بر الوالدين في الإسلام يأتي في صدارة الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة، لأن الله تعالى قرن حقَّهما بحقه في أكثر من آية من كتابه الكريم، قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [سورة الأنعام: 151] وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [سورة النساء: 36]

تفسير آية “وبالوالدين إحساناً”

﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾: أي أحسنوا بهما إحسانًا، وهو البرُّ مع لين الجانب.

﴿ وبذي القربى ﴾: وهو ذو القرابة، يصله ويتعطَّف عليه.

﴿ واليتامى ﴾: يرفق بهم ويُدنيهم.

﴿ والمساكين ﴾: ببذلٍ يسيرٍ أو ردٍّ جميلٍ.

﴿ وَالْجَارِ ذي القربى ﴾: وهو الذي له مع حقِّ الجوار حقُّ القرابة.

﴿ والجار الجنب ﴾: البعيد عنك في النَّسب.

﴿ والصاحب بالجنب ﴾: وهو الرَّفيق في السَّفر.

﴿ وابن السبيل ﴾: عابر الطَّريق (وقيل الضيف) يؤويه ويطعمه حتى يرحل.

﴿ وما ملكت أيمانهم ﴾: أي المماليك.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا ﴾: عظيمًا في نفسه لا يقوم بحقوق الله.

﴿ فخوراً ﴾: على عباده بما خوَّله الله من نعمته[1].

ومن الآيات القرآنية التي تأمر بالبر بالوالدين والإحسان إليهما قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14] وهذه الآية الكريمة في شكر الوالدين.

تفسير “وهنا على وهن”

قال ابن عباس: شدة بعد شدة. وقال الضحاك: ضعفًا على ضعف.

وقال مجاهد: مشقة على مشقة.

وقال الزجاج: المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة. ويقال: الْحمل ضعف، والطلق ضعف والوضع ضعف.

﴿ وَفِصَٰلُهُۥفِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾:
﴿ وَفِصالُه ﴾، أي فطامه، ﴿ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾، المرجع، قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين[2].

الإحسان للوالدين عند الكبر

قال تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾
[الإسراء: 23-24]

تفسير الآية

قوله تعالى ﴿ وَقَضى رَبُّكَ ﴾: وأمر ربك، كما قاله ابن عباس وقتادة والحسن.
قال الربيع بن أنس: وأوجب ربك.
قال مجاهد: وأوصى ربك.
وحكى عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: «وَوَصَّى رَبُّكَ».
وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافًا.

﴿ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ﴾: أي أمر بالوالدين إحسانًا برًّا بهما وعطفًا عليهما.

﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ﴾:
قرأ حمزة والكسائي بالألف على التثنية، فعلى هذا قوله: ﴿ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ﴾كلام مستأنف، كقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 71] وقوله: ﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الأنبياء: 3] وقوله: ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الأنبياء: 3] ابتداء وقرأ الباقون يبلغن على التوحيد.

﴿ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ﴾:
فيه ثلاث لغات، قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بفتح الفاء، وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين، وقرأ الباقون بكسر الفاء غير منوَّن، ومعناها كلمة كراهية.

قال أبو عبيدة: أصل التُّفِّ والأُفِّ الوسخ على الأصابع إذا فتلتها. وقيل: الأف ما يكون في المغابن من الوسخ، والتف ما يكون في الأصابع. وقيل: الأف وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار. وقيل: الأف وسخ الظفر والتف ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير.

﴿ وَلا تَنْهَرْهُمَا ﴾: ولا تزجرهما.

﴿ وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ﴾: حسنًا جميلاً لَيِّنًا.

قال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.

قال مجاهد: لا تسميهما ولا تكنهما وقل لهما يا أبتاه يا أمَّاهُ. ثم قال: في هذه الآية أيضًا إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تَتَقَذَّرْهُمَا ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانَا يميطانه عنك صغيرا.

وقال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: ﴿ فَلا تقل لهما أف ﴾ أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم…. وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ النهر: الزجر والغلظة، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ أي: لينا لطيفًا، مثل: يا أبتاه ويا أماه”.

بر الوالدين (وبالوالدين إحساناً)
رجل صالح يدعو لوالديه

بر الوالدين في السنة النبوية

وفي مشكاة النبوة المحمدية يأتي بر الوالدين قريناً للصلاة عمود الإسلام، ومتقدماً على الجهاد ذروة سنام الإسلام:

1- ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: “الصَّلاةُ علَى وقْتِها”، قلت: ثم أيٌّ؟ قالَ: “ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ”، قلتَ: ثم أيٌّ؟ قالَ: “الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ”، قالَ: حدَّثَني بهِنَّ، ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزادَنِي.

2- وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه فقال: (باب: لا يجاهد إلا بإذن الأبوين).

وروى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي فقال: أجاهد، قال: (لك أبوان)؟ قال: نعم قال: (ففيهما فجاهد).

وفي رواية مسلم: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال له: (فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني تعليقًا على هذا الحديث: يحرُمُ الجهادُ إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمينِ؛ لأن برَّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهادُ فلا إذنَ. (فتح الباري)

أمثلة من السلف الصالح على بر الوالدين

ولنا في السلف خير مثال، وأحسن مقال، نذكر جملة من مواقفهم الطيبة في معاملة الوالدين:

الحسن بن علي

فعن الزهري رحمه الله قال: “كان الحسنُ بن عليٍّ لا يأكُلُ مع أمِّه، وكان أبرَّ الناس بأمِّه. فقيلَ له في ذلك، فقال: أخافُ أن آكُلَ معها، فتسبِقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أدرِي فآكُلُه، فأكونُ قد عققتُها”.

أبو هريرة رضي الله عنه

أبو هريرة رضي الله عنه يُبصِرُ رجُلَين، فقال لأحدِهما: من هذا منك؟! فقال: إنه فلانٌ أبي، فقال: “لا تُسمِّه باسمِه، ولا تُنادِي أباكَ باسمِه”. فلا تقُل: يا فلان؛ “بل تُسمِّه بصفتِه، فتقول: يا أبِي أو يا أبتَاه”.

فاعتبر أبو هريرة رضي الله عنه هذا عقوقًا وهذا من تمام الأدب والبر.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا ابتدَرَ الخروجَ من بيتِه وقفَ على بابِ أمِّه، فقال: “السلامُ عليكِ يا أمَّاه ورحمةُ الله وبركاتُه”. فتقول: “وعليك السلامُ يا ولدِي ورحمةُ الله وبركاته”، فيقول: “رحمَكِ الله كما ربَّيتِني صغيرًا”، فتقول: “رحمَكَ الله كما برَرتَني كبيرًا”. وإذا أراد أن يدخُل صنعَ مثلَ ذلك.

رجل يماني وأبي موسى الأشعري

قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه شهد ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا يمانيًّا يطوف بالبيت حمل أمَّه وراء ظهره يقول: “إنِّي لها بعيرها المذلَّل… إن أذعرت ركابها لم أذعر”، ثم قال: “يا بن عمر، أتراني جزيتها؟” قال: «لا، ولا بزفرة واحدة». (الأدب المفرد للبخاري)

زرعة بن إبراهيم

أن رجلًا جاء إلى عمر، فقال: “إن لي أمًا بلغ بها الكبر وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها وأصرف وجهي عنها، فهل أدَّيت حقَّها؟” قال: “لا”.
قال: “أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟” فقال عمر: “إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها”. (البر لابن الجوزي)

رجل حمل أمه في الحج

وجاء رجل إلى ابن عمر، فقال: (حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها مناسك الحج أتراني جزيتها؟) قال: “لا ولا طلقة من طلقاتها. (البر والصلة لابن الجوزي)

الخليفة المأمون

قال الخليفة المأمون: لم أرَ ابنًا أبَرَّ بأبيه من الفضل بن يحيى البرمكي، بلغ مِن بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماءٍ سخن وهما في السجن، فمنعهم السجان من إدخال الحطب في ليلةٍ باردةٍ، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقمٍ كان يسخن فيه الماء، فملأه، ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائمًا وهو في يده حتى أصبح.
(المجالسة وجواهر العلم – للدِّينوري)

عبيدالله بن عمير

قال رجل لعبيدالله بن عميرٍ: “حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيتُ بها المناسك، أتُراني جزيتها؟” قال: “لا، ولا طلقة واحدة”. (البر والصلة – لابن الجوزي)

معنى البر للوالدين

البرُّ: كلمة جامعة تتناول جميع صنوف الإحسان، وكريم المعاملات، وطيِّب الأخلاق، وأن يُحسن إليهما بالمعاملة، وبالقول، وباستعمال الأدب، والخلق، وبالطاعة، وبالبعد عن العقوق.

ومن الأحاديث النبوية التي تشير إلى بر الوالدين ومكانه:

1- عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي قال: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد) رواه الترمذي.

ورواه الطبراني بلفظ: (رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما). (تحفة الأحوذي)

وقال المناوي في “فيض القدير“:

(رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد) لأنه تعالى أمر أن يطاع الأب ويكرم، فمن امتثل أمر الله فقد برَّ الله وأكرمه وعظمه فرضي عنه، ومن خالف أمره غضب عليه.
وهذا ما لم يكن الوالد فيما يرومه خارجًا عن سبيل المتقين، وإلا فرضى الرب في هذه الحالة مخالفة أمره، وهذا وعيد شديد يفيد أن العقوق كبيرة، وقد تظاهرت على ذلك النصوص.

وقوله: (رِضا الله في رِضا الوالدين) أي: إرضاء الوالدين سبيل لرضا الله عز وجل، فيعفو ويغفر له، وذلك بالإحسان إليهما، والقيام بخدمتهما، وترك عقوقهما، حتى يرضيا عن ابنهما، شريطة أن تكون الطاعة التي يتحصل بها الابن على رضا الوالدين فيما يرضي الله عز وجل لا فيما يسخطه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

والآية التي تدل على ذلك قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]

قال ابن كثير: “أي: إنْ حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: محسِنًا إليهما”.

وقال البغوي في “معالم التنزيل”: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، أي: بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ الْجَمِيلَةُ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، أي: دِينَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَى طَاعَتِي وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
قال عطاءٌ عن ابن عباسٍ: يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ، وذلك أنَّهُ حين أسلم أتاه عثمان وطلحہ والزبیر وسعد بن أبي قاص وعبد الرحمن بن عوف، فقالوا له: “قد صدقت هذا الرجل وآمنت به؟” قال: “نعم هو صادق، فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي حتى أسلموا، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر”.
قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ﴾، يعني أبو بكر، ثم ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، وقيل: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ وَأُمِّهِ، وقد مضتِ الْقِصَّةُ وقيل: الْآيَةُ عَامَّةٌ في حقِّ كافة الناس.

أحاديث صحيحة حول بر الوالدين

من الأحاديث الصحيحة التي ثبتت في معاملة الوالدين بالبر والإحسان:

في الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها قالت: “قدِمَت عليَّ أمي وهي مُشرِكةٌ في عهد رسول الله ، فاستفتيتُ رسول الله فقلتُ: إن أمي قدِمَت وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أمِّي؟! قال: “نعم، صِلِي أمَّكِ”.” (متفق عليه)

هذا في حال الشرك؛ فكيف بما دُون ذلك؟

قال ابن حجر في “فتح الباري”: “قولها رضي الله عنها: (وهي راغبة) أي في شيء تأخذه وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها، ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن”.

وقال النووي: “قدمت عليَّ أمي وهي راهبة”، وفي الرواية الثانية “راغبة” وفيها وهي مشركة، فقلت للنبي : “أفأصل أمي؟” قال: “نعم صِلي أمك”.

وقال القاضي عياض: الصحيح راغبة بلا شك، قال: قيل معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له.. وفيه جواز صلة القريب المشرك.

وقال ابن بطال: “في الحديث من الفقه أنه أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، وأن للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها”.

عقوبة عقوق الوالدين

وإن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، وجريرة توجب غضب الله وسخطه وعذابه، لهذا ثبت النهي عن عقوق الوالدين والتحذير عنه في أحاديث نبوية منها:

1- حديث أبي بكرة رضي الله عنه:
قال رسول الله : “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟” قلنا: “بلى يا رسول الله”، قال: “الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور”، فما زال يكررها حتى قلنا: “ليته سكت”. (متفق عليه)

قالابن الصلاح رحمه الله:
“العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه، تأذيا ليس بالهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة”. (فتاوى ابن الصلاح 1/201)

ونقل العيني عن تقي الدين السبكي:
“إن ضابط العقوق إيذاؤهما بأي نوع كان من أنواع الأذى، قل أو كثر، نهيًا عنه أو لم ينهيا، أو يخالفهما فيما يأمران أو ينهيان، بشرط انتفاء المعصية في الكل”. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري 22/86)

وقال الحافظ ابن حجر: “والعقوق … المراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده، من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد”. (فتح الباري 10/406)

وتعنت الوالد يعني أن يأمر ابنه بشيء لا يحتاجه، ولا مصلحة له فيه، أو نحو ذلك، فلا يجب على الولد طاعته حينئذ، وإذا تأذى الوالد حينئذ: لم يكن الولد عاقا.

ولهذا قال ابن حجر الهيتمي: “وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه: يتعين على الولد امتثال أمره، إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره”.
“ومحله أيضا حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل؛ لأني أقيد حدّ بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين، بما إذا كان قد يُعذر عرفا بتأذيه به”.

أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به، لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق، وحِدَّة حمق، وقِلَّة عقل، فلا أثر لذلك التأذي، وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به، ولم يقولوا به”. (فتاوى الفقهية الكبرى 2/128)

وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن البر والعقوق، فقال:
قال: “البر أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به ما لم يأمراك بمعصية الله، والعقوق أن تهجرهما وتحرمهما”. (أخرجه الحسين بن حرب في البر والصلة 10)

2- حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
عن النبي قال: “إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ” (متفق عليه)

حكم (عقوق الأمهات) حرام، وهو من الكبائر بإجماع العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عده من الكبائر، وكذلك عقوق الآباء من الكبائر، وإنما اقتصر هنا على الأمهات لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء.

ولهذا قال حين قال له السائل: من أبر؟ قال: (أمك ثم أمك) ثلاثًا ثم قال في الرابعة: “ثم أباك”.
ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات، ويطمع الأولاد فيهن، وقد سبق بيان حقيقة العقوق، وما يتعلق به في كتاب الإيمان.
(شرح النووي على مسلم 12/357)

3- حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
قال رسول الله : “(ثلاثٌ لا يدخلون الجنةَ ولا ينظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ العاقُّ والدَيه والمرأةُ المترجلةُ المتشبهةُ بالرجالِ والديوثُ وثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ العاقُّ بوالدَيه والمدمنُ الخمرَ والمنانُ بما أعطى)” (أخرجه النسائي وأحمد واللفظ له)

وإن كبائر الذنوب تجعل العبد على مشارف غضب الله وعقابه وتكون سببًا في عدم دخوله الجنة، إنْ لم يتب منها قبل موته، وفي هذا الحديث يذكر النبي بعض تلك الكبائر والعقاب الشديد لفاعلها وذكر منها “عقوق الوالدين” بأي صورة من الصور.

4- حديث طيسلة عن ابن عمر رضي الله عنهما:
قال: “بكاء الوالدين من العقوق والكبائر”. (رواه البخاري في الأدب المفرد)

فقد جاء رجل إلى رسولِ الله صلَى الله عليه وسلم فقال جِئتُ أُبَايِعُك علَى الهِجرةِ وتركتُ أبويَّ يبكِيانِ فقال: (ارجِع إليهِما فأضْحِكْهُما كما أبكيْتَهُما). (أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد باختلاف يسير).

وفي الحديث: الحث على إكرام الوالدين وإدخال السرور عليهما، وطاعتهما في المعروف. فعلى من ابتلي بعقوق الوالدين أن يبادر بالتوبة النصوح، قبل أن يندم حين لا ينفع الندم.

الخاتمة

بر الوالدين ليس مجرد واجب ديني، بل هو مفتاح لراحة النفس وسعادة الأسرة. في ظل العناية بهما، يتحقق رضا الله ويكتب للمرء حسن الخاتمة. لنغتنم هذا الباب العظيم، ولنكن عونًا وسندًا لمن كانوا سببًا في وجودنا ورعايتنا منذ الطفولة.