في جمادي الآخرة سـنة 630هـ؛ اكتمل في بغداد –قُبيل سقوطها في أيدي المغول سنة 656هـ- بناءُ الجامعة المستنصرية، فخُصصت لها أوقاف ضخمة لتغطية الأعباء التعليمية من رواتب مدرسين وكفالة طلاب وغيرها. وقد قدّر الإمام الذهبي (ت 748هـ) تلك المخصصات بزهاء 900 ألف دينار ذهبي (أي نحو 150 مليون دولار أميركي الآن)؛ ثم قال “لا أعلم وقْفًا في الدنيا يقارب وقفَها أصلا سوى أوقاف جامع دمشق، وقد يكون وقفُها أوسع”.
وفي عصرنا؛ يعرّف معجم أوكسفورد المنحة العلمية بـأنها “مبلغ مالي يعين الطالب على مواصلة تعليمه يحصل عليه عن طريق استحقاق أو إنجاز”. وتشهد دول العالم الأول تنافسا محموما من أبنائها للحصول على المنح التعليمية لا سيما طلاب المراحل الأكاديمية، وترصد لتلك المنح مبالغ طائلة من جهات رسمية ومؤسسات أهلية؛ فمثلا يبلغ إجمالي ما تقدمه الكليات والجامعات ووزارة التعليم بالولايات المتحدة من هذه المنح العلمية الأكاديمية 46 مليار دولار سنويا.
والحقيقة أن المسلمين التفتوا مبكرا لفكرة التمويل والمنح التعليمية لدعم التفرغ للمعرفة والتدريس والتلمذة كصناعة تُرصد لها الأموال الطائلة، وغياتنا في هذا المقال أن نعرض طرفا من عناية الحضارة الإسلامية بالعلم والإنفاق نشره، متخذين من المنح العلمية –بمفهومها الحضاري الإسلامي الواسع- دليلا على هذه العناية.
بذرة العهد النبوي
بُعث النبي ﷺ في أمّةٍ أميّة وكان عدد من يحسن الكتابة ساعة مبعثه في قريش بضعة عشر رجلًا. واختلف المؤرخون في أول من تعلمها؛ فقيل إنه أمية بن حرب وعنه أخذها ابنه أبو سفيان، وعلى الأخير تعلّمها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وجماعة من قريش.
ولم يقع الكاتب على شيء محدد في تكاليف التعليم في ذلك العهد، سوى ما نعرفه من حديث مفاداة الأسرى بعد غزوة بدر، وعليه فإننا نقدر أن تكلفة التعليم الأوّليّ كانت تدور حول 400 درهم للطالب. فقد كان أقل مبلغ للمفاداة هو أربعة آلاف درهم، حيث اكتفى النبي ﷺ من بعض الأسرى بتعليم عشرة صبيان من أبناء الأنصار.
وحين طلعت شمس الإسلام؛ جاء القرآن الكريم بتفضيل أهل العلم على من سواهم في قوله تعالي: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”، ووردت أحاديث نبوية كثيرة في فضل طلب العلم والتعليم، فكان يحض أصحابه –خاصة من “أهل الصُّفة” الفقراء- على التعلم، ويفرّغهم لاكتسابه حيث كان يتولى تعليمهم بنفسه، ففي حديث أنس بن مالك أن النبي ﷺ كان “يقرئ أصحاب الصُّفة. قال أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ) في ‘حلية الأولياء‘: “كان شغلهم تفهم الكتاب وتعلمه”.
وكان عليه الصلاة والسلام يجعلهم مصرفًا للزكاة والصدقات والهدايا باعتبارهم “أضياف الإسلام”، وخصص لهم حصصا غذائية يومية مقدارها “مدٌّ من تمر بين رجلين” (المدّ النبوي يساوي نحو نصف كيلوغرام)؛ كما في حديث الطبراني (ت 360هـ) عن طلحة بن عمرو النضري (ض).
كان عدد أهل الصفة يقدّر بسبعين رجلا، وقد ذكر منهم أبو نعيم 52 اسمًا؛ بينهم عدد من ذوي المكانة العلميّة الكبيرة مثل أبي هريرة وسلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبي ذر الغفاري، وكل هؤلاء من كبار علماء الصحابة وفقهائهم الذين كان الناس يفزعون إليهم في التعلّم والفتيا أيام الصحابة ومَن بعدهم.
رعاية مبكرة للمواهب
انقضى العصر النبوي؛ وسرعان ما بدأ تقليد المنح العلمية يشيع في الثقافة الإسلامية ، فعرف المجتمع الإسلامي تقديم المنح الشخصيّة لرعاية موهبة خاصة يلحظها المانحُ في الممنوح له كتعدّد اللغات مثلا.
فقد جاء عند الإمام الذهبي في ترجمته لأبي جمرة الضُّبَعي قول الأخير: “كنت أقعد مع ابن عباس وكان يجلسني معه على سريره، فقال لي: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي، فأقمت معه شهرين”. وكان أبو جمرة هذا يتولى الترجمة الفورية لمجالس ابن عباس العلمية لمن يتكلم الفارسية من حاضريها. وفعْلُ ابن عباس هذا قال الحافظ ابن حجر –في ‘فتح الباري‘- إنه “استنبط منه ]بعض العلماء[… جواز أخذ الأجرة على التعليم”.
وفي العهود اللاحقة؛ نلاحظ أنه لو لم تكفِ المنحُ العلمية مؤسسي المذاهب الفقهية في الإسلام –وهم ما زالوا شبابا- همّ الرزق لاشتغلوا بتحصيله عن الإمامة في العلم، ولما قامت ربما مذاهبهم على النحو الذي عرفناه من الثراء العلمي والرسوخ التاريخي. فهذا الإمام أبو حنيفة -صاحب المذهب الحنفي وكان تاجرا- يلمس من تلميذه أبي يوسف نبوغًا واستعدادًا لحمل علمه، فيخصه بمنحة علميّة ويفرّغه للطلب.
فحين أجبرت ظروفُ الفقرِ وحاجةُ الأهلِ الشابَّ أبا يوسف على التوقف عن طلب الحديث والفقه على شيخه؛ تفقد الإمام أبو حنيفة حاله حتى علم سبب انقطاعه عن مجلسه، فأهداه “صُرّة.. فيها مئة درهم”، ثم خاطبه قائلا: “الْزِمِ الحلقةَ، وإذا نفدت هذه (الصّرة) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مئة أخرى، ثم كان يتعاهدني… حتى استغنيتُ وتمولتُ”. وبسبب هذه الرعاية من الشيخ الإمام؛ أصبح أبو يوسف بعد ذلك من الأركان التي قامت عليها مدرسة شيخه الفقهية فأخذ الناس عنه مذهبه.
وهذا الإمام الشافعي ينشأ فقيرا فلا يجد ما يؤدي به رسوم التعليم الأوّلي التي يطلبها معلم الصبيان، فيضطر للعمل مساعدا لأستاذه ليحصل على “منحة” في شكل إعفائه من الرسوم، قال أبو بكر الحُميدي (ت 219هـ) وكان تلميذا للشافعي وشيخا للإمام البخاري: سمعت الشافعي يقول: “كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه”.
وفي شبابه؛ التحق الشافعي بحلقة محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) في بغداد، ورأى محمدٌ نبوغَ الشافعي فرغب في أن يلازمه، فما زال يمنحه من ماله ويزيد له في العطاء حتى أخذ عنه علمًا كثيرًا وكتبَ عنه “حِمْلَ بعير”. ونقل الذهبي عن أبي عُبيد الهروي (ت 224هـ) قوله: “رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن وقد دفع إليه خمسين دينارا، وقد كان قبل ذلك دفع إليه خمسين درهما، وقال: إن اشتهيت العلم فالْزم”.
التأسيس الفقهي للمنح
تعاقبت القرون الخيّرة على هذه العناية بالإنفاق على طلاب العلم وكفالتهم، ورسّخت ذلك في ضمير الأمة الجمعي فتاوى الفقهاء التي بلغت به حدّ فروض الكفاية على جميع الأمة، وقضت بأنه حق واجب يؤخذ ولو بقوة السلطة؛ فقد قرر فقهاء الحنفية –على لسان أبي منصور الماتريدي (ت 333هـ)- أنه “لزم على المسلمين كفاية طالب العلم إذا خرج للطلب؛ ولو امتنعوا عن كفايته يُجبرون كما يجبرون في… الزكاة إذا امتنعوا عن أدائها”، وصرحوا بجواز “نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر لطالب العلم”، مع أن الأصل منع نقلها ما دام فيهم محتاج إليها.
وقال النووي (ت 676هـ) إن طالب العلم القادر على العمل إذا اشتغل عنه “بتحصيل بعض العلوم الشرعية… حلّت له الزكاة، لأن تحصيل العلم فرض كفاية”. كما جعل العلماءُ الصرفَ على المواد التي يحتاج إليها طالب العلم -كالكتب والمقررات الدراسية ومستلزمات ذلك من حبر وورق- من مصارف الزكاة، “لأن ذلك من جملة ما يحتاجه طالب العلم فهو كنفقته”. وعمّموا في العلوم بحيث تشمل كل ما فيه “مصلحة دينه ودنياه”؛ كما يقول الإمام ابن تيمية (ت 728هـ).
هذا فضلا عن أن الفقهاء جعلوا رعاية طلاب العلم والعلماء واجبا على الدولة، وأثبتوا لهم حقا معلوما في بنود ميزانيتها؛ فقد ذكر الإمام ابن عابدين الحنفي (ت 1252هـ) في كتابه ‘رد المحتار على الدر المختار‘ أن من مصارف بيت المال كفاية العلماء، وطلاب العلم المتفرغين للعلم الشرعي. وذهب بعض العلماء إلى جواز أخذ طالب العلم الزكاة ولو كان غنيا إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته؛ كما جاء في ‘الموسوعة الفقهية‘.
وبفضل هذا التأسيس الفقهي؛ اتخذت المنح العلمية أشكالًا مختلفة، وتعددت أغراضها وأهدافها، وتنوعت الفئات التي استفادت منها من العلماء وأرباب شتى الفنون والتخصصات؛ فهذا خالد بن يزيد الأموي (ت 84هـ) يهتم بإحضار العلماء المتخصصين في تراث الأمم الأخرى وتفريغهم لترجمة كتبها، في أول مشروع علمي للترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية.
وفي ذلك يقول النديم في ‘الفهرست‘: “وعندما خطر ببال خالد الصنعة؛ أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصّح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة”.
وكذلك تنبّه إسحق الموصلي (ت 235هـ) –الذي وصفه الذهبي بأنه “الإمام العلامة الحافظ.. صاحب الموسيقى”- إلى التجربة العلميّة الثريّة لمحمد بن زياد الكوفي (المعروف بابن الأعرابي – ت 213هـ)، الذي زار بوادي العرب وأخذ عنهم اللغة؛ فكان يُجري عليه صِلاتٍ ليفرّغه لتعليم العربية وتدوين ما أخذه من أفواه الأعراب من مفرداتها الفصيحة وأساليبها الصحيحة.
المنح.. أنواع وتنافس
وقد سادت ثقافة المنح وتنوعت طرق تقديمها واختيار مستحقيها حتى صارت من أعظم أبواب البر، وصارت تؤدى من بلد إلى بلد وتتحرى فيها السرّية أحيانا؛ ففي ترجمة إبراهيم بن سعيد الرفاعي النحوي الضرير (ت 411هـ) ضربٌ متميز من المنح التعاونية بين الطلاب أنفسهم، فقد جاء وهو صبي أعمى إلى مدينة واسط بالعراق، فدخل الجامع والتحق بحلقة عبد الغفار الحُضيني (ت 366هـ)… وكان معاشُه من أهل الحلقة”.
ويقول الإمام المحدّث إبراهيم الحربي (ت 285هـ) فيما يرويه عنه ياقوت الحموي (ت 626هـ) في ‘معجم الأدباء‘: “جلست مرة على باب داري -وكان وقت مجيء الحاج من خراسان- وإذا جمّال يقود جملين عليهما حِملان رزقاً، فدفعهما إليّ وقال هذه لإبراهيم الحربي، وقد استحلفني صاحبها ألا أذكر اسمه”. وأحيانا تكون منحة الإعانة على شكل كسوة لباس، ففي سنة 831هـ وصل إلى الشيخ علاء الدين ابن البخاري من سلطان مدينة “كلبرجا -من بلاد الهند- ثلاثة آلاف شاش، ففرق منها ألفاً على الطلبة الملازمين له”.
وقد اتخذت هذه المنح أحيانا شكل جوائز نقدية تقدم لمن يدرس كتابا علميا فيحفظه ويتقنه، وقد تتفاوت الجوائز في حجمها ونوع نقدها تبعا للتباين بين المؤلفات في الأهمية العلمية والمكانة المذهبية. ومن نماذج ذلك ما أورده الذهبي من أن السلطان الملك المعظم ابن العادل الأيوبي (ت 624هـ) “كان يتعصب لمذهبه ]الحنفي[، وقد جعل لمن عرض ]كتاب[ ‘المفصل‘ مئة دينار..، ولمن عرض ‘الجامع الكبير‘ مئتيْ دينار”.
كانت رعاية طلاب العلم شرفًا يتسابق إليه الأمراء والكبراء من التجار والعلماء ومن المنتسبين إلى مختلف الملل والمذاهب؛ فمن الخلفاء والسلاطين الذين اشتهروا ببذل المنح لطلبة العلم والعلماء الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ) وابنه المأمون (ت 218هـ)، والسلطان نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ) الذي عيّن جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين بالمدن التي خضعت لحكمه، وأجرى المُرتّبات عليهم وعلى معلميهم بقدر ما يكفيهم. ومنهم صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) وأخباره في بناء المدارس كثيرة، سنورد منها طرفا لاحقا.
ومن الوزراء الذين عُرفوا بها كذلك الوزير العباسي الفتح بن خاقان (ت 247هـ) الذي كان يتعهد إمام النثر العربي أبا عثمان الجاحظ (ت 255هـ) وغيره من كبار الأدباء فيعطيهم عطاء سخيًا، حتى إنه استخلص للجاحظ من ميزانية الدولة ما يكفيه لنفقة عام كامل حتى يتفرغ للتأليف. ولما علم الوزير البغدادي أبا الحسن ابن الفرات (ت 312هـ) بحاجة طلاب الأدب إلى النفقة نثر عليهم من ماله واختصهم بنفقات.
وكان وزير الإخشيديين بمصر أبو الفضل ابن حِنْزابَة (ت 391هـ) عالما “مولعًا بالعلم واقتناء الكتب والنفقة على العلماء”؛ على حد قول الإمام الذهبي الذي وصفه بأنه “الإمام الحافظ الثقة…، وبسببه خرج الدارقطني.. إلى مصر، وأقام عنده مدة وحصل له منه مال كثير”.
علماء يكفلون نظراءهم
ومن العلماء الموسرين الذين اشتهروا بمنح طلاب العلم وإعانتهم الإمام أبو حنيفة كما تقدم في قصته مع تلميذه أبي يوسف، وكذلك إمام مصر الليث بن سعد الذي كان تاجرا فخصص راتبًا للإمام مالك بن أنس يكفل له التفرّغ العلمي لتدريس الحديث والفقه بالمدينة المنورة، كما تفعل الجامعات اليوم مع أستاذتها المنتجين حين تمدهم بما يكفيه همّ الرزق.
فقد روى الإمام الذهبي عن حرملة بن يحيى التُّجِـِيبي المصري (ت 243هـ) أنه قال: “كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمئة دينار (نحو 15 ألف دولار أميركي الآن) في السنة؛ فكتب مالك إليه في دَين عليه فبعث إليه بخمسمئة دينار”.
ومنهم إمام المالكية بتونس ابنُ أبي زيد القيرواني (ت 386هـ)، فقد ذكر أبو زيد الدباغ الأنصاري (ت 696هـ) -في كتابه ‘معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان‘- أنه كان ينفق على “طلبة العلم.. ويكسوهم ويزورهم”، ومن ذلك أنه وصل يحيى بن عبد الله المغربي حين قدم القيروان بمئة وخمسين ديناراً. كما كان يعين نظراءه من العلماء؛ فقد قيل إنه بعث إلى القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (ت 422هـ) “ألف دينار” (نحو 150 ألف دولار أميركي) لأنه كان “يعيش في بغداد في ضائقة”.
ومنهم كذلك أبو الحسن النيسابوري (ت 355هـ) الذي وصفه الذهبي في ‘تذكرة الحفاظ‘ بأنه “التاجر أحد الأئمة”، وقال إنه كان ذا “إنفاق على الطلاب”. ومنهم الخطيب البغدادي، قال عنه تاج الدين السبكي (ت 771هـ) في طبقاته: “وكان للخطيب ]البغدادي[ ثروة ظاهرة وصدقات على طلاب العلم دارّة يهب الذهب الكثير للطلبة”.
ويسجل الذهبي أن الإمام المؤرخ عز الدين ابن الأثير (ت 630هـ) “كان منزله مأوى طلبة العلم”. ومن العلماء الذين كانوا يقدمون المنح للطلبة؛ عضد الدين الإيجي (ت 756هـ) الذي كان له “مالٌ جزيلٌ وإنعامٌ على طلبة العلم”؛ كما يخبرنا السبكي في ‘طبقات الشافعية‘.
ومن الطريف أن مقدمي المنح والإعانات العلمية –وكذلك المستفيدون منها- لم يكونوا من المسلمين حصرا، بل كانوا أيضا من أبناء الحضارة الإسلامية من الأقليات الدينية؛ فهذا أمين الدولة ابن التلميذ النصراني البغدادي (ت 560هـ) -الذي انتهت إليه مهنة الطب في عصره حتى قال عنه الذهبي إنه “شيخ الطب: بقراط عصره وجالينوس زمانه”- كان ينفق على طلاب العلم والغرباء زهاء عشرين ألف دينار (نحو ثلاثة ملايين دولار أميركي). وكانت داره ملتصقة بالمدرسة النظامية في بغداد، فإذا مرض أحد علماء المدرسة استضافه في داره وعالجه وأكرمه، ثم أعطاه دينارين قبل أن يودّعه.
وكما نرى الآن في أنظمة المنح التعليمية المعاصرة؛ فإن المنحة كانت ترتبط أحيانا كثيرة بشروط معينة، فلا يستحقها الطالب أو العالم إن لم تتوفر فيه تلك الشروط. ومن ذلك أن اختلاف الديانة أو المذهب الفقهي قد يؤدي أحيانًا إلى وقف المنح العلمية إذا صدر من الممنوح ما يسيء إلى مذهب المانح.
ففي ترجمة أبي زيد البلخي في ‘معجم الأدباء‘ لياقوت الحموي (ت 626هـ) “كان الحسين بن علي المَرْوَرَّوْذِي وأخوه صعلوك يجريان عليّ صلاتٍ معلومةً دائمةً، فلما صنّفت كتابي ‘في البحث عن التأويلات‘ قطعاها عني. وكان لأبي علي الجيهانيّ جوارٍ (= مرتّبات) يدرّها عليّ، فلما أمليتُ كتاب ‘القرابين والذبائح‘ حرمنيها. وكان الحسين قرمطيًا، والجيهانيّ ثَنَويًّا”.
تفنن ومنح مشروطة
وقد بلغ تفنن المسلمين في تخصيص المنح لطلاب العلم أن أوقفوا الأموال لتوفير القرطاسيات والمكتبات المتخصصة لطلاب العلم والعلماء، خاصة أن وقف الكتب انتشر في الحضارة الإسلامية منذ وقت مبكر لإعانة طلاب العلم على التحصيل.
فقد ذكر الحموي -في ترجمة الحافظ أبي صالح النيسابوري المؤذن (ت 470هـ)- أنه كان مسؤولا عن ودائع “كتب الحديث المجموعة في الخزائن الموروثة عن المشايخ، الموقوفة على أصحاب الحديث، وأن يصونها ويتعهّد حفظها، ويتولى أوقاف المحدّثين من الحِبر والكاغد (= وَرَق الكتابة) وغير ذلك، ويقوم بتفرقتها عليهم وإيصالها إليهم”.
وكانت الكتب توقف على طلبة العلم في القبة الغربية للجامع الأموي التي بُنيت في حدود سنة 160هـ وتسمى “قبة عائشة”؛ على ما نقله الإمام ابن كثير (ت 774هـ) عن شيخه الذهبي. وقد بنى أبو القاسم الموصلي (ت 323هـ) مكتبة سماها ‘دار العلم‘ وجعل فيها كتب جميع العلوم ووقفها على طلاب العلم. وبنى السلطان السلجوقي جلال الدولة ملكشاه (ت 485هـ) “دار كُتُب وقَفها على طلاب العلم، وجمع فيها عشرة آلاف مجلد ما فيها إلا أصلٌ منسوب، منها أربعة آلاف ورقة بخط ابن مُقْلة”؛ كما أخبرنا سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) في ‘مرآة الزمان‘.
ومن اللطائف في هذا الباب ما كان يوقف من الكتب الطبية في المستشفيات، ككتاب سابور بن سهل (ت 255هـ) المسمى ‘الأقراباذين‘ (= علم صناعة الأدوية). أما مكتبة المترجم علي بن يحيى المعروف بـ”ابن المنجم” (ت 300هـ) فقد كانت تقدم خدمات إضافية مع الكتب، حيث ألحق بها صالة طعام للطلاب.
وما دمنا في ذكر الكتب؛ فثمة قصة طريفة في المنح العلمية تبيّن حسن تدبير من الأستاذ وعنايته بتلميذه، وربما تعد سبقا حضاريا لما يُعرف اليوم بصناديق أو مشاريع “الاستثمار للطلاب”؛ فلندعْ الإمام اللغوي أبا إسحاق الزَّجَّاج (ت 311هـ) بحكي لنا هذه القصة التي جرت له مع شيخه الإمام النحوي المبرّد (ت 286هـ)، حين أراد أن يقرأ عليه ‘كتاب سيبويه‘.
يقول الزجاج فيما أورده الحموي عنه: “أتيتُ أبا العباس ابن يزيد المبرد حين دخل بغداد لأقرأ عليه ‘الكتاب‘ (= كتاب سيبويه) فقال لي: ما صنعتك؟ فقلت: زجّاج، فقال لي: كم تكسب في كل يوم؟ قلت: عشرة ]دراهم[ فما دونها، قال: جئ كل يوم بنصف ما تعمل فتطرحه في هذا الصندوق، وكان عنده صندوق معمول لهذا؛ قال: فبدأت بقراءة الكتاب، وكلما جئت بشيء طرحته في الصندوق. ولما فرغت من الكتاب وختمته؛ رمى بمفتاح الصندوق إلي وقال لي: افتح وخذ ما تركتَ فيه، ففتحت وأخذت جميع ما فيه، وكان قد اجتمع شيئا كثيرا كبيرا؛ فرحم الله أبا العباس، فلقد آساني وأغناني وعلمني”.
المدارس ومأسسة المنح
ومن أشكال المنح التي شاعت في الحضارة الإسلامية بناءُ المدارس المستقلّة عن المساجد، وإجراء المنح المالية على الدارسين والمدرّسين فيها، بميزانيات أوقاف أهلية يرصدها المحسنون من أبناء المجتمع، سوى ما كانت الدول تنشئه من هذه المدارس وتموله في شتى أصقاع البلاد الإسلامية؛ فكان على أساسها اعتماد مختلف المدارس العلمية (فقهاً وحديثاً وطبًّا وفلكاً وهندسة… إلخ)، إذ كانت تقدم تعليما مجانيًا وتقدم للمنتسبين إليها مِنحاً مالية ثابتة.
وقد وَهِمَ الإمامان ابن خلّكان (ت 681هـ) والذهبي في نسبتهما إنشاء المدارس المستقلة إلى الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485هـ) وقولهما إنه أول من أسسها. وردّ على الأخير تلميذه السبكي في ترجمته لنظام الملك؛ فقال: “وشيخنا الذهبي زعم أنه أول من بنى المدارس؛ وليس كذلك، فقد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعدية بنيسابور أيضا، بناها الأمير نصر بن سبكتكين (ت 412هـ)”.
ويقال إن مدرسة نظام الملك اشتهرت لأنه أول من أجرى رواتب للمعلمين فيها حين “رغّب في العلم كل الناس وأجرى ووقف على الطلبة والمدرسين”؛ كما يقول ابن الصلاح (ت 643هـ) في ‘طبقات الفقهاء الشافعية‘، ويؤكد ذلك الذهبي بقوله إنه “رغَّب في العلم وأدرَّ على الطلبة الصِّلات”. وليست هذه الأولية دقيقةً؛ فقد ذكر باقوت الحموي أن مدرسة الإمام أبي حبّان البُستي (ت 354هـ) كانت للدارسين فيها مرتّبات.
والحقيقة أن إنشاء المدارس المستقلة عن المساجد كانت فكرة تراود خلفاء بني العباس، إذ يخبرنا المؤرخ المقريزي (ت 845هـ) في خططه أن الخليفة المعتضد بالله (ت 289هـ) -الذي ولي الخلافة 279هـ- لما أراد بناء قصره في الشماسية في بغداد، “زاد في مساحته ليبني دُورًا لأصحاب الصناعات والعلوم والمذاهب، وقرر أن يجري عليهم أرزاقًا”.
ويقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘ إن خليفة الفاطميين العزيز بالله (ت 386هـ) هو الذي جعل من الجامع الأزهر مدرسة سنة 378هـ، وذلك بإشارة من وزيره يعقوب بن كلس البغدادي (ت 380هـ) الذي طلب منه تخصيص “صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق الناضّ (= راتب نقدي)…، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة. وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا”.
وإذا كان السلطان نور الدين محمود زنكي هو أول من أسس مدرسة للحديث، وهي التي أقامها في دمشق وأوقف عليها أوقافًا كثيرة لينتفع منها مرتادوها؛ فإن السلطان صلاح الدين الأيوبي بنى عدة مدارس في القاهرة وأوقفها على أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة، كما أسس عام 588هـ المدرسة الصلاحية في القدس فكانت تدرّس العلوم الشرعية والفلك والهندسة.
وقد دُهش الرحالة الأندلسي ابن جبير (ت 614هـ) حين زار مصر من كثرة المدارس التي بناها صلاح الدين، وضخامة مخصصاتها المالية المرصودة للمدرسين والدارسين فيها صغارا وكبارا؛ فقال: “وللأيتام من الصبيان محضرة (= كُتّاب) كبيرة بالبلد، لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به، وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضاً من أغرب ما يُحدَّث به من مفاخر هذه البلاد”. ولما زار هذا الرحالةُ الفقيهُ بغداد سنة 580هـ ذكر أن فيها ثلاثين مدرسة كلها بناحيتها الشرقية فقط.
وفي مصر المملوكية؛ يقول المقريزي في كتابه ‘السلوك‘ إن السلطان برقوق (ت 801هـ) “أنشأ بالقاهر مدرسة لم يُعمَّر مثلها بالقاهرة…، وأجرى على الجميع في كل يوم الخبز النقي ولحم الضأن المطبوخ. وفي كل شهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضي والدور ونحوهما”. كما ابتنى “مكتبا يقرأ فيه الأيتام القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفا دارًّا”.
المستنصرية.. زينة الدنيا
وقد أسس الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 630هـ المدرسة المستنصرية –التي استفتحنا هذا المقال بذكرها- للمذاهب الأربعة، وكانت على شاطئ نهر دجلة بجانب قصر الخلافة، وهي مدرسة عظيمة لا نظير لها في الحسن والسعة وكثرة الأوقاف.
وقد وصفها الإمام المؤرخ ابن كثير بقوله: “فيها دار حديث وحماما ودار طبّ، وجعل لمستحقيها من الجوامك (= الرواتب) والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافا عظيمة…، ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد”. وقد أحصى المؤرخ العراقي ناجي معروف العبيدي (ت 1977م) عدد المدرسين المتخصصين في الفقه فيها، فكانت نسبة الطلاب إلى الأساتذة: أستاذا واحدا لكل 12 طالبا. وهذا دليل على جودة التعليم ورقيّه في تلك الجامعة الباذخة.
ومن أعظم المنن التي أسدتها المدرسة النظامية للمسلمين انتشالُها للصبي الذي مات عنه أبوه وعهِدَ به مع ماله إلى أحد المتصوفة، فلما نفد المال وخشي الوصي على الصبي الضياع اقترح عليه دخول فرع المدرسة النظامية في نيسابور، لتوفيرها المسكن والمطعم لطلابها، على ما يرويه السبكي في ‘الطبقات‘؛ ثم أصبح هذا الصبي -الذي دخل المدرسة هربًا من الفقر والفاقة- “حجة الإسلام”، ولم يكن سوى أبي حامد الغزالي.
ولم يكن بناء المدارس وقفا على الرجال فقط، بل إن للنساء فيه مساهمة مشهودة؛ ففي اليمن مثلا يحدثنا بهاء الدين الجندي (ت 732هـ) -في ‘كتاب السلوك في طبقات العلماء والملوك‘- أن السيد دار الدملوة بنت الملك المظفر الرسولي (ت 694هـ) بنت مدرستين إحداهما في زَبيد والأخرى في ظفار، وكذلك أوقفت أختُها دار الأسدية مدرستين في هاتين المدينتين.
لقد كانت لهذه المدارس فائدة عظيمة على العلم، إذ جعلت التعليم المتميز مشاعا بين أبناء الحضارة الإسلامية من كل المذاهب والمشارب؛ فألغت بذلك النخبوية في المجتمع واحتكار العلم على فئة دون فئة، ولم تعرف ما أصبح مشهودا لدينا اليوم من التمايز بين الجامعات العالمية، حيث ارتبطت جودة التعليم بثراء المنتسب إليها، ودونك ترتيب الجامعات الأفضل في العالم ورسوم التسجيل فيها.
ورغم شيوع هذه المدارس المجانية لدى المسلمين حتى صارت هي السمت الغالب لمؤسسات التعليم لديهم؛ فإنه من العجيب أن الأندلس -على عِظَم تحضرها الذي بلغت فيه شأوًا بعيدًا- لم تحقق فيها المدارس الوقفية الحضور الذي أحرزته في حواضر المشرق.
فتراجم أعلام الأندلس تشهد بأن التعليم لم يكن مجانيًا فيها، حتى قال مؤرخها شهاب الدين المقري (ت 1041هـ) “ليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريا (= راتباً)”. ولربما كان ذلك الإنفاق الشخصي على التعليم –بدلا من تلقّيه مجانا- أحد أسباب التميز العلمي الذي عُرف به علماءُ الأندلس حتى أفل نجمها الثاقب!!