين درسوا الموضوع، فكانوا عالة عليه في التعريف والتأصيل، وكل واحد منهم يعبر عن القرائن والإحاطة بعبارات مختلفة ذات مدلولات متفاوتة حسب المجال المبحوث.
وممن عرف فقه الواقع الدكتور ناصر العمر فقال: “هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة من العوامل المؤثرة في المجتمعات والقوى المهيمنة على الدول والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل”.

وعرفه الدكتور القرضاوي “بأنه مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات”.

وفقه الواقع بشكل عام يبحث عن حال الناس وقضاياهم طلبا لإيقاع الحكم أو تنزيله مراعيا هذه الأحوال. بين هذا الأمر الشاطبي حين تحدث عن المجتهد بالنظر الخاص في تحقيق المناط، وأطلق عليه العالم الرباني لأنه ينظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد[4].

كيف راعى الإسلام أحوال الناس في تشريع الأحكام؟

ومن النماذج الجديرة بالذكر أن الشارع الحكيم سبحانه وتعالى حين وضع الأحكام والتشريعات راعى أحوال الناس وحاجاتهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، فكانت الأحكام تتبع قدرات البشر وطاقاتهم، ورسخ بناء على ذلك مبدأ التيسير ورفع الحرج، كما تدرج في وضع الأحكام حسب الظروف والطبيعة المرافقة لحياة الإنسان.
في العهد المكي مثلا كان التركيز على التعاليم المتربطة بأصول العقيدة والأخلاق كالعدل والإحسان والوفاء وجملة من الأحكام العملية التي يحتاجها الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع، وكانت التشريعات قليلة في مكة قبل الهجرة النبوية، وذلك لأن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين، وكان الصراع في  هذه المرحلة مع الكفار لا يسمح بتشريعات تفصيلية جزئية، قال الأشقر: “حتى ما شرعه الله في مكة من عبادات كالصلاة والزكاة لم يكن على التفصيل والبيان الذي عرف في المدينة، فالزكاة كانت في مكة بمعنى الصدقة والإنفاق في سبيل الخير من غير أن يحدد لها جزء معين ولا نظام خاص” [5]

ومن نماذج الاحكام العملية التفصيلية الجزئية التي أنزلت في المرحلة المكية تحريم أكل الذبائح التي ذبحت بغير اسم الله، وبيان المحرمات من الحيوان الذي لا يجوز أكله، قال الله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] وقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ* وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 118-119]

 فهذه الآيات وإن تعلقت بأصول العقيدة حيث كانت العرب الجاهلية يذبحون الأنعام باسم آلهتهم، فإنها جاءت تبين الحكم الخاص بالذبح وهو تشريع ما يباح أكله من الذبائح وما يحرم، وفي جميع الأحوال فإن الحكم جاء بناء على الواقع الذي كان يعيشه العرب في الجاهلية، بل تعرضت النصوص في مواضع أخرى للممارسات الجاهلية المتعلقة بالذبيحة.

أما في المرحلة المدنية فلأن أوضاع المسلمين الأوائل تطورت وكونوا لأنفسهم دولة مستقلة وهي الدولة الإسلامية وهي التي استقرت في المدينة المنورة، ثم توسعت رقعتها بعد ذلك إلى نواح مختلفة من الجزيرة العربية، فاقتضت هذه المرحلة الجديدة تشريعات تسير عليها المسلمون في مجتمعهم الجديد، لذلك كانت التشريعات في هذه المرحلة مفصلة، مع التركيز على الأحكام العملية الجزئية. فكان التشريع الإسلامي يتطور في العهد النبوي تبعا للواقع الذي عاش فيه المسلمون السلف.   


[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 69) ط العلمية.

[2]  الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 177)

[3]  عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، تنبيه المراحع على تأصيل فقه الواقع (19).

[4] الموافقات (2/25).

[5]  تاريخ الفقه الإسلامي (41).