المناظرة فن عربي أصيل عرفه العرب في جاهليتهم وليس أدل على ذلك من مناظرة النعمان لكسرى ومفاخرته له في حوار حفظته المصادر، وتواصل في عصر الرسالة فما اختير أبي بكر خليفة إلا بعد تشاور وتناظر المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وما من عمل جليل أو حقير أنجز ذلك العهد إلا وتباحث المسلمون في شأنه، وهكذا نما فن المناظرة وتطور ووضع له العلماء القواعد الضابطة ومعها تحول من كونه فنا بسيطا ليصبح “علم المناظرة” بتعريفاته ومبانيه وقواعده وآدابه.
تاريخ المناظرة وأنواعها
ارتبط تطور المناظرة بالحالة العلمية ارتباطا وثيقا، فقد كانت مجالس العلم تعقد بالمساجد والمدارس، وفي بادئ الأمر كانت العلوم في طور التأسيس ومسائلها لم تتقرر بعد، وقد بذل العلماء جهدا في سبيل ذلك لكن الأمر لم يكن يسيرا، فقد جرت بينهم مناقشات ومناظرات لحسم هذه الأمور ومن أبرزها المناظرة بين أهل الرأي وأهل الحديث والتي جرت وقائعها بين الإمام أبو حنيفة والأوزاعي، وتطور الأمر مع ظهور المذاهب الفقهية واستقرارها وتحمس كل فريق للدفاع عن رأي مذهبه فشاعت المناظرات وصارت عمادا من عمد الحياة العلمية وخاصة أن المنخرطين فيها كانوا من مؤسسي الفقه والعلوم الدينية حيث ناظر الشافعي مالك في أمر القمري وكانت سببا في أن يأذن مالك له بالإفتاء وهو في سن الرابعة عشر، ومناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن صاحب أبو حنيفة حول الدعاء في الصلاة هل يكون بالقرآن أم يصح بغيره ، وناظر الليث بن سعد مالكا في كتاب بعث به إليه، وغير ذلك كثير من المناظرات التي أسهمت في إرساء علم الفقه وتقرير مسائله.
لم تكن المناظرات وقفا على الفقه والأصول وإنما تعدته إلى علم الكلام مع ظهور المعتزلة وطرحهم القضايا العقدية، وميل الخلفاء إلى البحث عن العقائد وتعصبهم لصالح بعض الآراء كما هو الحال في مناصرة المأمون لرأي المعتزلة في قضية خلق القرآن، وضمن هذا السياق الكلامي جرت مناظرة الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي داود المعتزلي في قضية خلق القرآن، ومناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني مع القاضي عبد الجبار المعتزلي في مسألة خلق أفعال العباد.
ويلحق بهذا الصنف المناظرات التي جرت بين أتباع الفرق الإسلامية المختلفة أو بين المسلمين وأهل الملل والنحل الأخرى والتي ازدهرت منذ العصر العباسي، وجلها كان مع أهل الكتاب، ومنها مناظرة الباقلاني لعلماء النصارى في القسطنطينية، ومناظرة أبي الوليد الباجي الأندلسي لأحد الرهبان الفرنسيين، ومناظرة فخر الدين الرازي لأحد علماء النصارى بخوارزم، ومناظرات ابن تيمية للنصارى في مصر، وغيرها كثير يضيق المقام عن ذكره وهي توحي أن المسلمين عرفوا- أو بالأحرى ابتكروا- مبدأ الحوار مع الآخر، ومارسوه في مختلف الأمصار والعصور، وأن الصدام لم يكن الشكل الأوحد للعلاقة بين الطرفين كما يروج بعضهم.
وإضافة إلى تلك المناظرات التي ارتبطت بالعلوم الإسلامية والحوار مع الآخر كان هناك المناظرات اللغوية والأدبية، وكان منشؤها القرن الثاني حيث جرت المناظرة بين سيبويه والكسائي حول النحو العربي، وقد سبقتها مناظرات عدة لكنها تظل المناظرة الأشهر في تاريخ النحو العربي، وتبعها مناظرات أخرى كتلك التي جرت بين سيبويه والأخفش أو بين الفرزدق وعبد الله بن إسحاق الحضرمي.
الإطار النظري
حمل شيوع المناظرات العلماء إلى وضع إطار نظري يمكن التناظر على أساسه، والخطوة الأولى في هذا السياق كانت تعريف التناظر ووضعه ضمن خارطة العلوم الموجودة، وممن تناول ذلك ابن رشد الذي ميز بين (علم المناظرة) و(علم الخلاف والجدل) استنادا إلى أن غاية المناظرة هي إظهار الحق وبيان الصواب من الخطأ أما الجدل فغايته الإلزام، وأما تصنيف المناظرة فاعتبرها أقرب إلى دائرة العلوم الشرعية منها إلى الدائرة الفلسفية ودعم رأيه بأن الفقهاء صنفوا في الخلاف وفرعوا فيه وبنوا عليه المسائل، أما الحكماء والفلاسفة فلم يصنفوا فيه وخلص من ذلك أن “من المناسب عده من الشرعيات”.
وقد اعتمد ابن خلدون هذا التقسيم إذ يتحدث في باب (أصول الفقه وما يتفرع عنه من الجدل والخلافيات) من تاريخه عن الجدال والمناظرة -أو الخلافيات وفق تعبيره -باعتبارهما من فروع علم الأصول، وأما الخلافيات [المناظرة] فهي ما جرى من مناظرات بين أتباع المذاهب من تصحيح كل منهم لمذهب إمامه أو بين المذاهب المختلفة، وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، وهذا الصّنف من العلم يسمّى بالخلافيّات “ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد .. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه”.
وأما الجدال فقد احتيج إليه لأن باب المناظرة كان متسعا وكان كل من المتناظرين يرسل أدلته وبعضها صحيح وبعضها الآخر خاطئ، ولذلك كانت هناك حاجة لوضع قواعد وآداب يقف المتناظران عندها ولا يتخطوها، “ولذلك قيل فيه إنّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال الّتي يتوصّل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرّأي من الفقه أو غيره”، ويوضح ابن خلدون أن طرق الاستدلال انحصرت في اثنتين: طريقة البزدوي وهي تقصر على الأدلة الشرعية من النص والإجماع والقياس، وطريقة العميدي التي تتسع لأي دليل نقلي أو عقلي .
أما حاجي خليفة فهو يطلق على علم المناظرة اسم (علم آداب البحث) ويعرفه بأنه: علم يبحث في كيفية إيراد الكلام بين المتناظرين، وموضوعه: الأدلة من حيث أنها يثبت بها المدعي على الغير، والغرض منه: تحصيل ملكة طرق المناظرة، لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب، واعتبره بمنزلة علم المنطق للعلوم لأن المسائل العلمية تتزايد يوما بعد يوم، ولا يخلو علم من العلوم عن تصادم الآراء وتباين الأفكار، فلابد من قانون يٌعرف مراتب البحث، على وجه يتميز به المقبول عما هو المردود .
ويقتفي خليفة أثر من سبقوه في التمييز بين علمي المناظرة والجدل، ذاهبا إلى أن الجدل علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على الإبرام والنقض، وموضوعاته بعضها يرتبط بعلم المناظرة أو النظر وبعضها خطابي، وغايته تحصيل ملكة النقض والإبرام للآراء المخالفة، وهو بهذا المعنى وثيق الصلة بعلم المناظرة إلا أنه أخص منه، ربما لانه لا يستهدف هدم الآراء وإنما تميحصها وبيان صحيحها من باطلها.
الإطار الأخلاقي
كان دأب علمائنا صوغ ضوابط خلقية إلى جانب الضوابط النظرية حتى يستقيم البحث العلمي، اعتقادا منهم أن البحث لا يكون مجردا عن الأخلاق والقيم، وانطلاقا من هذا أورد الجويني والرازي والغزالي عددا من الشرائط الخلقية التي ينبغي للمناظر التحلى بها، ونكتفي هنا بما وضعه الغزالي في الإحياء، وبيانها كالتالي:
1- أن لا يشتغل بالتناظر في سبيل الله -وهو من فروض الكفايات-من لم يفرغ من فروض الأعيان، ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب كما يقول، وضرب له مثلا بمن يترك الصلاة في نفسه ويتجرد في تحصيل الثياب ونسجها ويقول عرضي أستر عورة من يصلي عريانا ولا يجد ثوبا.
2- أن لا يرى المناظر فرض كفاية أهم من المناظرة، فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله، وكان مثاله مثال من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء فاشتغل بتعلم الحجامة وزعم أنه من فروض الكفايات.
3- أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة.
4- أن لا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالبا فإن الصحابة رضي الله عنهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه كالفرائض.
5- أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين فإن الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر ودرك الحق وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه محقا كان أو مبطلا.
6- أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا فرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينا لا خصما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق.
7- أن لا يمنع من يناظره من الانتقال من دليل إلى دليل ومن إشكال إلى إشكال فهكذا كانت مناظرات السلف ويخرج من كلامه جميع دقائق الجدل المبتدعة.
8- أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم، والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر خوفا من ظهور الحق على ألسنتهم فيرغبون فيمن دونهم طمعا في ترويج الباطل عليهم .
المصنفات في علم المناظرة
عرفت المكتبة التراثية كثيرا من المصنفات في علم الجدل، بعضها يسرد مناظرات أصحابها وبعضها الآخر يتناول الأطر النظرية والخلقية لها، ومن أمثلة النوع الأول: “مناظرات جرت في بلاد ما وراء النهر في الحكمة والخلاف بين الإمام فخر الدين الرازي وغيره” وهي منشورة، و”محاورة المهدي مع تيماتوس” المنشورة بمجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، و”الرسالة الناصرية” للإمام الزاهدي وهي رسالة في مناظرة المسلمين للنصارى وذكر أسئلتهم وضعها الزاهدي، ووصفها حاجي خليفة بقوله “رسالة جيدة.
وأما النوع الثاني أو الكتب النظرية في علم الجدل فمنها: (الإيضاح لقوانين الاصطلاح) لابن الجوزي، وهو مرتب في خمسة أبواب: الأول في الحاجة إلى الجدل، والثاني قواعد المناظرة، والثالث: أقسام الأدلة، وأحكامها، والرابع: الاعتراض، والجواب، والخامس: الترجيحات. ومنها (المنهاج في ترتيب الحجاج) وهو في مدخل وثمانية أبواب، الأول في أقسام أدلة الشرع، والثاني في أقسام السؤال والجواب، والثالث في بيان وجوه الاعتراض على الاستدلال بالكتاب، والرابع في بيان وجوه الاعتراض على الاستدلال بالسنة، والخامس في بيان وجوه الاعتراض على الاستدلال بالإجماع، والسادس في الكلام على معقول الأصل، والسابع في الكلام على استصحاب الحال، والثامن في الترجيح.
ومنه يتبين أن القوم ركزوا في دراستهم للجدل على موضوعات: الأدلة وأقسامها، وما يستدل به وما لا يستدل، وكيفية الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وهي موضوعات فنية دقيقة تكشف عن المستوى الرفيع الذي بلغته عملية التنظير لعلم المناظرة والجدل.