اقرأ أيضا:
قال أَبو هُرَيْرَة رضي الله عنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ألَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ»، وقوله -صلى الله عليه وسلم- «أسعد» تحمل معنى أنَّ كلًّا من الكافر الذي لم ينطق بالشهادة، والمنافق الذي يظنّ بلسانه دون قلبه يكون سعيدًا، والجواب بأن أفعل هنا ليست على بابها بل بمعنى سعيد الناس كقوله -تعالى-: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (الفرقان: 24)، ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد تحصل له سعادةٌ بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه -صلى الله عليه وسلم- يشفع للخلق في إراحتهم من هول الموقف، وهذه سعادة عامة للخلق، ويشفع في بعض الكفار بتخفيف العذاب، كما صحّ في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها، بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنّة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة، وأنّ أسعدهم بها المؤمن المخلص.
فدل الحديث على أن الذي ينال شفاعة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة هو المؤمن المخلص، الذي حقق الإيمان قولا وعملا وعقيدة، واطمأنت بها نفسه وسكنت، وهو السعيد الذي حصل له الفوز ببركة هذا الإيمان، ودل الحديث أيضًا أن الإيمان من أقوى أسباب السعادة ومؤشراتها، التي فيها نجاة الفرد وصلاحه في الدارين، والإيمان يجعل لحياة الفرد معنى، وينقل الفرد من حياة الضياع والتخبط إلى حياة الإنجازات والأهداف والإيجابية، وبالإيمان يمتلئ قلب العبد مشاعر إيجابية، وبه يستطيع العبد ضبط انفعالاته وقيادة نفسه إلى الجوانب الإيجابية.
إن أمر الإيمان عجيب؛ فما إن يمتلئ قلب العبد بحب الله -سبحانه-، ويعرف عظمة الخالق الذي بيده كل شيء، وله كل صفات الكمال والعظمة، حتى تسكن روح العبد، وتركن إلى خالقها، وتنقاد إليه بتصديق جازم ونفس مطيعة مطمئنة، وحينها يعلم العبد حقيقة الدنيا وضآلتها، فيتوكل على الله حق التوكل، ويجتهد بالطاعات والأعمال الصالحة التي تشبع الحاجات المعنوية التي تؤدي به إلى الرضا الروحي الشامل، فاللهم ارزقنا إيمانا صادقا مخلصا، وارزقنا سعادة لا نشقى بعدها أبدا.
قال عَلِي رضي الله عنه : كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فِي جِنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ؛ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَة»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} (الليل: 5- 6) الْآيَةَ.
وهذا الحديث فيه من الفوائد الكثيرة والجوانب العديدة، وهو أصل في الرضا بالقضاء والقدر، والإيمان بالقضاء والقدر من أهم القضايا التي تؤدي إلى سعادة الإنسان والمجتمع بأكمله، فمتى آمن الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه سكنت نفسه وسعدت ورضي بما قدر له، دون أن تكون الدنيا أكبر همه، ومن الأحاديث التي تؤكد هذه العقيدة: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»، أي: على غير الإيمان بالقضاء والقدر، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»، أي: هو شقي أو سعيد، والمراد أنه يكتب لكل أحد إمّا السعادة وإمّا الشقاوة ولا يكتبهما لواحد معًا، وهذا يؤكد أنّ طريق السعادة الحقيقية واحد، وهو الهداية والاستقامة على دين الله -سبحانه- للفوز بسعادة الدارين.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم – قصر الأمر بين حالين إما سعيد أو شقي؛ لأن طريق الهداية والاستقامة دليل السعادة، وطريق العصيان والكفر دليل الشقاء، ولو قال قائل: إن الكافر يسعد في الدنيا ويتمتع بأنواع الملذات، فكيف نحصر السعادة على الهداية وعلى المسلمين دون غيرهم؟، هنا نبين له أن السعادة الحقيقية أرقى من تحقيق الملذات المادية، أو النجاح في الحياة الاجتماعية فقط التي يمكن أن يتحصل عليها أي أحد؛ فالسعادة الحقيقية تحمل معاني سامية، ترقى بالعبد بمستويات الرضا، ونعيم الروح، وبأنواع المشاعر الإيجابية، تمتد به ابتداء من الإيمان بالله -تعالى- وتحقيقه قولا وعملا، ظاهرًا وباطنا في الحياة الدنيا، ثم تنتهي فيه للوصول إلى دار السعداء -دار القرار في جنة الخلد.
وفي تفسير قوله -تعالى-: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105)، قال السعدي -رحمه الله-: فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء هم: المؤمنون المتقون. وقال في تفسير قوله -تعالى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} (هود: 108)، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ثم أكد ذلك بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللّذة العالية، فإنّه دائم مستمرّ، غير منقطع في وقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.
وفي كلامه -رحمه الله- تأكيد أن طريق السعادة الحقيقية واحد وهو الهداية، وهو الذي يوصل للسعادة الأخروية في الجنة- دار النعيم المقيم، ولم يرد لفظ السعادة في القرآن الكريم إلا في هذين الموضعين: الأول في تحديد أصل السعادة وهو الإيمان، وأصل الشقاء وهو الكفر والعصيان، والموضع الثاني في بيان عاقبة السعداء وهي الجنة خالدين فيها.
وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، يدل على إثبات القضاء والقدر، وعلم الله بأعمال العباد قبل وقوعها، وهو ما ترجم له البخاري في صحيحه، قال الحافظ ابن حجر: «وهذا الحديث أصل لأهل السّنّة في أنّ السعادة والشقاء بتقدير الله القديم»، وقال أيضًا: «واستدلّ به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه؛ لأنّ العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر.
وجاء عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيعْرَفُ أهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُل يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أوْ لِمَا يُسَّرُ لَهُ»، أي فإن العمل يسوقه إلى ما كتب له في الأزل من سعادة أو شقاء، فإذا عمل الأعمال الصالحة فليُسَرَّ بذلك، ويرجو أن يكون من أهلها؛ لأنّ العمل الصالح علامة على أن العبد قد كتبت له السعادة كما يدل عليه الحديث.
والرضا بالقضاء والقدر من أهم مؤشرات السعادة؛ فالعبد حينما يؤمن بأن أمر الله كله خير، وأن الله رزقه الإرادة، لكن بعلمه الكامل أنه -سبحانه- يعلم ما سيقع وما سيكون؛ فسوف تسكن نفسه وتطمئن، ويحقق الرضا المنشود الذي يعد المكون الرئيس للسعادة.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين